مقدورنا سماع عبارات عدم تصديق تتردد في مختلف العواصم العالمية من واشنطن للندن، ومن برلين لأنقرة وما وراءها، فحواها: كيف يستطيع فلاديمير بوتين الذي يقود دولة ذات اقتصاد متدهور، وقوات مسلحة من الدرجة الثانية، التحكم في رسم مسار الأحداث الجيوبوليتيكية على هذا النحو؟ فالشيء الجلي سواء تعلق الأمر بأوكرانيا أو بسوريا هو أن الرئيس الروسي، هو صاحب اليد العليا دائماً. بوتين يستطيع كل ذلك لأنه يستخدم ما بحوزته من أوراق – وهو قليل بالمناسبة- بمهارة استثنائية، ويعرف تماماً ما يريد فعله، فهو لا يسعى لتحقيق الاستقرار في سوريا، وفقاً لتعريفنا لمعنى الاستقرار، فكل ما يقوم به هناك هو من أجل الدفاع عن مصالح روسيا، من خلال السعي لإبقاء بشار الأسد في السلطة.
والمسألة في هذا السياق لا تتعلق بـ«داعش»، لأن أي منظمة تعارض المصالح الروسية تعتبر إرهابية في نظر موسكو. لقد رأينا هذا السلوك من قبل في أوكرانيا، وها نحن نراه مرة أخرى على نحو أكثر عدوانية، في صورة قصف للقاذفات، وضربات بالصواريخ الباليستية في سوريا. وبوتين ليس بالرجل العاطفي بحال، لأنه لو أحس في أي لحظة أن الأسد قد تحول لعبء، فسوف يتحول بكل يسر إلى بديل آخر يكون مقبولاً لديه، ولكنه، ومعه الإيرانيون، يعتقدون الآن أنه بمقدورهم إنقاذ الأسد.
أوباما، ووزير خارجيته يقولان إنه ليس هناك حل عسكري للأزمة في سوريا.. وهو قول صحيح تماماً، ولكن علينا إدراك أن موسكو تفهم جيداً أن الدبلوماسية تتبع الحقائق على الأرض، وليس العكس، وأن ما تقوم به هي وإيران في الوقت الراهن هو خلق حقائق مواتيه لهم على الأرض، يمكن لهم استخدامها لصالحهم، حين يحين أوان المفاوضات، لذلك عندما تستوفي العمليات العسكرية الحالية أغراضها، علينا أن نتوقع سماع مقترح من موسكو يعكس مصالحها في سوريا، ويشمل تأمين قاعدتها العسكرية في طرطوس.
يجب علينا بعد ذلك ألا ننسى أن تعريف موسكو للنجاح يختلف عن تعريفنا له: فمصلحة ومصير السكان في سوريا، لا يمثلان موضوعاً ذا شأن بالنسبة لها. أما مشكلة اللاجئين الذين يفرون من الجحيم في مناطق القتال فهي مشكلة أوروبية. أما تفاقم الطائفية فهذا هو حال الشرق الأوسط دائماً. وضرب الأسد للسكان بالبراميل المتفجرة واستخدام المواد الكيماوية ضدهم وهي المواد المحظورة بموجب اتفاق فاوضت موسكو فيه، أمر سيئ للغاية، ولكن ماذا بعد!
إن تحرك بوتين داخل سوريا في جوهره نوع قديم من سياسات القوة يهدف إلى تحقيق فوائد داخلية، ولكن لا يتعين علينا القول، مع ذلك، إنه يقوم بتصدير مشاكله الداخلية، لأن الحقيقة أن السياسات الروسية الداخلية والخارجية كانت دائمة مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً، بمعنى أن روسيا تشعر بالقوة في الداخل عندما تكون قوية في الخارج. وهذا تحديداً هو نوع الدعاية الذي يبيعه بوتين لشعبه الذي يبدي استعداداً لشرائه، على الأقل في الوقت الراهن.
أيضاً ندرك أن توبيخ بوتين بشدة بشأن خياراته السيئة يبدو أيضاً خياراً ضعيفاً من جانبنا، وعلينا أن نتذكر أن آخر مرة أبدى فيها الروس ندمهم على مغامرة خارجية كانت في أفغانستان. طالما أن الأمر يبدو لى هذا النحو.. فما الذي نستطيع عمله؟
أولاً، علينا رفض الحجة القائلة إن بوتين يتصرف كرد فعل على حالة الاضطراب والفوضى السائدة في العالم حالياً، وأن ما يقوم به في الوقت الراهن يهدف إلى المحافظة على منظومة الدولة في الشرق الأوسط. فما قام به بوتين في حقيقته، هو محاولة لملء الفراغ الناشئ عن التردد الأميركي في الاشتباك مع الأوضاع في دول مثل ليبيا، وترددها في استكمال مهمتها في العراق.
ثانياً، يتعين علينا أيضاً خلق حقائقنا الخاصة على الأرض، من خلال فرض منطقة حظر طيران، وإقامة ملاذات آمنة للسكان. باختصار: يتعين علينا خلق توازن عسكري أفضل على الأرض، إذا كنا نريد التوصل لحل سياسي مقبول لنا ولحلفائنا.
ثالثاً، علينا العمل على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتلافي وقوع صدام بين أنشطتنا العسكرية وأنشطة الروس في سوريا. هذا أمر غير مستساغ في الحقيقة، وما كان علينا أبداً أن نوجد في مكان يحذرنا الروس فيه بالابتعاد عن طريقهم، ولكننا مع ذلك يجب علينا أن نفعل ما بوسعنا من أجل عدم وقوع حادث بيننا وبينهم. ويفترض أن بوتين نفسه يشاركنا القلق حيال هذا الأمر.
رابعاً وأخيراً، نحن بحاجة للنظر لبوتين على ما هو عليه بالفعل. والتوقف عن القول إننا بحاجة لفهم الدوافع الروسية بشكل أفضل، لأن الروس يعرفون أهدافهم جيداً، وهي تتمثل باختصار في تأمين مصالحهم في الشرق الأوسط بأي وسيلة كانت، فهل هناك شيء غير واضح بشأن ذلك؟
كونداليزا رايس
شارك في كتابة المقال وزير الدفاع الأميركي من 2006-2011 “روبرت جيتس”
نقلا عن المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية