وضعت إجراءات الرئيس التونسي في 25 تموز/يوليو الماضي البلاد في استعصاء كبير إثر تعليقه أدوار الحكومة والبرلمان والقضاء، ومع مرور أكثر من شهرين على تلك الإجراءات أضحى واضحا للكثيرين، بمن فيهم كثير ممن أيدوا حركة سعيد، أن «الخطر الداهم» الذي يتهدد البلاد، وهو العذر الذي استخدمه الرئيس التونسي في تأويل مجتزأ للفقرة 80 من الدستور، صار إعادة سعيد تأسيس نظام دكتاتوري في تونس.
يمكن اعتبار تعيين سعيد لنجلاء بودن رمضان، رئيسة للحكومة، كنوع من التراجع عن الرغبة الواضحة لدى الرئيس لتركيز سلطات مطلقة بين يديه، كما يمكن اعتباره نوعا من التكتيك الذي يخلط الأوراق في الوقت نفسه، الذي يستخدم مسألة تعيين أول امرأة كرئيسة حكومة للبلاد، كي يتجاهل قضية أن تعيين بودن جاء بقرار يتابع «التدابير الاستثنائية» التي بدأت منذ حركته الانقلابية، والذي يلغي بموجبه هيئة مراقبة دستورية القوانين، ويمنحه حق إصدار القوانين والتشريعات بمراسيم رئاسية.
جاء تعيين نجلاء بودن رمضان كنتيجة للمرسوم الرئاسي رقم 117 الآنف الذكر، وإذا كان تسلم امرأة منصب رئاسة الحكومة في تونس للمرة الأولى، أمرا تاريخيا و«استثنائيا» فإن مجيئه بقرار من الرئيس، المنهمك في مراكمة صلاحيات مطلقة، يجعل الأمر أقرب لهدية من الذكورة السياسية الفائضة، أكثر منه نتيجة لدمقرطة المجتمع والنزوع الاجتماعي الطبيعي لتمكين المرأة والاستفادة من قدرات النساء القيادية، على شكل ما جرى في بلدان أخرى، مع تولي سانا مارين رئاسة الحكومة في فنلندا وتسليمها مراكز رئيسية فيها لنساء، وما جرى الشهر الماضي في ألبانيا مع تشكيل حكومة أغلبها من النساء أيضا، وكذلك ما جرى في حكومة بيدرو سانشيث الاسبانية عام 2018.
لقد شهد العالم الإسلامي رئيسات حكومة عديدات مثل بينظير بوتو، التي تولت رئاسة الوزراء في باكستان عام 1988، ثم عام 1993، وخالدة ضياء الرحمن التي تولت الحكم عام 1991، وكانت ثاني امرأة مسلمة تتولى هذا المنصب في حكومة ديمقراطية، وكذلك شيخة حسينة واجد، التي تولت الحكم بالتناوب مع خالدة ضياء عام 1991، وهي رئيسة وزراء بنغلادش الحالية، من دون أن ننسى حليمة يعقوب، التي هي الرئيسة الحالية لسنغافورة، وكانت رئيسة البرلمان منذ عام 2013.
يشير تصفح سير السيدات المذكورات إلى أنهن صعدن إلى رئاسة السلطة التنفيذية في بلدانهن عبر طرق مليئة بالمصاعب السياسية، ومن خلال نضالات ديمقراطية ضد أنظمة دكتاتورية وذكورية وزعماء طغاة، فبوتو عادت إلى بلادها قبيل الانقلاب الذي قاده الجنرال ضياء الحق حيث تعرضت للاعتقال والنفي، وقد وصلت إلى رئاسة الحكومة عبر انتخابات عامة، لكنها اغتيلت عام 2007. ساهمت خالدة ضياء أيضا في قيادة بلادها نحو الديمقراطية وإسقاط نظام الجنرال حسين محمد إرشاد عام 1990، ونجحت في انتخابات عامة في العام اللاحق، وتمكنت الوصول إلى رئاسة الحكومة عام 2001، كما أن نظيرتها، وخصمها السياسي، الشيخة حسينة أصبحت رئيسة وزراء عام 1966 عبر انتخابات تشريعية.
تبدو المقارنة، بين هؤلاء السياسيات ورئيسة حكومة تونس المكلفة فاقعة لأن السيدات المذكورات ناضلن ضد أنظمة دكتاتورية ولم يجئن بمراسيم رئاسية، ولم يكن ممكنا «تعيينهن» لتبرير «تدابير استثنائية» ونقض الأسس الديمقراطية المتعارف عليها في العالم.
كل ما فعله سعيد، حتى الآن، يصب، للأسف، في باب تعزيز نفوذه، ولا نتوقع أبدا، أن يسمح رئيس بهذه المواصفات لرئيس وزراء، سواء كان رجلا أو امرأة، أن ينفذ مهامه الدستورية، لأن الدستور، أصبح بعد تدابير الرئيس الاستثنائية، نصا انتقائيا يتم التمثيل والتنكيل به، كما حصل مع باقي مؤسسات الشرعية التونسية الأخرى، وفي بلد لم يعد فيه للنواب والقضاة حصانة لن يكون لرئيسة الوزراء أيضا حصانة وسيقتصر دورها الشكلي على إشغال الرأي العام المحلي والعالمي بكونها امرأة، ودورها العملي على تنفيذ أوامر الرئيس.
القدس العربي