فشل القيادة المركزية يبعث برسائل عن بداية تفكك الإمبراطورية الأميركية

فشل القيادة المركزية يبعث برسائل عن بداية تفكك الإمبراطورية الأميركية

اعتراف وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مؤخرا بارتكاب خطأ فادح في توجيه ضربة بطائرة دون طيار في العاصمة الأفغانية يفتح الباب أمام التساؤلات عن جدوى وجود القيادة المركزية التي يقودها حاليا الجنرال كينيث ماكنزي والتي تتزايد الدعوات إلى إلغائها وإيجاد وسائل بديلة في الشرق الأوسط.

واشنطن- يستمر الجدل في الولايات المتحدة في تفسير الهزيمة التي تكبدها الجيش الأميركي في أفغانستان وسط ورود أخبار جديدة سيئة بشأن عملية الانسحاب الفوضوية وسوء إدارة العاصمة كابول.

وكتبت صحيفة “واشنطن بوست” في إطلاق لصافرة الكارثة التي بلغت ذروتها “الجيش الأميركي يعترف بـ’خطإ فادح’ في ضربة بطائرة دون طيار في كابول أسفرت عن مقتل 10 أفغان”.

وفي أعقاب الهجوم الإرهابي الذي وقع في السادس والعشرين من أغسطس خارج مطار حامد كرزاي الدولي والذي أودى بحياة 13 جنديا أميركيا وعشرات المارة الأفغان، شرعت القوات الأميركية في استباق أيّ تكرار لتلك العمليات.

وأدت الجهود المبذولة لمنع المزيد من الخسائر الأميركية إلى مقتل أبرياء، بمن فيهم سبعة أطفال أفغان. وكان مصطلح “الخطأ الفادح” هو ما اختاره وزير الدفاع لويد أوستن لوصف سقوط الضحايا.

أندرو باسيفيتش: الخطأ الفادح الأول هو إنشاء القيادة المركزية الأميركية

ولم تكن النتيجة هي ما كان يهدف إليه الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم). واعترف ماكنزي بأنه “مسؤول بالكامل عن هذا الهجوم ونتائجه المأساوية”. وذهب جنرال المارينز ذو الأربع نجوم إلى أبعد من ذلك. وقدم “تعازيه الحارة لأسر القتلى وأصدقائهم” في بيان مسجل بالفيديو.

ومن السهل فهم شعور ماكنزي بالندم. فمن منا لم يكن ليشعر بالفزع من أن مثل هذا الخطأ الفادح يمثل نهاية حرب عشرين عاما فاشلة؟ وبينما كان العم سام يعرج نحو الخروج، على أمل المغادرة مع قدر ضئيل من الكرامة، يبدو أن الحظ نفسه وجه ضربة وإهانة أخيرة لأعظم جيش على هذا الكوكب.

ولكن في هذا السياق بالذات، ما الذي تعنيه عبارة “المسؤولية الكاملة”؟ هل ينبغي أن يدفع اعتراف ماكنزي به إلى تقديم استقالته؟ هل يُطرد؟ هل يكفي عزله للتعويض عن هؤلاء الأطفال السبعة القتلى؟

ومع ذلك يصعب تخيل أن الأفغان ينتبهون إلى مشاعر الجنرال المعلنة أو مصيره في هذا الصدد بالنظر إلى الأحداث الأخيرة في بلدهم. أما بالنسبة إلى الشعب الأميركي، فقد تجاوز معظمه الأمر. حيث بقيت أفغانستان حالة من الماضي. ويرى مراقبون أن المشكل لا يكمن فقط في هذا “الخطأ الفادح” الذي له عواقب كبيرة بل في القيادة المركزية ذاتها.

وأنشأ القيادة رونالد ريغان في 1983، وهي حاليا واحدة من 11 من “الفروع القتالية” للبنتاغون تمتد إلى جميع أنحاء العالم، حتى إلى ما وراء الفضاء الخارجي والفضاء الإلكتروني.

وتشمل منطقة مسؤولية القيادة المركزية 20 دولة تمتد عبر الشرق الأوسط الكبير (وأصبحت تشمل إسرائيل مؤخرا). ويوضح موقع القيادة على الإنترنت التفاصيل “أربعة ملايين ميل مربع يسكنها أكثر من 560 مليون شخص من 25 مجموعة عرقية تلتزم بالعديد من التقاليد الدينية وتتحدث 20 لغة إلى جانب مجموعة من اللهجات المحلية”. ولهذا الفرع، الذي يبقى واحدا من 11، أبعاد إمبراطورية مثيرة للإعجاب.

ووفقا لبيان مهمة القيادة، فإنها “توجه العمليات والأنشطة العسكرية مع الحلفاء والشركاء وتمكّنها لزيادة الأمن والاستقرار الإقليميين لدعم المصالح الأميركية الدائمة” في جميع أنحاء تلك المنطقة الشاسعة.

ومع ذلك، ففي حين أن الأمن والاستقرار قد يصفان التطلعات السامية للقيادة المركزية الأميركية، إلا أن هدفها الحقيقي مختلف تماما. وهو في الواقع تأكيد للصدارة الأميركية.

وتوجد القيادة المركزية الأميركية لإثبات الضرورة الدائمة لـ”القيادة” الأميركية العالمية، والتي يُعبّر عنها بعبارات عسكرية مباشرة من خلال الالتزامات الأمنية، وشبكة واسعة من القواعد الأجنبية، وخطط وقدرات الطوارئ، واستعراض العضلات، وإمكانية حاضرة دائما لما يشير إليه البنتاغون بشكل مراوغ بـ”الفعل الحركي”.

وفي العقود الأخيرة، حظيت هذه القيادة المقاتلة عينها باهتمام أكثر من أي قيادة أخرى، ولسبب وجيه. وتحدد منطقة مجال المسؤولية الخاصة بها الساحة التي كانت فيها الأسبقية الأميركية موضع نزاع شديد. وضمن الحدود الواسعة للقيادة المركزية الأميركية، يتحدّد مصير الإمبريالية الأميركية بعد الحرب الباردة. وربما يكون قد تحدّد بالفعل.

ويرى أندرو باسيفيتش رئيس معهد “كوينسي لفن الحكم المسؤول” أنه قد ينشر مؤرخا طموحا ربما بعد عقود من الآن نقدا لتاريخ المركزية الأميركية خلال هذه الحقبة، لكنّ هناك شيئا وحيدا مؤكدا. أيّا كان ما يقرره الكاتب لعنونة كتابه، فلن يحتوي على عبارة الأمان والاستقرار.. ويعد احتوائه على بعض الإشارات إلى التراجع والسقوط احتمالا واضحا.. حيث أن القيادة المركزية الأميركية هي المكان الذي بدأت فيه الإمبراطورية الأميركية في التفكك”.

شبيهة إدسل

مصطلح الخطأ الفادح هو ما اختاره وزير الدفاع لويد أوستن لوصف سقوط الضحايا في الغارة الأميركية في كابول

ترأس 14 جنرالا وأميرالا القيادة المركزية منذ إنشائها، 10 منهم منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، مع تعيين الجنرال ماكنزي في مارس 2019.

ويقول باسيفيتش “ليس لديّ أدنى شك على الإطلاق في أن كلا من هؤلاء الضباط ذكي، ومجتهد، ووطني، بذل قصارى جهده لإنجاز مهمة القيادة المركزية الأميركية. ولم يقترب أيّ منهم من إنجازها بخلاف أحدهم. وهو الجنرال هربرت نورمان شوارزكوف، الذي قاد القيادة المركزية الأميركية خلال حرب الخليج في 1991. وبمجرد توقف إطلاق النار في تلك الحملة القصيرة، لم يضيع شوارزكوف أي وقت في التنحي ووضع أوراق تقاعده. وثبت أن القرار كان ذكيا.. حيث تهرب من الفوضى التي أعقبت ذلك والتي حولت عملية عاصفة الصحراء إلى شيء غير الانتصار الحاسم الذي بدت عليه في البداية”.

للحظة وجيزة وُضعت إلى جانب غيتيسبيرغ في مجموعة من الانتصارات العسكرية الأميركية، اليوم، تصنف عاصفة الصحراء في معركة خليج مانيلا في 1898 التي احتُفل بها قبل نسيانها منذ فترة طويلة. صحيح أن جورج ديوي قام بعمل قصير للأسطول الإسباني هناك، فقط كما فعل شوارزكوف مع جيش صدام حسين العراقي.

ومع ذلك، فإن “الحرب الطويلة” التي أعقبت ذلك والتي أدت في النهاية إلى تهدئة الفلبين، تلقت الولايات المتحدة قيمة استراتيجية مشكوكا فيها. تم تطبيق نفس الحكم على عاصفة الصحراء. حيث لم ينتج عن تحرير الكويت التي احتلها العراق في1991 سوى القليل من الفوائد الملموسة للولايات المتحدة.

قد يكون الأمر مؤلما بالنسبة إلى قادة القيادة المركزية السابقين أن يعترفوا بأن وجود التنظيم ذاته قد تزامن مع تدهور مذهل تقريبا في الأمن والاستقرار الإقليميين في جميع أنحاء الشرق الأوسط الكبير. وقد أدى انهيار الجهود الحربية الأميركية المروع في أفغانستان بعد 20 عاما من بدايتها إلى التأكيد على هذه النقطة فقط. وسواء سارت الأمور بشكل سيء بسبب جهود الولايات المتحدة أو على الرغم منها قد يكون أمرا قابلا للنقاش.

ومع ذلك، وبغض النظر عن نوايا واشنطن أو نوايا البنتاغون، فإن الوضع في منطقة نشاط القيادة المركزية الأميركية أصبح أكثر خطورة منذ 1983.

واعتبر باسيفيتش أنه “في الواقع، فإن القيادة المركزية هي بالنسبة إلى المقاتلين في البنتاغون، ما كانت عليه فورد في الخمسينات من القرن الماضي ‘سيارة المستقبل’، إدسل في عالم السيارات. هل يمكن أن يكون هناك أيّ سؤال مفاده أنه إذا كانت القيادة المركزية الأميركية مؤسسة هادفة للربح، لكانت قد انتهت منذ فترة طويلة؟”.

لذلك، وبينما يحاول أعضاء الكونغرس ووسائل الإعلام الكشف عن جذور كارثة أفغانستان، قد يفكرون في هذا الاقتراح: ربما لا تكمن المشكلة في الجنرال ماكنزي أو أسلافه ولكن فيما كلّف هؤلاء القادة بفعله في البداية.

ويجب النظر في إمكانية أن رؤساء القيادة المركزية الأميركية كانوا منخرطين منذ البداية في مشروع غير محتمل تماما. إذا كان هذا هو الحال بالفعل، فإن الإجراء التصحيحي يجب أن يتضمن شيئا أكثر من استبدال ماكنزي بضابط مثله وفقا لباسيفيتش.

ويوضح “ببساطة، كان ‘الخطأ الفادح’ الأول هو إنشاء القيادة المركزية الأميركية وبالتالي عسكرة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير. وهناك خطوة ضرورية واضحة نحو منع المزيد من الكوارث على الطريقة الأفغانية: يجب على واشنطن ببساطة إلغاء قيادة المقاتلين هذه تماما”.

إذا كان صانعو السياسة بدءا من الرئيس جو بايدن يتوهمون أن لدى الولايات المتحدة نوعا من الالتزام “بالقيادة”، فسيتعين عليهم إعادة تصور ما تعنيه القيادة حقا

ويعتقد باسيفيتش أنه ينبغي على القيادة المركزية الأميركية أن تسلك طريق إدسل، وتحيل الشعار على التقاعد. فليمنحوا شعار “التميز المستمر” لبعض الوكالات الفيدرالية الأخرى (الخدمة البريدية؟) التي هي في حاجة ماسة إلى الإلهام. أرسل مجموعة الأوامر من اللوحات والجوائز الأخرى إلى الأرشيف الوطني ليتم فهرستها وتخزينها ونسيانها مضيفا “ليتقرر تحويل مجمع المقر الرئيسي للقيادة المركزية الأميركية، الواقع في تامبا بفلوريدا إلى شيء ذي استخدام فوري، ربما مرفق لتقييم أنماط الطقس الإقليمية المتدهورة”.

ويرى مراقبون أنه قد تتمكن الولايات المتحدة من التعايش في الشرق الأوسط الكبير بشكل جيد دون الحاجة إلى القيادة المركزية وهو ما يحتم عليها إلغاءها.

إعطاء السلام فرصة
عبّر إنشاء القيادة المركزية الأميركية عن قناعة بأن للولايات المتحدة مصالح في الخليج تستحق القتال من أجلها. ويمكن القول إنه أمر مفهوم في سياق العصر، حيث وجد الجزء الأخير من الحرب الباردة أن الاقتصاد الأميركي يعتمد على النفط المستورد. لكن هذا ثبت أنه خطأ ملحمي في تقدير الأبعاد.

لم تعد الولايات المتحدة اليوم تعتمد على النفط الأجنبي وهي تواجه حاجة ملحة لفطم نفسها تماما عن الوقود الأحفوري. لا يعني أيّ من ذلك أن واشنطن لم تعد تحتفظ بأيّ مصالح في منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأميركية.

ومع ذلك، ففي حين أن بعض المصالح لا تزال موجودة، يجب أن يكون هناك شيء واحد واضح بشكل متزايد: أنها لا تستحق القتال من أجلها. بعبارة أخرى، يجب أن يكون تأمين هذه المصالح موضوع الدبلوماسية، مع التطرق إلى العمل العسكري في الظروف القصوى فقط.

وتصف عبارات “الأمن والاستقرار الإقليميين” الواردة في بيان مهمة القيادة المركزية الأميركية هذه المصالح بدقة. ومن شأن جعل وزارة الخارجية بدلا من البنتاغون الوكالة الرائدة في متابعة هذه الأهداف أن يجلب نهجا مختلفا تماما في المقدمة.

ولفترة طويلة، اتسمت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط الكبير بسوء تقدير متهور حسب باسيفيتش الذي يوضح أنه “من الآن فصاعدا، في حقبة ما بعد القيادة المركزية الأميركية، يجب أن تكون السمات المميزة لها هي الصبر وضبط النفس”.

يرى باسيفيتش أنه “يجب على الولايات المتحدة، بدلا من اختيار طرف في النزاعات الإقليمية، أن تعيد وضع نفسها كوسيط نزيه حقيقي. وبدلا من توبيخ بعض الدول لانتهاكها حقوق الإنسان ومنح الآخرين تصريحا، يجب أن تعاملهم جميعا وفقا لمعيار مشترك. ويجب أن تستخدم نفوذها للحد من نقل الأسلحة بدلا من إغراق المنطقة بأسلحة متطورة”.

ويتابع “وبدلا من معارضة الانتشار النووي بشكل انتقائي، ينبغي أن تفعل ذلك باستمرار في جميع المجالات. وبدلا من تشتيت القوات الأميركية في جميع أنحاء المنطقة، يجب أن تقلل بشكل كبير من عدد القواعد التي تحتفظ بها هناك. وتكفي اثنتان على الأكثر: قاعدة جوية في قطر ومنشأة بحرية في البحرين”.

كما يجب على الولايات المتحدة بشكل عام خفض صورتها العسكرية الإقليمية إلى ما كانت عليه قبل إنشاء القيادة المركزية الأميركية. ينبغي أن تكون سياسة واشنطن نزع فتيل الصراعات للمضي قدما، وليس تأجيجها وبالتأكيد عدم الانضمام إليها.

أنشأ القيادة رونالد ريغان في 1983، وهي حاليا واحدة من 11 من “الفروع القتالية” للبنتاغون تمتد إلى جميع أنحاء العالم

ويعتقد باسيفيتش “أن الوصفات المقدمة هذه لا تمثل مخططا شاملا للسلام في عصرنا، وأقترح أن الوقت قد حان للتوقف عن تعزيز الفشل. ومع اعتمادها الضمني على الإكراه كتعبير افتراضي عن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير، فشلت القيادة المركزية الأميركية بشكل لا رجعة فيه”.

وإذا كان صانعو السياسة بدءا من الرئيس جو بايدن يتوهمون أن لدى الولايات المتحدة نوعا من الالتزام “بالقيادة”، فسيتعين عليهم إعادة تصور ما تعنيه القيادة حقا. وإن الدروس المستفادة من العقود الأخيرة في هذا الصدد لا لبس فيها ولا يمكن إنكارها.

لم ينجح غزو ​​ الدول واحتلالها ولا الاغتيالات والتعذيب والاحتجاز لأجل غير مسمى دون محاكمة. أما بالنسبة إلى تغيير النظام وبناء الدولة فقد تكبد كلاهما تكاليف باهظة (أكثر من 2.3 تريليون دولار للحرب الأفغانية وحدها)، بينما لم يسفر أيّ منهما عن أيّ نتائج موعودة.

ويعود “الخطأ الفادح” النهائي إلى الفترة التي أعقبت الحرب الباردة مباشرة عندما استسلمت الولايات المتحدة لشكل من أشكال التسمم الذاتي: الأوهام الإمبريالية التي يغذّيها الافتتان بالقوة العسكرية. وتقدم الفرصة الآن نفسها لتغيير المسار.

إن الاعتراف بأن سلامة الشعب الأميركي ورفاهيته لا يتطلبان الحفاظ على قيادة عسكرية أميركية إقليمية تتخيل نفسها مدعوة لتحديد مصير 560 مليون نسمة في21 دولة مختلفة، قد يوفر طريقا لاستعادة الرصانة حيث يبدأ التعافي باتخاذ تلك الخطوة الأولى.

العرب