لخصت الدكتورة عواطف عبدالرحمن أبرز أسباب ضعف الإعلام العربي منذ بداياته في العصر العثماني حتى المرحلة الراهنة، حيث بقي العامل المشترك خضوع الصحافة لهيمنة السلطة أيا كانت وإهمال احتياجات الجمهور الاتصالية.
تواجه الصحافة العربية عددا من القضايا الإشكالية المرتبطة بتحديات تاريخية ومعاصرة تتمثل في علاقتها بالسلطة بالإضافة إلى تداعيات التبعية الشاملة للغرب وتأثيرها على أدوار الإعلام العربي ومساراته وسياساته.
وتناولت الباحثة عواطف عبدالرحمن في كتابها “فجر الصحافة العربية وتحديات العصر” أبرز أشكال وصور الصراع والموالاة بين الصحافة العربية والسلطة عبر المراحل التاريخية، وترى أن هناك تباينا في هذه العلاقة فإذا كان الطابع الأجنبي قد سيطر على نشأة الصحافة في العالم العربي إلا أن نشأة الصحافة العربية تميزت بالطابع الرسمي منذ بداياتها وطوال مسيرتها ولم تنطلق حركة صدور الصحف الشعبية إلا بعد صدور دستور 1908 العثماني الذي مثل نقله نوعيه في تاريخ الصحافة العربية. ويعتبر المشرق العربي مهد الصحافة الشعبية التي يتصدرها النموذج اللبناني.
وليس مصادفة أن تتزامن التشريعات العثمانية المقيدة لحرية الصحافة مع بداية ظهور الصحافة الأهلية في العالم العربي، فالصحافة العربية نشأت أساسًا على أيدي الحكام وذلك على نقيض الصحافة الشعبية التي تعبر عن أفكار ومصالح القوى الاجتماعية العربية التي قادت حركة النضال القومي والوطني في مواجهة العثمانيين طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم ضد الأوروبيين منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الحصول على الاستقلال.
عواطف عبدالرحمن: من أبرز صور أزمة الأداء الإعلامي غلبة الطابع الدعائي على الخطاب الإعلامي الذي لا يزال يدور في فلك الحكام
وتوضح عبدالرحمن في كتابها الصادر عن دار العربي أن أزمة العقل الإعلامي تتمثل في ثلاثة تحديات رئيسية أولها تعددية الرؤى الفلسفية والنظرية في هذا الحقل المعرفي الهام.
وترى أنه على الصعيد النظري تحفل الساحة الغربية (الأوروبية والأميركية) بالعديد من التيارات والرؤى النظرية التي توجه بحوث الإعلام والاتصال، فهناك الرؤية الوظيفية البراغماتية التي سادت في الولايات المتحدة خلال أربعة عقود ومازالت مسيطرة على معظم الباحثين ودارسي الإعلام في دول الجنوب وبالأخص العالم العربي.
وتتعرض بحوث الاتصال في دول الجنوب وفي العالم العربي لأزمة مركبة تتمثل في النقل والاقتباس والتبعية للتيارات الغربية والوظيفية انطلاقًا من المقولة الملتبسة التي ترى أن العلم لا وطن له وهذه الرؤية قد تنطبق جزئيًا على العلوم الطبيعية ولكنها بالقطع لا تنطبق على العلم الاجتماعي وفروعه الذي يتأثر بالخصوصية الثقافية لكل مجتمع فضلًا عن اختلاف معدلات التطور الاجتماعي والاقتصادي والبيئي فضلا عن الأحداث التي حكمت المسيرة التاريخية لكل مجتمع وحددت خلفياته الثقافية ومنظومة القيم والأنماط السلوكية لشعوبه وجماعاته.
ويتجلى التحدي الثاني لأزمة العقل الإعلامي على الصعيد العملي في مجالي السياسات والممارسات الإعلامية في العديد من المظاهر والصور أبرزها الصراع التاريخي بين الصحافيين من ناحية والقائمين على السلطة بكافة أنواعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، ويرجع ذلك إلى التناقض الجذري بين مصالح هؤلاء المتسلطين وبين جوهر مهنة الصحافة التي تستهدف تقصي ونشر كافة صور وأشكال الفساد وسوء الإدارة والظلم الاجتماعي والقهر السياسي والجمود في تفسير النصوص الدينية، مما يصطدم غالبًا بمصالح السلطة التي لا تتوانى عن اللجوء إلى العنف المباشر الذي يصل إلى حد السجن والاغتيال والنفي من الأوطان للصحافيين.
وتبرز أيضا الفجوة بين التعليم والبحث العلمي الأكاديمي في حقل الصحافة والإعلام وبين الممارسة المهنية وضوابطها السياسية والاجتماعية وضغوطها وإغراءاتها الاقتصادية والقيود القانونية وتدخلات المؤسسات الدينية. ثم تركة التبعية وتتمثل في (القيم الإخبارية ـ المسلسلات والمنوعات والإعلانات).
وتتمحور أسباب أزمة العقل الإعلامي في العالم العربي إجمالًا في عدة جوانب أولها السيطرة التي تمارسها الحكومات العربية في مجال تنظيم وتوجيه أنشطة الاتصال والإعلام سواء في المجالات الاقتصادية (ملكية وسائل الإعلام – توفير موارد الاتصال) أو في المجالات التشريعية (قوانين المطبوعات والتشريعات الإعلامية والاتصالية المعلنة والمستترة) ومعاداتها للتعددية الفكرية والسياسية واحتكارها لمصادر المعلومات وإصرارها على مصادرة الآراء المخالفة من خلال أجهزة الرقابة المتباينة الأشكال.
وإلى جانب الضغوط والقيود التي تبالغ الحكومات العربية في استخدامها لتحجيم الأدوار التي يقوم بها الإعلاميون العرب تبرز الضغوط المهنية والإدارية داخل المؤسسات الإعلامية والصحافية والتي تؤثر بصورة سلبية على بيئة العمل الإعلامي ككل سواء ما يتعلق بمشاركة الإعلاميين في صنع القرارات ووضع السياسات الإعلامية أو مستوى الأداء المهني وعلاقات العمل أو علاقة الإعلاميين بالمصادر وبالجمهور وبالزملاء والرؤساء.
الكتاب يتناول أبرز أشكال وصور الصراع والموالاة بين الصحافة العربية والسلطة
وتشير الدراسات إلى غياب المعايير الموضوعية لقياس الأداء المهني للإعلاميين في أغلب المؤسسات الإعلامية والصحافية في العالم العربي. ولفتت عبدالرحمن إلى أن من أبرز صور أزمة الأداء الإعلامي عجز الإعلاميين العرب عن مواكبة عصر المعلومات في ممارساتهم الصحافية والإعلامية والتي تتمثل في غلبة الطابع الدعائي الإقناعي التقليدي على أسلوب الخطاب الإعلامي الذي لا يزال يدور في فلك الحكام، علاوة على تأكيد روح الانبهار بالثقافة الوافدة وإغفال الاحتياجات الاتصالية لجمهور المتلقين حيث تتعامل معهم وسائل الإعلام العربية باعتبارهم مستهلكين وليسوا مشاركين استنادًا إلى الرؤية التقليدية للإعلام التي تركز على الأسلوب الآحادي والرأسي الاتجاه.
وتؤكد في التحدي الثالث لأزمة العقل الإعلامي العربي أن الأزمة تتمثل في المواقع الهامشية التي يشغلها جمهور المتلقين حيث تتعامل معهم وسائل الإعلام باعتبارهم مستهلكين وليسوا مشاركين أو محاورين وتستند في ذلك إلى النظرة التقليدية إلى الاتصال التي تعتمد على إفراغه من محتواه كعملية اجتماعية وذلك بقصر أدواره على الوظيفة الإعلامية ذات الطابع الإقناعي الدعائي في أغلب الأحيان وذات الاتجاه الرأسي الأحادي.
وهناك العديد من المعوقات التي تحول دون حصول الجمهور على حقوقه الاتصالية وتتلخص في سيطرة الحكومات على مرافق الاتصال ومصادر المعلومات ومركزية واحتكار المعلومات وغياب التشريعات القانونية المنظمة لهذا الحقل الهام بالإضافة إلى بروز فئة المعلوقراطين وتحكمهم في إدارة وتيسير حركة المعلومات ومستوى ونوعية تدفقها من وسائل الإعلام إلى الجمهور المتلقي.
وفي النهاية يأتي دور شبكات المصالح الدولية والمحلية التي تحتكر إنتاج وتسويق التكنولوجيا الاتصالية مما يشكل مخاطر حقيقية على كافة المحاولات الجادة لتطويع تكنولوجيا الاتصال لخدمة وتلبية الاحتياجات الاتصالية للجمهور العام.
وتتساءل عبدالرحمن، ما العمل لمواجهة هذه التحديات التي تحاصر الإعلام العربي وتحول دون إسهامه بصورة إيجابية في بناء العقل العربي وتحقيق المواطنة الإعلامية الحقيقية التي تضمن كفالة الحقوق المعلوماتية لجميع المواطنين؟
وتضيف “هناك مستويان للمواجهة، المستوى الاستراتيجي ويشمل السياسات والخطط التي تتبناها الهيئات والمؤسسات القومية ومنظمات المجتمع المدني في العالم العربي حيث تسعى بجدية لوضع تصور استراتيجي شامل يتيح لها الاستفادة المثلى من منجزات الثورة التكنولوجية التي تخضع حاليًا لهيمنة الشركات المتعدية الجنسية ومجلس إدارة اقتصاد العالم وأباطرة السوق العولمية”.
بحوث الاتصال في دول الجنوب وفي العالم العربي تتعرض لأزمة مركبة تتمثل في النقل والاقتباس والتبعية للتيارات الغربية والوظيفية
ويضاف إلى ذلك ضرورة العمل على تدعيم دور المجتمع المدني في مواجهة المحاولات الدائبة من جانب الحكومات وشبكات المصالح الدولية والمحلية لتحويل العالم العربي إلى مركز للتخديم على السوق العالمية التي تسيطر عليها القيم النفعية وتحكمها قوانين العرض والطلب حيث يتحول المواطن العربي في إطارها إلى كائن استهلاكي عالمي وتتوارى سماته الحضارية وتمايزه الثقافي.
أما المستوي الإجرائي للمواجهة فهو يتضمن الأساليب والوسائل التي تتبناها الأحزاب والنقابات الإعلامية والاتحادات والمنظمات الأهلية في كل دولة عربية على حدة لتفعيل التعددية وتحويلها إلى ساحة حقيقية للتنوع السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي.
العرب