كذبة آسنة اسمها حرية الإعلام في العراق

كذبة آسنة اسمها حرية الإعلام في العراق

ثمة كذبة كبيرة بهيئة مزحة اسمها “حرية الإعلام” بصفتها بندا مضمونا في تقاليد الدولة وجزءا من ديمقراطيتها. فإذا كانت الصحافة بالعالم تعيش زمنا ليس عادلا بحقها فإنها في العراق تتحول إلى مجرد اسم بمضمون هش.

يصعب أن نجد مفهوم دولة في العراق كي نتحدث بعدها عن صحافة وفق حكمة الرجال الأقوياء الذين كتبوا الدستور الأميركي وفضلوا دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة، فحتى الذين يدافعون عن فكرة الدولة بشكل رسمي أمام وسائل الإعلام والضيوف الزائرين للعراق، يعجزون عن إيجاد مسوغ واحد أمام أنفسهم يجعلهم يصدقون وجود دولة منذ احتلال العراق عام 2003، يبدو أن هذا العجز سيبقى متصاعدا ومستمرا.

تجسدت كذبة حرية الإعلام في العراق مع التقرير الذي مس الفساد المتفاقم في البلاد بإدارة رجال دين ومرجعيات تُضْفَى عليها هالة المقدس، واشتغل عليه بجرأة وبراعة فريق صحافي من قناة الحرة يستحق الثناء والمؤازرة من الكادر الإعلامي في العراق قبل الجمهور، وليس التنكيل به والسقوط في فخ المقدس الغارق بحقيقة الفساد التي لا لبس بها.

التقرير الذي أثار ردود فعل وضجيجا حكوميّا ودينيّا أوقف عمل القناة في العراق لمدة ثلاثة أشهر، يجسد بامتياز موت المسوغ الهزيل -إن وجد- عن حرية الإعلام في العراق. فالصحافة هي الطريقة الوحيدة المتاحة للمناقشة الحرة، والتي يعلم الجميع أهميتها الآن، ولكن رجال القرون المظلمة والحكومات التي تدعمهم لن يشجعوها ولن يرحبوا بها أبدا.

الصحافيون العراقيون جزء من واقع مرير، هذا أمر صحيح، لكن لا يقبل منهم أن يصابوا بالعجز عن ربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات، وليس كما يحدث اليوم بقبولهم دور الهامش للطبقة السياسية المريضة

ليس مهما هنا التعرض لردود الفعل التي تلت عرض التقرير، لأنها جزء من العبث السياسي والديني المتواصل في البلاد، الأهمية بالنسبة إليّ تكمن في حماية الفريق الصحافي الذي أنجز هذه المادة الاستقصائية البارعة واتخاذها مثالا بالنسبة إلى جيل صحافي يتوق إلى أن يمثل الفكرة التاريخية للصحافة المقاومة لتوغل الحكومات وفسادها وهدر المال العام تحت بند المقدس.

لقد أصيب الإعلام العراقي بالوهن والارتخاء في لجة دورة القتل والترهيب المتواصلة، وكان من الصعوبة أن يجازف أي صحافي بحياته من أجل الحقيقة. ذلك ما مر به الصحافيون العراقيون أسوة ببقية العراقيين أثناء سنوات القتل على الهوية وسطوة الميليشيات الطائفية، وهم في ذلك لا يستحقون التوبيخ أو التجريح أو الملامة بقسوة، إنهم يستحقون -وفق التقويم المفرط في التفاؤل- التعاطف، لأنهم يعبرون عن عجزهم أسوة بطبقات فقيرة ومحرومة ومهمشة سائرة في طريق الخرافة في المجتمع العراقي، أليس الصحافيون جزءا من هذا المجتمع؟

هذا يفسر لنا لماذا تستمر عملية إهانة جوهر الصحافة في العراق بجعلها مجرد صدى للمايكروفونات الصارخة في المساجد والعتبات والمناسبات الدينية، وهذا يفسر لنا أيضا ماذا يعني أن يصنع فريق إعلامي عراقي برنامجا بمستوى ما عرضته قناة الحرة عن “أقانيم الفساد المقدس في العراق” لمجرد أنه مارس دورا مناطا به رافضا إدارة ظهره للمجتمع، عندما كشف للرأي العام “مؤسسات دينية لا يجرؤ على مراقبتها أحد، تتحصن خلف عقائد الناس، وتتسلح بالقباب والعمائم”.

عندما كتبت قبل سنوات عن “مقبرة الصحافي العراقي” استعنت بشهادة ممن يعيش وسط الرثاثة الإعلامية في البلاد وهو يتهكم بقوله “لا تعتقد أن وابل الرصاص الذي يطلق علينا اليوم سواء عبر وسائل الإعلام أو عبر حمم الفضائيات يمكن أن يؤثر على ما يجري”. قال دعني (أطمئنك) بأن أي محطة تلفزيونية تنتقد الحكومة والأحزاب الحاكمة وتزعم أنها ضد الفساد، لا تقوم إلا بعرض بضاعتها للبيع على الحكومة العراقية، كل هذا النقد الزائف مجرد عرض خدمات صحافية مدفوعة الأجر، وقد فهمت الحكومة الرسالة التلفزيونية التي مفادها “نقوم بمهاجمتكم كي تقوموا بعد ذلك بالإعلان لدينا لكي نبيض صفحتكم”. كان يتحدث عن دكاكين تجارية باسم محطات فضائية افتتحت في العراق منذ عام 2003 تابعة لأحزاب طائفية وميليشيات وتجار سياسة.

اليوم تبدو تلك الشهادة لا أهمية لها حيال برنامج قناة الحرة وهي تعري أقانيم الفساد المقدس. لكن كلمتي عن حاجة الصحافيين العراقيين إلى التعاطف لا التوبيخ ما زالت ماثلة من أجل ألا يفقدوا حياتهم عبثا في بلد يتخذ فيه العبث سلطة قانونية ودينية مقدسة.

الصحافيون العراقيون جزء من واقع مرير، هذا أمر صحيح، لكن لا يقبل منهم أن يصابوا بالعجز عن ربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات، وليس كما يحدث اليوم بقبولهم دور الهامش للطبقة السياسية المريضة وسطوة رجال الدين الفاسدين.

يمكن أن نفهم صلافة ووضاعة رجال الإسلام السياسي في العراق اليوم، لكن يصعب تَقَبّل أن يصبح الصحافيون هامشا لهم، ولسوء حظ العراقيين الدائم، أن الصوت المفترض أن يعلو لمنع الفساد صار شريكا في صناعة الفساد. ذلك ما تعبر عنه أصوات صحافية وقفت خاضعة للمؤسسة الدينية ضد الجهد الاستقصائي الرائع الذي بذله الفريق الإعلامي بقناة الحرة في إنتاج برنامج “الفساد المقدس في العراق”.

ليس عصيا على الفهم في العراق اليوم لماذا يتم التنكيل بفريق صحافي همه تعرية الواقع الآسن المتحصن بالمراقد المقدسة، بدلا من جعله مثالا بارعا يشجع الآخرين على إنتاج برامج أكثر جرأة.

الصحافيون العراقيون مدعوون برمتهم إلى حماية فريق قناة الحرة الشجاع والاحتفاء به بوصفه مثالا متميزا في زمن إعلامي يعيش الوهن والارتخاء حيال واقع سياسي وديني آسن ومترهل.

لطالما كنت أعيد ما يشبه الوصية المثالية التي أعلنها رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق آلن روسبيردجر بوصفها درسا يجب أن نعود إليه كلما اهتزت ثقة الجمهور بوسائل الإعلام كما يحدث في العراق اليوم “عندما يدير الصحافي ظهره للأفكار النيرة والمبتكرة والدافعة نحو رقي المجتمع، من أجل أنانية طائفية أو شخصية ضيّقة، والاكتفاء بفكرة ليس ثمة ما يمكن أن نتعلمه، فإنه سيجعل من هذا الفضاء الإعلامي الحر، مقبرة لنفسه لا يزوره فيها إلا الموتى على شاكلته”.

العرب