شهد الشهر الممتد من منتصف أغسطس إلى منتصف سبتمبر 2021 حدثين مُهمين اختبرا تماسك التحالف الغربي بين جانبيه الأمريكي والأوروبي. ففي 15 أغسطس، أعلنت الولايات المتحدة إتمام انسحابها من أفغانستان واتهم حلفاؤها الأوروبيين مسلكها بالأحادية وعدم تشاورها معهم قبل الانسحاب. وفي 15 سبتمبر، أعلنت واشنطن عن تحالف أمني جديد باسم “الأوكوس” وهي الحروف الأولى باللغة الإنجليزية من أسماء الدول الثلاث أعضاء التحالف، وهُي الولايات المُتحدة وبريطانيا وأستراليا، والذي تحصل الأخيرة بمقتضاه على عدد 12 غواصة تدار بالطاقة النووية. وبذلك، تصبح أستراليا الدولة السابعة في العالم التي تمتلك هذا النوع من الغواصات بعد أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين والهند. ومثل هذا الاتفاق تراجعاً أسترالياً عن الصفقة المماثلة التي كانت قد أبرمتها عام 2016 مع فرنسا. لذلك، أثار هذا الإعلان عاصفة من الغضب والاحتجاج في فرنسا على المُستويين الحكومي والإعلامي، ودعم موقفها عدد من الدول الأوروبية.
جاء رد الفعل الفرنسي عاصفاً وغاضباً، واستخدم الرئيس ماكرون والوزراء الفرنسيون تعبيرات مثل أن ما حدث هو “طعنة في الظهر”، وأن السلوك البريطاني اتسم بالانتهازية، وأن أستراليا انتهكت نصوص الاتفاقية التي أبرمتها مع فرنسا، وقام الرئيس باستدعاء سفيري بلاده في أمريكا وأستراليا.
أثارت هذه الواقعة أسئلة تتعلق بالعلاقة بين الحلفاء. فما هي حدود علاقات التحالف؟، وهل تتعارض مع وجود منافسة – أو حتى صراع – اقتصادية وسياسية بين الحلفاء؟ وهل يؤثر التنافس بينهم على الثقة المتبادلة بينهم؟ وكيف يمكن الإجابة على هذه الأسئلة في سياق الخلاف الفرنسي الأمريكي الراهن؟
المنظور الواقعي:
توجد نظريتان رئيسيتان في تحليل العلاقات الدولية. الأولى، هي النظرية الواقعية التي أسسها أستاذ السياسة الأمريكي هانز مورجنثاو في كتاب بعنوان “السياسة بين الأمم” الذي صدرت طبعته الأولى عام 1948. تنطلق هذه النظرية من أن كل دولة تسعى لزيادة قوتها وتعظيم مصالحها، وأن هذا يضع كل دولة بالضرورة في مواجهة الآخرين وفي حالة صراع مُحتمل معهم. ويترتب على ذلك أن التحالفات الدولية هي طريقة لتنظيم اختلاف المصالح بين الدول من خلال الحوار، والبحث عن المصالح المشتركة ووضع حدود وضوابط لاختلاف المصالح والأهداف.
ومن هذا المنظور، فإن اندلاع النزاع الفرنسي الأمريكي ارتبط بإدراك القيادة الفرنسية بتهديد مُباشر لمصالحها الاقتصادية من جانب دول حليفة، فهي خسرت صفقة كبرى لبيع غواصات تقليدية تُدار بالديزل إلى أستراليا والتي تراوحت التقديرات بشأنها ما بين 67 مليار دولار، و80 وحوالي 100 مليار دولار أمريكي، والتي كان من شأنها خلق آلاف من فرص العمل وتطوير الصناعات العسكرية البحرية الفرنسية. وأن استراليا أخَلَت ببنود الاتفاقية المبرمة بينهما، والتي تضمنت شروطاً جزائية سوف تطالب بها باريس.
وتزداد الدهشة الفرنسية من السلوك الأسترالي وتحولها لشراء غواصات تدار بالطاقة النووية من واشنطن، وذلك في ضوء أنها تقوم بتصنيع هذا النوع من الغواصات، وأنه لو كانت استراليا قد أعربت عن رغبتها في تغيير نوع الغواصات لكانت فرنسا قد وافقت على طلبها.
وترى فرنسا أن الولايات المتحدة قد أعلت من شأن مصالحها الاقتصادية والسياسية وأعطت الأولوية لهدف نفوذها المباشر في منطقة المحيطين الهندي والهادي بهدف تطويق الصين وحصار نفوذها في شرق آسيا، وذلك من دون تقدير للمصالح الفرنسية.
ومن وجه النظر الفرنسية فإن ما حدث لا يمثل خسارة تجارية وحسب، وإنما استهانة بالدور الفرنسي وبعدم تقدير واشنطن لما تقوم به باريس في حفظ الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادي (الهندوباسيفيك). ففرنسا لها وجود استعماري قديم في هذه المناطق ومازال يسكن في الجزر التابعة لها قرابة 2 مليون فرنسي، ويوجد فيها سبعة آلاف جندي.
المنظور المثالي:
والنظرية الثانية، هي النظرية المثالية التي تعود إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ومن أبرز أنصارها في القرن العشرين أستاذ السياسة الأمريكي ودرو ويسلون الذي أصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية، وتؤكد على دور المبادئ والمُثل العُليا في رسم سياسة الدول الديمقراطية، فتروج مثلاً لفكرة السلام الديمقراطي وجوهرها أن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضاً، وأنه بحكم نظمها التي تقوم على الشفافية وتعدد الآراء والتداول السلمي للسلطة، فإنها تعمل على إقرار قواعد التعاون والسلم الدولي، وأن الإيمان المشترك للدول الديمقراطية بهذه المبادئ يخلق “الثقة المتبادلة بينهما”.
ومن هذا المنظور أيضاً، فإن الغضب الفرنسي له ما يبرره فترى فرنسا أن أمريكا أهدرت هذه الثقة المتبادلة، وأنها دخلت في مفاوضات سرية مع أستراليا في مارس 2021 بشأن هذا التحالف من وراء ظهر فرنسا، ولم تخبر حليفتها الأوروبية بأي معلومة حول هذا الأمر إلا قبل ساعات من الإعلان الرسمي عنها.
يرى الفرنسيون أن ما حدث يمثل نموذجاً للخداع الذي لا يجب أن يحدث بين دول حليفة، خصوصاً بشأن العلاقات الفرنسية الأمريكية التي تتسم بالصداقة والتعاون وتعود جذوره إلى سنوات بعيدة عندما ساندت فرنسا حرب الاستقلال الأمريكية عام 1776 ضد بريطانيا.
وهكذا، فسواء أخذنا بالنظرية الواقعية أو النظرية المثالية، فإنهما يفسران الغضب الفرنسي. فالسلوك الأمريكي لم يأخذ في اعتباره كلاً من المصالح الفرنسية ولا القيم الديمقراطية المشتركة التي تجمع البلدين، ويبدو أن بايدن أقر بذلك في المكالمة الهاتفية التي تمت مع ماكرون، فجاء في البيان المشترك الذي صدر عن الرئيسين أنه لم تكن هناك مشاورات كافية بين البلدين قبل الإعلان عن التحالف الأمني الجديد.
الخصوصية الأنجلوساكسونية:
وهناك بُعد أوروبي للأزمة، فذكر المسؤولون الفرنسيون أن الاستهانة وعدم التقدير الأمريكيين لا يتوقفان عند فرنسا ولكنه يمتد إلى أوروبا ككل، وأن بايدن الذي انتقد سلوك سلفه الأحادي وغير المبالي بالدور الأوروبي استمر على نهجه. وبالفعل، أيدت ألمانيا، صاحبة أقوى اقتصاد أوروبي، فرنسا وشاركتها قلقها. وسار في الاتجاه نفسه عدد من دول الاتحاد الأوروبي، وذلك لأن الثقة بين الدول لا تكون بالأقوال فقط، وانما بالأفعال. ونبهت فرنسا إلى أن الدرس المستخلص من هذه الواقعة هو ضرورة توحيد الصف الأوروبي في السياسة الخارجية والمسائل الأمنية، وتعزيز السيادة والاستقلال الأوروبيين عن الولايات المتحدة.
وهناك معنى تَحَرَج المسئولون الفرنسيون والأوروبيون من الإشارة إليه، وتركوا ذلك لتعليقات المحللين السياسيين، وهو أن أمريكا تقوم بإحياء “العلاقة الخاصة” مع بريطانيا. فترامب شجع لندن على الخروج من الاتحاد الأوروبي، ووعد بتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة تعوضها عن أي خسارة، وحرص بايدن على الذهاب إلى لندن قبل بروكسل في مايو الماضي، وعلى توقيع نسخة جديدة من الميثاق الأطلنطي الذي وقع لأول مرة إبان الحرب العالمية الثانية بين تشرشل وروزفلت في 14 أغسطس 1941.
وأشار آخرون إلى أن الدول الثلاث تسودها لغة وثقافة “أنجلوساكسونية”، وأن هذا يضعها في موقف مختلف عن الدول الأوروبية التي لا تشاركها هذه الثقافة. وأن هذه الدول – إضافة إلى كندا ونيوزيلندا- يجمعها اتفاق لتبادل المعلومات الاستخباراتية من أكثر من نصف قرن.
الخلاف بين الحُلفاء أمر وارد، ولكن تحكمه قواعد وضوابط تختلف عن الخلافات بين الخصوم والأعداء، ففي مواجهة عاصفة الغضب الفرنسي، التزمت واشنطن ولندن وكامبيرا بالهدوء وعدم التصعيد وحرصت على تأكيد علاقات الصداقة العميقة التي تربطها بفرنسا، والتزامها بالعمل على تجاوز هذه الأزمة من خلال الحوار والمباحثات الدبلوماسية الهادئة. فطلب الرئيس بايدن إجراء مكالمة هاتفية مع نظيره الفرنسي والتي تمت في 22 سبتمبر، أي بعد أسبوع من بدء الخلاف وتقرر فيها عودة السفير الفرنسي إلى مقر عمله في واشنطن، والبدء في اتصالات دبلوماسية لحل الخلاف.
فالخلافات بين الحلفاء لها سقف لا تتجاوزه لأنها إذا تجاوزته انفرط عقد التحالف، ومن أهم الأمثلة على ذلك في تاريخ العلاقات الفرنسية الأمريكية، أنه عندما تحدى الرئيس شارل ديجول هيمنة واشنطن على أوروبا عام 1966، وقام بتجميد مشاركة بلاده في القيادة العسكرية المشتركة لحلف الاطلنطي، فإنه لم ينسحب قانونياً من الحلف.
وفي الحالة الراهنة، اتبع الرئيس ماكرون سياستين في إدارة الخلاف، الأولى تُعبر عن الروح الاستقلالية الفرنسية، فقام بالاتصال تليفونياً مع رئيس الوزراء الهندي في 18 سبتمبر اعتقاداً منه أن الهند سوف تدعم فرنسا. ولكن هذا المسعى دخل في طريق مسدود مع لقاء رؤساء مجموعة “الكواد” التي تضم أمريكا واليابان والهند واستراليا في 24 سبتمبر على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. فاتجه ماكرون لتوطيد دور بلاده في أوروبا فتم توقيع معاهدة عدم اعتداء مشترك مع اليونان وصفقة لبيع الغواصات، وإبرام صفقة سلاح أخرى مع جمهورية التشيك.
والثانية تتسم بالمُهاودة والرغبة في عدم تصعيد الخلاف مع واشنطن فتلقى مُكالمة بايدن وأعاد السفير الفرنسي إلى واشنطن، وهدأت حدة التعليقات الرسمية على الموضوع.
الخلاصة أن الحلفاء يختلفون ويتنافسون بسبب اختلاف المصالح والأهداف، وهذا أمر طبيعي. ولكن ما يجعل الأمور أكثر إثارة ودرامية هو شعور أحد الحُلفاء بالخيانة أو الخديعة من حليف له. ففي هذه الحالة، لا يقتصر الأمر على اختلاف المصالح، ولكن يمتد إلى تهديد الثقة المُتبادلة بين الحلفاء.
علي الدين هلال
المستقبل للدراسات