لم تكن الانتخابات العراقيّة سوى تسجيل لواقع يتمثّل في تراجع قسم من الأحزاب والقوى الموالية لإيران في ظل تقدّم “الكتلة الصدريّة” التي تزعّمها مقتدى الصدر. يمكن الخروج بهذا الاستنتاج على الرغم من أنّه ليس معروفا هل يستطيع مقتدى الصدر أن يكون مستقلا عن إيران وما هامش الحرّية الذي يمتلكه هذا السياسي العراقي. هذا السياسي الذي هو في الوقت ذاته رجل دين ينتمي إلى عائلة ذات تاريخ عريق. الأكيد أنّ كلام مقتدى الصدر بعد صدور النتائج الأوليّة للانتخابات مطمئن، خصوصا لدى إشارته إلى رفض أي سلاح غير شرعي. كانت تلك إشارة واضحة إلى السلاح لدى ميليشيات “الحشد الشعبي”. هذا كلام يثير إيران بشكل واضح وله صداه الإيجابي داخل العراق.
لكن يبقى السؤال المتعلّق بموقف مقتدى الصدر من إيران يطرح نفسه بقوّة في ضوء التجارب التي مرّ بها رجل دين وسياسي يبتعد عن طهران ثمّ يتقرّب منها ويشاهد في مجلس “المرشد” علي خامنئي وكأنّه من أهل البيت. يشير ذلك إلى أمرين؛ الأول شخصيته المترددة والآخر العجز عن الخروج بشكل نهائي من تحت المظلّة الإيرانيّة. ثمّة أمر ثالث لا بدّ من الإشارة إليه بشكل سؤال: هل جمهور مقتدى الصدر مسيطر عليه من مقتدى الصدر؟
على الرغم من ذلك كلّه لم يستطع قادة الأحزاب التابعون مباشرة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” باستثناء نوري المالكي تحقيق نتائج جيدة. أمّا هادي العامري زعيم “تحالف الفتح” الذي يجمع الميليشيات المدعومة من إيران، فقد تلقّى ضربة قويّة. يعكس هذا التراجع في شعبيّة الموالين مباشرة لإيران ولسلاح الميليشيات تململا في أوساط الشيعة العرب العراقيين. جاء هذا التململ في وقت تراجع فيه النفوذ الإيراني في كردستان في ضوء النتائج المخيّبة التي سجلها مرشحو الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي بات منقسما على نفسه في غياب زعيمه التاريخي جلال الطالباني.
في كلّ الأحوال، هناك قلق إيراني حيال ما يدور في العراق حيث بدأت تظهر بوادر قيام تجمعات سياسيّة مستقلّة ترفض الأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال الأميركي والنظام الذي ولد من رحمه. تخشى إيران بكل بساطة من فقدان تحكّمها باللعبة السياسية في العراق وذلك بغض النظر عن نتائج الانتخابات ورأي المواطن العراقي الذي يمتلك حدّا أدنى من الروح الوطنيّة. هذا المواطن الذي يكتشف مع مرور الوقت أنّ إيران هي إيران والعراق هو العراق وأنّ إزالة الحدود بين البلدين ليست سوى سقوط للمنطقة كلّها وليس للعراق وحده.
يفسّر هذا الإصرار الإيراني على الإمساك بالورقة العراقيّة إمساكا تاما اقتراب العودة الإيرانية إلى مفاوضات فيينا مع الأميركيين والصينيين والروس والأوروبيين. لن تستطيع إيران فرض شروطها في هذه المفاوضات المتعلّقة ببرنامجها النووي من دون الظهور في مظهر الطرف القوي الذي يتحكّم بأربع دول هي العراق وسوريا ولبنان واليمن. تصرّ إيران على تأكيد أن في استطاعتها عمل ما تريده في الدول الأربع. تؤكّد ذلك بإفراجها، بالاتفاق مع فرنسا، عن الحكومة اللبنانيّة التي يرأسها نجيب ميقاتي من جهة وقيام وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان بزيارة إلى بيروت من جهة أخرى. بات عبداللهيان أوّل وزير للخارجية يزور لبنان بعد تشكيل حكومة جديدة وانتظار استمرّ ثلاثة عشر شهرا.
هناك ما هو أبعد من الانتخابات العراقيّة. هناك الدور الإيراني في العراق. من يتحكّم بالعراق؟ هذا هو السؤال الكبير في بلد محوري يتوقف على مستقبله مصير التوازن الإقليمي إلى حدّ كبير
ثمّة معلومات غير أكيدة عن أن قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني زار بغداد مع إقفال صناديق الاقتراع. في المقابل، الثابت أنّ وزير الخارجية الإيراني كان قد زار لبنان. قد تكون الزيارتان زيارتين تفقّديتين لممتلكات إيرانية في المنطقة. إنّهما على الأصح بين أوراق إيرانيّة عدّة تستخدم في التفاوض مع “الشيطان الأكبر”. كلّ ما في الأمر أن إيران تريد إثبات أنّ دخولها مفاوضات فيينا لن يكون من موقع ضعف وأن على الإدارة الأميركيّة الاقتناع بأن لا مجال لأي تعديل للاتفاق في شأن ملفّها النووي الموقع صيف العام 2015 في عهد باراك أوباما.
هل سترضخ الإدارة الأميركيّة للشروط الإيرانيّة؟ هل يهمّها مصير العراق كما تعتقد إيران؟ وهل يهمّها مصير لبنان أو مصير سوريا واليمن والتهديد الذي يمثله على دول مثل المملكة العربيّة السعوديّة؟
تعتقد إيران أن الوقت يعمل لمصلحتها وأنّها أحسنت في تأخير العودة إلى مفوضات فيينا. ليس معروفا هل هذا صحيح أم لا. المعروف أنّ الإدارة الأميركية ضائعة ولا همّ لها سوى منع إيران من تطوير السلاح النووي. في الواقع يمكن أن تستفيد إيران من هذا الضياع الأميركي ومن تجاهل الأميركيين لقلق الدول العربيّة، في مقدّمها دول الخليج، من الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية ومن تحوّل شمال اليمن إلى مجرّد قاعدة صواريخ إيرانيّة.
من الواضح أنّ الانتخابات العراقيّة كانت مهمّة. شكل إجراء الانتخابات نجاحا لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي يتبيّن أن لديه قنوات اتصال قويّة بطهران… كما أنّه رجل يسعى إلى دور عراقي متوازن في المنطقة بالتفاهم مع الدول العربيّة الجارة. إضافة إلى ذلك كشفت الانتخابات العراقيّة وجود رفض في الشارع العراقي لـ”الجمهوريّة الإسلامية” وما تحاول فرضه من قيم وأسلوب حياة على العراقيين.
لم يتبلور هذا الرفض بشكل واضح بعد على الرغم من ظهوره من خلال التراجع الذي تعرّضت له الأحزاب التابعة مباشرة للإيرانيين.
وحده الوقت سيكشف هل إيران قويّة أم لا… أم أن كلّ ما في الأمر أنّ الإدارة الأميركيّة الجديدة غير مستعدة لمواجهتها والوقوف خلف حلفائها في المنطقة ودعمهم بقوّة. بدل الدخول في متاهات مرتبطة بمثل هذا النوع من الأسئلة، ثمّة حاجة إلى تطوير استراتيجية عربيّة تتلاءم مع التحديين اللذين يواجهان المنطقة. يشير إلى التحدي الأوّل إصرار “الجمهوريّة الإسلاميّة” على السير في مشروعها التوسّعي غير مدركة أن ليس لديها من نموذج تصدّره إلى الداخل الإيراني وإلى دول الجوار القريبة والبعيدة سوى الدمار والخراب. أمّا التحدّي الثاني فهو ذلك الذي تمثله إدارة أميركية لا تعرف ما الذي تريده من جهة وتتجاهل أنّ ليس في استطاعتها التخلي عن حلفائها في المنطقة وتركهم ليكونوا تحت رحمة إيران وصواريخها وميليشياتها المذهبيّة من جهة أخرى.
هناك ما هو أبعد من الانتخابات العراقيّة. هناك الدور الإيراني في العراق. من يتحكّم بالعراق؟ هذا هو السؤال الكبير في بلد محوري يتوقف على مستقبله مصير التوازن الإقليمي إلى حدّ كبير.
صحيفة العرب