يواصل الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) إحكامه السيطرة على مفاصل الدولة في إيران، بدعم من الرئيس المحافظ المتشدد، إبراهيم رئيسي، وذلك من خلال التغييرات التي يقوم بها لتعيين العناصر التي تنتمي للحرس في المواقع الحساسة والمؤثرة في إيران، بدلاً عن العناصر التي كانت تنتمي لحكومة الرئيس حسن روحاني السابق، والتي كانت تمثل تيار المعتدلين والإصلاحيين.
مؤشرات هيمنة الباسدران
هناك عدد من المؤشرات التي توضح تنامي دور الحرس الثوري في إيران في عهد رئيسي، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تولي المناصب الوزارية المهمة: تُشير التشكيلة الحكومية التي تقدم بها رئيسي، وتم إقرارها من قبل مجلس الشورى الإيراني، في 25 أغسطس الماضي، إلى تنامي عدد المحسوبين على الحرس الثوري الإيراني في هذه الحكومة؛ فوزير الخارجية أمير عبداللهيان، ووزير السياحة عزت الله ضرغامي، هما قائدان سابقان بالحرس الثوري، كما أن وزير الطرق والمواصلات رستم قاسمي، كان نائباً للشؤون الاقتصادية والمالية في فيلق القدس.
2- الهيمنة على الأجهزة الأمنية: قام رئيسي، منذ توليه السلطة، بإحكام سيطرة الباسدران على أجهزة الأمن والاستخبارات، حيث قام بتعيين أحمد وحيدي، وزيراً للداخلية، وهو القائد السابق بالحرس الثوري، والمسؤول عن تدخلات إيران العسكرية في مناطق النزاعات، فضلاً عن تعيين رجل الدين إسماعيل خطيب، لحقيبة الأمن والاستخبارات، والذي كان يرأس دائرة الأمن في مؤسسة “آستان رضوي” المالية الضخمة التابعة للمرشد، علي خامنئي، ولديه خبرة وباع طويل بمجال الأمن والاستخبارات، حيث عمل رئيساً للاستخبارات في منطقة قم. ويلاحظ أن الأخيرة تتبع الحرس الثوري الإيراني.
3- تولي مسؤولية البرنامج النووي والمفاوضات في فيينا: أسند رئيسي رئاسة منظمة الطاقة الذرية الإيرانية لمحمد إسلامي، بدلاً من علي أكبر صالحي، والذي ينتمي لتيار المعتدلين. وكان إسلامي يشغل سابقاً رئيس مركز أبحاث الحرس الثوري الإيراني، كما أنه كان موضوعاً على لائحة عقوبات الأمم المتحدة بسبب دوره في الحصول بشكل غير مشروع على أجهزة ومعدات لتطوير البرنامج النووي الإيراني.
كما استبدل رئيسي، عباس عراقجي، رئيس الوفد الإيراني في مفاوضات فيينا، بعلي باقري، مساعد وزير الخارجية السابق جواد ظريف، والذي كان قائداً سابقاً بالحرس الثوري الإيراني، ومن المعروف أنه كان من أشد المعارضين لاتفاق البرنامج النووي الإيراني الذي تم توقيعه في عام 2015.
4- تنامي الدور الاقتصادي للحرس الثوري: يتوسع الباسدران، بشكل متصاعد، للسيطرة على القطاعات الاقتصادية في إيران، من خلال عدد من المؤسسات التابعة له، أو التابعة للمرشد الأعلى وأبرزها مؤسسة “خاتم المرسلين”، و”آستان رضوي” و”بنياد”، والتي تعمل في أغلب المجالات الاقتصادية الهامة في إيران مثل النفط والغاز وإدارة المياه والسكك الحديد والطرق وتكنولوجيا المعلومات.
وقد قام رئيسي منذ بداية توليه السلطة بتعيين محسن رضائي في منصب مساعد رئيس الجمهورية للشئون الاقتصادية، والذي كان قائداً لقوات الحرس الثوري لمدة 16 عاماً، فضلاً عن تعيين محمد مخبر، نائباً أولاً للرئيس، وهو الذي كان يترأس “لجنة تنفيذ أمر الإمام” أو “ستاد إمام”، إحدى المؤسسات الخاضعة لمكتب المرشد على خامنئي، في دلالة تُشير إلى تقنين الدور الاقتصادي للحرس الثوري بشكل أكبر خلال الفترة الممكنة.
دلالات السيطرة الكاملة
يُدلل إصرار النظام في إيران على تعزيز قوة الباسدران، وتحكمها في الشؤون الداخلية والخارجية إلى عدد من الدلالات، والتي يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
1- إنهاء الصراع بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية: يسعى رئيسي إلى إنهاء الصراع التقليدي الدائرة بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في إيران، وهو الصراع الذي تصاعد إبان الرئيس السابق روحاني، حيث احتد النزاع بين وزارة الأمن والاستخبارات التابعة للحكومة، من جانب، وجهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري، التابع للمرشد، حيث دخل الجهازان في صراع علني تمثلت في الاتهامات العلنية من جانب وزارة الاستخبارات للحرس بالإخفاق في منع العمليات التخريبية ضد إيران، والتي يأتي من ضمنها تصفية العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده في نوفمبر 2020.
ولا شك أن تعيين إسماعيل خطيب، على رأس وزارة الاستخبارات والأمن القومي، جاء من هذا المنطلق، بل من المُحتمل أن يحدث إخضاع لوزارة الاستخبارات للحرس الثوري، خلال تولي خطيب لها، وذلك في إطار تنامي نفوذ الحرس للسيطرة على أغلب مؤسسات الدولة الإيرانية.
2- إصلاح الأجهزة وتقليص الفجوات الأمنية: تعرضت المنشآت النووية والاستراتيجية الإيرانية لعمليات تخريب متتالية من جانب إسرائيل تمثل أبرزها في استهداف منشأة نطنز لتخصيب اليوارنيوم بتفجيرين في يوليو 2020، وأبريل 2021، بالإضافة إلى تفجير مصنع أجهزة الطرد المركزي في كرج بطهران في يوليو الماضي، هذا فضلاً عن اغتيال محسن فخري زاده، والملقب بأبو القنبلة الذرية الإيرانية في نوفمبر 2020، وهو ما كشف عن قصور أداء أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية في تأمين المنشآت النووية.
وعليه، فقد سعى “رئيسي” منذ البداية إلى العمل على إعادة هيكلة أجهزة المخابرات والأمن الإيرانية الـ16، بدءاً من وزارة الاستخبارات والأمن القومي (فيفاك) تحت إشراف الحرس الثوري لضمان وقف الاختراق الخارجي، وتعزيز قدرتها على مكافحة التخريب الخارجي، لاسيما في حال فشل المفاوضات النووية، وما قد يستتبعه من خطوات تصعيدية ضد إيران قد تشمل تفجيرات لمواقع نووية مهمة.
وقام رئيسي بعد توليه الحكم بإقالة الوزير السابق محمود علوي، وتعيين إسماعيل خطيب بديلاً له، هذا فضلاً عن تقديمه خطة لمجلس الشورى لإعادة هيكلة الوزارة تضمنت نقل 5 آلاف من العاملين في وزارة الاستخبارات إلى وحدات أخرى، في مسعى لإفساح المجال لتدفق دماء جديدة لعناصر متشددة من المدارس الدينية في إيران، مثل مدرسة حقاني، وحوزة قم، وجامعات مثل جامعة الإمام الحسين وجامعة الإمام باقر.
3- إحكام السيطرة على الداخل: يكشف تعيين أحمد وحيدي، القائد السابق بالحرس الثوري، وزيراً للداخلية، عن رغبة النظام في إحكام السيطرة على الداخل الإيراني، ومنع اندلاع ما من شأنه تعريضه لأي تهديد، لاسيما في ضوء تآكل شرعيته بسبب العقوبات الصارمة المفروضة على إيران، أو التداعيات السلبية التي خلفتها جائحة كورونا على الاقتصاد الإيراني والظروف المعيشية للمواطنين.
4- القضاء على ازدواجية المؤسسات الأمنية: إن تمكين الحرس الثوري يعبر عن الرغبة في منع الازدواجية، التي كانت تتسم بها السياسات الإيرانية في عهد روحاني، حيث يمثل فوز رئيسي، وسيطرة الباسدران، حالة من توحيد نسق السياسات الإيرانية، بداية من رأس النظام ممثلاً في المرشد، مروراً بالرئيس وحكومته والأجهزة التنفيذية المختلفة.
5- إبداء التشدد حيال الخارج: تكشف هيمنة الباسدران على الخارجية الإيرانية وإدارة الملف النووي مع الغرب عن رغبة النظام في إبداء التشدد في أغلب ملفات السياسة الخارجية، سواء ما يتعلق منها بملف التدخلات الإقليمية، أو ملف برنامجها النووي، وذلك من خلال دعم الحرس الثوري للميليشيات والوكلاء في المنطقة، في مؤشر على استمرار إيران في تبني أجندة توسعية في المنطقة.
ولعل تصريح عبد اللهيان، خلال عرضه استراتجيته لإدارة الخارجية الإيرانية أمام مجلس الشورى الإيراني 23 أغسطس الماضي، أنه سيتقدم بـ”الدبلوماسية والميدان”، على حد سواء، أي أن القوة الميدانية ستدعم الجهد الدبلوماسي، مؤشراً على رغبة طهران في التصعيد مستقبلاً.
كما ترغب إيران في إيصال رسائل تصعيدية تجاه واشنطن والغرب، بالاعتماد على أسلوب طهران في الوصول بالعلاقات في الجانبين إلى مستوى حافية الهاوية، وذلك في محاولة لكسب الوقت، وممارسة أقصى ضغط ممكن، لتعزيز موقفها في المفاوضات النووية في فيينا.
وفي الختام، يمكن القول إن طهران ستواصل تبني سياسات متطرفة، داخلياً وخارجياً، غير أن محاولة إيران توظيف القوة لن يكفل لها تحقيق كامل أهدافها، خاصة أنها تعاني تدهور أوضاعها الاقتصادية، كما أن توجيه إسرائيل، بالتنسيق مع واشنطن، عمليات تخريبية ضد برنامجها النووي، سوف يجبرها في النهاية على الجلوس للتفاوض.
المستقيل للدراسات