تخفيض الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط هل هو أكثر فاعلية؟

تخفيض الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط هل هو أكثر فاعلية؟

قرار الولايات المتحدة بتقليص وجودها العسكري المباشر في الشرق الأوسط دفع إلى إعادة ترتيب الأوضاع بسرعة في اتجاهين، الأول فتح الباب أم تدخلات دولية أخرى سلسة خاصة من الصين وروسيا، أما الثاني فيدفع باتجاه بناء الثقة بين الخصوم الإقليميين مثل إيران والسعودية من أجل حل الخلافات بالحوار.

لندن- بدأت دول الشرق الأوسط تستعد لمرحلة جديدة من الأمن القومي تقوم على تراجع الدعم الأميركي مقابل انفتاح فرص لتنويع الشركاء والزيادة في الاعتماد على الذات، وهي فرصة، كما يقول الخبراء، لاختبار مدى قدرة المنطقة على التعامل مع الوضع الجديد وإدارة خلافاتها الداخلية.

ولا يقف تراجع الوجود الاستراتيجي في المنطقة على الخليج والعراق فقط، وإنما سيمتد إلى أفغانستان أيضا، في وقت يقول الأميركيون إن تركيزهم منصبّ على الصين وطرق مواجهتها، وسط تساؤلات إن كان ما بقي من وجود عسكري أميركي سيكون أكثر فاعلية وذا تأثير إيجابي من الوجود الواسع.

ويمكن أن تظهر أفغانستان، على الرغم من الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة ، كمثال آخر على التأثير الإيجابي عندما تتظافر المصالح العالمية. هذا إذا أثبتت طالبان استعدادها وقدرتها على السيطرة على الجماعات المسلحة لضمان عدم قيامها بعمليات في الخارج أو استهداف السفارات والأهداف الأجنبية الأخرى في البلاد.

جيمس دورسي: مؤشرات تدعم التفاؤل بأن الشرق الأوسط يتراجع عن حافة الهاوية

وينسب المحلّلون الفضل للرئيس الأميركي جو بايدن الذي اختار التركيز على آسيا بدل الشرق الأوسط وتزايد عدم اليقين بشأن التزامه بأمن الخليج في ظل بروز قوى إقليمية أخرى تهدد أمن دول مجلس التعاون مثل تركيا، وخاصة إيران التي تجد في الانسحاب الأميركي فرصة لا تفوّت للتمدد في محيطها الإقليمي بزيادة نفوذها المباشر في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتهديد أمن البحرين والسعودية عن طرق أذرعها في المنطقة.

ومن المؤكد أن التغييرات في أولويات واشنطن تؤثر على الاستراتيجيات ومواقف الدفاع الإقليمية بالنظر إلى الوجود العسكري الكبير للولايات المتحدة في الشرق الأوسط حين كانت تعتبر الضامن الأمني الوحيد.

ومع ذلك، فإن ما يدق أجراس الإنذار في عواصم الخليج يثير مخاوف في بكين أيضا، حيث تعتمد إلى حد كبير على تدفق تجارتها وطاقتها من مياه الشرق الأوسط وعبرها. كما يثير هذا مخاوف أمنية في موسكو على مستوى تطلعاتها الجيوسياسية.
ولم يكن مفاجئا أن تكرر روسيا والصين، كلٌّ منهما بطريقته الخاصة المستقلة عن الولايات المتحدة، خلال العام الماضي رسالة واشنطن بأن الشرق الأوسط في حاجة إلى العمل معا.

واقترحت روسيا هيكلا أمنيا إقليميا جديدا بالكامل على غرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، حرصا منها على تغيير النظام العالمي بدلا من إصلاحه، مما أضاف الصين والهند وأوروبا إلى هذا المزيج أيضا.

وأرسلت الصين العازمة على تأمين مكانتها في النظام العالمي الجديد بدلا من تغييره بشكل جذري إشارات من خلال الأكاديميين والمحللين الذين نقلوا رسالة تفيد أن الشرق الأوسط لا يحتل مرتبة عالية في جدول أعمال الصين.

وقال نيو شين تشون مدير دراسات الشرق الأوسط في معهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة، وهو مركز أبحاث صيني مرموق، في ندوة عبر الإنترنت العام الماضي “بالنسبة إلى الصين، فإن الشرق الأوسط دائما ما يكون في الخلف بعيدا جدا عن خطط بكين العالمية الاستراتيجية”.

لكن الباحثيْن الصينييْن البارزيْن سون ديجانج ووو سيك يذهبان في اتجاه آخر لطمأنة المنافسين، ويقوم على الاعتراف بأن بلادهم مهتمة بالشرق الأوسط، ولكن ليس بهدف الهيمنة التامة، وأنها تبحث عن “أرضية مشتركة مع الاحتفاظ بالخلافات”، وهي صيغة تتضمن إدارة الصراع بدلا من حل النزاع.

ويقترح الباحثان على هذا الأساس أن المشاركة الصينية في أمن الشرق الأوسط ستسعى إلى بناء آلية أمن جماعي إقليمية شاملة ومشتركة تقوم على الإنصاف والعدالة والتعددية والحوكمة الشاملة واحتواء الاختلافات.

وفي التحليل النهائي، من المحتمل أن الإشارات الصينية والروسية إلى وجود إجماع غير معلن للقوى العظمى عززت الرسائل الأميركية ومنحت دول الشرق الأوسط دفعة أخرى لتغيير المسار وإظهار الاستعداد للسيطرة على التوترات والخلافات.

ما يدق أجراس الإنذار في عواصم الخليج يثير مخاوف في بكين أيضا، حيث تعتمد إلى حد كبير على تدفق تجارتها وطاقتها من مياه الشرق الأوسط وعبرها

ومع تراجع الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، هناك ما يشبه الاتفاق غير المعلن بين القوى العظمى من أجل تخفيف حدة التوترات.

وفي حين كان هناك القليل من التخفيض الحقيقي للقوات الأميركية على الأرض، فإن مجرد الحديث عنه فتح مسارات يغير وزن الولايات المتحدة في المعادلة.

وأشار رعد القادري، وهو مستشار دولي للمخاطر، أن “الولايات المتحدة تنظر إلى نفسها عادة على أنه لا غنى عنها للاستقرار الإقليمي في جميع أنحاء العالم، في حين أن تدخلها في الواقع يمكن أن يكون مزعزعا لأنه يصبح جزءا من المعادلة المحلية”.

ولا يضمن استعداد الولايات المتحدة للخروج من الطريق أن المحادثات سوف تنجح أكثر في تجنب الصراعات التي تخرج عن نطاق السيطرة في أحسن الأحوال.

وسعى القادة والمسؤولون السعوديون والإيرانيون إلى إضفاء لمسة إيجابية على العديد من جولات المحادثات المباشرة وغير المباشرة بين الخصمين. ومع ذلك، فإن الأهم من الحديث عن التقدم، والتعبير عن الاستعداد لدفن الفؤوس، والتخفيف من حدة الخطاب هو إصرار العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز في تصريحات الشهر الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على الحاجة إلى بناء الثقة.

وأشار الملك سلمان إلى أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال وقف إيران “لجميع أنواع الدعم” للجماعات المسلحة في المنطقة، بما في ذلك للحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، والميليشيات الموالية لها في العراق.

ويكمن العائق المحتمل في عدم احتمالية تقديم إيران تنازلات ذات مغزى لتحسين العلاقات خاصة ما يتعلق بالحرب في اليمن والهجمات التي تستهدف أراضي السعودية، وحقيقة أن فرص إحياء الاتفاقية الدولية لسنة 2015 التي قيدت برنامج إيران النووي قد تتلاشى، ويستمر هذا البرنامج في تهديد التوازن الإقليمي.

وقال المفاوض الأميركي روب مالي “علينا أن نستعد لعالم لا توجد فيه قيود على إيران بشأن برنامجها النووي وعلينا النظر في خيارات للتعامل مع ذلك. هذا ما نقوم به بينما نأمل أن تعود إلى الاتفاق”.

إيران تجد في الانسحاب الأميركي فرصة لا تفوّت للتمدد في محيطها الإقليمي

ويتخذ السياسيون الإسرائيليون غير الراضين عن الصفقة النووية الأصلية وجهود إدارة بايدن لإحيائها وجهة نظر أكثر إثارة للقلق، حيث أخبر وزير الخارجية يائير لابيد مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في واشنطن أن إيران أصبحت عتبة نووية.

وأكد يوسي كوهين، وهو من المقربين من نتنياهو والذي تنحى في يونيو عن منصب رئيس الموساد، في نفس الوقت أن إيران “ليست أقرب من ذي قبل” من الحصول على سلاح نووي.

لكن لا شك في أن الرجليْن يتفقان على أن إسرائيل تحتفظ بخيار الضربة العسكرية ضد إيران. وقال لابيد لمحاوريه الأميركيين بينما كانوا يسعون إلى حل الخلافات حول كيفية التعامل مع إيران إذا ثبت أن إحياء الاتفاقية أمر بعيد المنال فإن “إسرائيل تحتفظ بالحق في التصرف في أيّ لحظة وبأيّ شكل من الأشكال”.

في هذه الأثناء، هناك مقدمة لتداعيات فشل محتمل في وضع اتفاق نووي قيد التنفيذ على جبهات متعددة مع تصاعد التوتر على طول الحدود بين إيران وأذربيجان.

وترى إيران في توثيق العلاقات الأذرية – الإسرائيلية جزءا من محاولة لتطويقها وتخشى أن تكون الدولة القوقازية نقطة انطلاق للعمليات الإسرائيلية ضدها. واتفقت إيران وأذربيجان هذا الأسبوع على إجراء محادثات لتخفيف الخلاف.

التغييرات في أولويات واشنطن تؤثر على الاستراتيجيات ومواقف الدفاع الإقليمية بالنظر إلى الوجود العسكري الكبير للولايات المتحدة في الشرق الأوسط حين كانت تعتبر الضامن الأمني الوحيد

وانخرطت إيران وتركيا وإسرائيل في نفس الوقت في معركة ظل في شمال العراق الذي تقطنه أغلبية كردية، بينما أظهر استطلاع للرأي أن نصف اليهود الإسرائيليين يعتقدون أن مهاجمة إيران في وقت مبكر بدلا من التفاوض على صفقة كان من الممكن أن يكون نهجا أفضل.

ويقول جيمس دورسي الخبير في قضايا الشرق الأوسط إن هذه العوامل مجتمعة تلقي بظلالها على التفاؤل بأن الشرق الأوسط يتراجع عن حافة الهاوية وتبرز أن قيادة القوى العظمى المنسقة هي ما يمكن أن تحدث فرقا حيث يوازن الشرق الأوسط بين شق طريق نحو الاستقرار وبين شن حرب سرية مستمرة وربما علنية.

واقترح برنامج أبحاث إيران التابع لجامعة جونز هوبكنز أن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي قد تكون حافزا للتعاون مع أوروبا والصين وروسيا “إذا رفضت الولايات المتحدة إعادة الانضمام إلى الاتفاقية بعد محاولات كافية من جانب إيران لإظهار المرونة في موقفها التفاوضي، فإن روسيا والصين ستكثفان تعاونهما الاقتصادي والأمني مع إيران بطريقة تتعارض بشكل أساسي مع المصالح الأميركية”.

وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب منذ أيام أن روسيا وإيران بصدد وضع اللمسات الأخيرة على “اتفاقية عالمية للتعاون بين إيران وروسيا” على غرار اتفاقية مماثلة مدتها خمسة وعشرون عاما بين الصين وإيران العام الماضي. كما حققت إيران نصرا هاما عندما وافقت منظمة شنغهاي للتعاون على الحسم في طلب إيران لنيل العضوية.

العرب