تكشف تصريحات المسؤولين الروس ونظرائهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن العلاقة بين الطرفين ما زالت تتسم بطبيعة شديدة التعقيد، وغياب الثقة وتضارب صارخ في المصالح، فيما تنذر الاتهامات المتبادلة والتحذيرات من بروز عوامل تشير إلى تزايد المخاطر، بانزلاق العلاقات إلى مستوى يعيد للأذهان أجواء الحرب الباردة.
وفي العقدين الأخيرين، شهدت العلاقات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي تقلبات كثيرة. ففي مطلع الألفية الثالثة، كان الحديث يدور عن رأب الصدع بين الطرفين وتحوّل جذري في العلاقة ينقلها من المواجهة إلى الشراكة، وإيجاد آليات متطورة لحل القضايا الخلافية في مجال الأمن، بالتزامات وإجراءات متبادلة. وعلى الرغم من أن العلاقات بقيت في حالة مد وجزر، ومرّت بامتحانات صعبة أهمها حرب جورجيا في 2008 وضم شبه جزيرة القرم في 2014، فقد حافظ الطرفان على قنوات اتصال مفتوحة نجحت في الحدّ من التصعيد.
تصعيد متبادل
وازدادت حدة تصريحات الروس بعد طرد حلف الأطلسي ثمانية دبلوماسيين روس معتمدين لدى مقرّ الحلف في بروكسل، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي. وفي حين أرجع الحلف قرار طرد الدبلوماسيين الروس إلى تنامي أنشطة موسكو “الخبيثة”، قائلاً إن المطرودين كانوا ضباط استخبارات، أكدت موسكو أنها ستردّ. ورأى المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن قرار الأطلسي “يقوّض تماماً آمال عودة العلاقات إلى طبيعتها، واستئناف الحوار مع التكتل”.
صعّدت روسيا من هجومها الدبلوماسي على الحلف الأطلسي
وصعّدت روسيا من هجومها الدبلوماسي على الحلف، واتهمته على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف بأنه “يحاول تسخين الوضع، وتقويض آليات التفاعل القائمة بين الدول” بسعيه إلى نشر قواته في آسيا بعد انسحابه من أفغانستان. وأضاف لافروف، خلال اجتماع وزراء خارجية الدول المشاركة في مؤتمر “التفاعل وبناء الثقة في آسيا”، يوم الثلاثاء الماضي، أن “الهياكل الضيقة والكتل العسكرية التي شُكلت بمنطق الحرب الباردة وسياسة الاحتواء تساهم بدورها في ذلك”، في إشارة إلى حلف الأطلسي. وفي لقائه مع الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، قال لافروف إن “الطرف الروسي جدّد التذكير بوجود اقتراحات داعية إلى خفض التصعيد وتخفيف حدة التوتر على خط التماس”. وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد أعرب، في افتتاح مؤتمر موسكو الدولي للأمن في 23 يونيو/ حزيران من العام الحالي، عن قلقه حيال “التعزيز المستمرّ لقدرات حلف الأطلسي العسكرية والبنية التحتية الخاصة به بالقرب من الحدود الروسية”.
في المقابل، قال ستولتنبرغ، في يونيو/ حزيران الماضي، إن “العلاقة بين روسيا والحلف عند أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة”. ووصف هذه العلاقة بأنها “معقدة”، قبل أن يستدرك بأن “الحلف سيواصل الحوار مع روسيا”. وهو ما يؤكد عليه أيضاً المسؤولون الروس في تصريحاتهم، على الرغم من النتائج المحدودة التي خرجت بها مختلف الحوارات إلى الآن، ومردّ ذلك، بحسب حلف شمال الأطلسي، هو السلوك الروسي “المنتهك للقوانين الدولية”، بينما ترى موسكو أن دول الحلف تحاول من خلال الحوار فرض أجندة محددة على روسيا، “وهذا الأمر يجعل مثل هذا الحوار مستحيلاً في الظروف الحالية”، وفق تصريح أدلى به المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف مطلع يوليو/ تموز الماضي.
نولاند
تقارير دولية
مباحثات الاستقرار الاستراتيجي الأميركية الروسية: سقف منخفض
إعادة تموضع
وشكّل الغزو الأميركي لأفغانستان في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2001، ومن ثم غزو العراق في مارس/ آذار عام 2003، فرصة سانحة لروسيا للعمل على تطوير استراتيجياتها وإعادة بناء قوتها، واستعادة حضورها على المسرح الدولي. وهذه السياسة كان قد بدأها بوتين في العامين الأخيرين من ولايته الرئاسية الأولى (2000 – 2004)، من خلال العمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتماسك الجبهة الداخلية الروسية عبر إيقاف النزعات الانفصالية، وتعزيز قبضته وكسر شوكة حيتان الأوليغارشية الذين كانوا يمسكون بمفاصل الدولة واقتصادها، ويوجهون سياساتها لموالاة الغرب في عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسين.
وفي مطلع ولايته الرئاسية الثانية (2004 – 2008)، بدأت تتبلور رؤية جيوسياسية شاملة لرجل الكرملين القوي، سارت على خطين متوازيين؛ الأول استعادة نفوذ بلاده الجيوسياسي في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، والثاني بناء شبكة تحالفات إقليمية ودولية بهدف استعادة دور روسيا كقوة كبرى، وإنهاء القطبية الأحادية الأميركية. لتأتي بعد ذلك النقلة الثالثة عام 2008، بعد التدخل العسكري الروسي في جورجيا، ولعلها الأهم في تغيير دفة السياسة الخارجية الروسية، بالإعلان عن عملية شاملة لإعادة هيكلة الجيش الروسي والارتقاء بجهوزيته وتزويده بأسلحة حديثة ومتطورة، بما فيها الأسلحة الاستراتيجية، وقد رُصدت لذلك عام 2010 ميزانية تقدر بـ720 مليار دولار أميركي على امتداد عشر سنوات.
نجاح روسيا في إعادة بناء قوتها، في وقت كان يعتقد فيه حلف شمال الأطلسي أنه استطاع احتواءها وتحويلها إلى مجرد دولة إقليمية، أطلق شرارة جولة جديدة من الصراع الجيوسياسي بين هذه الدولة والحلف بقيادة الولايات المتحدة، كان من نتائجها ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، والتدخل العسكري الروسي في سورية عام 2015، وزيادة النفوذ الروسي في أفريقيا، لا سيما في الدول التي تشهد صراعات محتدمة مثل ليبيا وجمهورية آسيا الوسطى ومالي وتشاد، وغيرها. ونجحت روسيا مرة أخرى في حساب تكلفة تدخلاتها الخارجية “الخشنة”، بتقدير أن ردّ الفعل الأميركي والغربي سيكون ضعيفاً، وبالتالي ستكون التكلفة ضئيلة جداً مقارنة مع المكاسب التي ترمي إليها موسكو من وراء تدخلاتها، ويمكن لروسيا تحمل المخاطر التي قد تنتج عن ذلك. لكن حسابات موسكو التي تبدو متماسكة لا تصلح للقياس عليها في مواجهات أشمل، فالحروب التي خاضها الجيش الروسي حتى الآن كانت مختلة لصالحه بشكل كبير، بالإضافة إلى أنه لم يُختبر بعد في حرب واسعة النطاق مع خصم قوي.
تخشى موسكو من إعادة الحلف تركيز قدراته لاحتواء روسيا
وتجدر الإشارة إلى أن خبراء اقتصاديين ومحللين سياسيين وعسكريين روساً حذّروا من مخاطر زيادة الإنفاق العسكري على الاقتصاد الروسي، ومنهم وزير المالية الأسبق أليكسي كودرين، الذي قدّم استقالته من منصبه خريف عام 2011. ونبه الخبراء إلى احتمال الانزلاق في سباق تسلّح مكلف وغير مجدٍ، بينما تستطيع روسيا حماية أمنها القومي بالاعتماد على الردع النووي، ولفتوا إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ليس فقط ردود الفعل المباشرة للخصم، بل ردود فعله غير المباشرة أيضاً، والتي يمكن أن تكون أشد ضرراً على المدى الطويل. وكشف مشروع الموازنة الفيدرالية للسنوات الثلاث المقبلة (2022، 2023، 2024) أن حجم الإنفاق العسكري في روسيا، سيبلغ 2.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أو نحو 15 في المائة من نفقات الموازنة العامة، وهو يزيد عن حجم الإنفاق على تطوير الاقتصاد بعد جائحة كورونا.
مفاهيم جديدة
قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في لقاء له مع خريجي الجامعات الذين تم ضمهم للعمل في السلك الدبلوماسي، في الثامن من الشهر الحالي، إن “موسكو تعمل حالياً على تحديث مفهوم السياسة الخارجية الروسية”. وأضاف أنه “سيتعيّن على الدبلوماسيين الذين تم ضمهم حديثاً العمل في مرحلة حاسمة في تاريخ روسيا والعالم، لأنّ الوضع في العالم لن يصبح أسهل”، موضحاً أن المحتوى الرئيسي لمفهوم السياسة الخارجية الروسية هو “ضمان الظروف الخارجية الأكثر ملاءمة للتنمية الداخلية للبلد”. لكن ما قاله لافروف لا يؤشر بالضرورة إلى تحوّل منظور في السياسات الخارجية الروسية من شأنه وقف تدهور العلاقات مع حلف الأطلسي، الذي حدّد أمينه العام ينس ستولتنبرغ، في يونيو/ حزيران الماضي، سياسة الحلف تجاه روسيا بالقول “يجب أن نكون أقوياء ومستعدين للاحتواء والدفاع”. وأضاف “في الوقت نفسه نحتاج إلى حوار مع روسيا الاتحادية، فهي جارتنا، ونحن بحاجة للتحدث معها، حتى لو كنا لا نتوقع تحسن العلاقات في المستقبل القريب”.
وليس من قبيل المصادفة تزامن التصعيد بين روسيا وحلف الأطلسي مع الإعلان عن انسحاب القوات الأميركية وقوات “الناتو” من أفغانستان، وإن كان الانسحاب ليس السبب الرئيس للتصعيد، بل أحد تداعياته غير المباشرة، التي كشفت عن تعقيدات علاقة روسيا والأطلسي، وازدياد سخونة الصراع الجيوسياسي بينهما، منذ أن بدأ الحلف تعزيز قواته في دول البلطيق وشرق أوروبا بعد قمة الأطلسي في وارسو عام 2016، لمواجهة أي هجوم عسكري تقليدي، وكردّ عسكري عملي على إلحاق موسكو شبه جزيرة القرم بها، وتدخلها في الشؤون الداخلية لأوكرانيا.
وتخشى موسكو من أنّ حلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، بعد خروجه من المأزق الأفغاني الذي استنزف قواته على مدار عشرين عاماً، سيعيد تركيز قدراته لاحتواء روسيا، كأولوية للحفاظ على أمن أوروبا، وكجزء من عملية أشمل لاحتواء الصين، أعطيت زخماً إضافياً باتفاقية أوكوس (AUKUS) الأمنية التي أُبرمت في سبتمبر/ أيلول الماضي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وانتقدتها روسيا أكثر من مرة. ولخّص وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، في يونيو الماضي رؤية بلاده للحلف بالقول إنّ “حلف شمال الأطلسي أصبح تحالفاً عسكرياً سياسياً عالمياً لاحتواء روسيا والصين”.
العربي الجديد