بشكل دراماتيكي، أكدت النهاية المخزية لحرب الولايات المتحدة في أفغانستان على تعقيد الشرق الأوسط الكبير وعدم ثباته. قد يحاول الأميركيون مواساة أنفسهم بأنه بات بوسعهم في نهاية المطاف إدارة ظهورهم لتلك المنطقة المضطربة لأن الولايات المتحدة باتت الآن مكتفية ذاتياً من الطاقة، وأقل اعتماداً على نفط الشرق الأوسط. لقد تعلمت واشنطن من خلال تجاربها الصعبة ألا تحاول إعادة رسم معالم تلك المنطقة كي تحاكي صورة الولايات المتحدة، وإذا أغرت الرغبة بإثارة حرب جديدة أو بدئها هناك القادة الأميركيين، فمن المرجح أنهم لن يجدوا سوى النزر اليسير من التأييد الشعبي لها.
ومع ذلك يبدو الكلام حول الابتعاد من الشرق الأوسط الكبير أكثر سهولة من تنفيذه فعلياً. وإذا واصلت إيران المضي قدماً في برنامجها النووي إلى عتبة تطوير سلاح من ذلك النوع، فإنه سيكون بوسعها أن تشعل فتيل سباق تسلح أو تؤدي إلى ضربة استباقية إسرائيلية من شأنها أن تجر الولايات المتحدة من جديد إلى حرب شرق أوسطية أخرى. وتبقى المنطقة مهمة بسبب موقعها المركزي من الناحية الجيوستراتيجية كونها واقعة على ملتقى طرق أوروبا وآسيا.
وتعتمد إسرائيل وحلفاء واشنطن من العرب على الولايات المتحدة في ضمان أمنهم. وتظل الدول الفاشلة كسوريا واليمن، أرضاً خصبة محتملة أمام الإرهابيين ممن يستطيعون تسديد الضربات للولايات المتحدة وحلفائها. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على التدفق الحر للنفط من الخليج، فإن انقطاعاً مطولاً لإمدادته يمكن أن يدفع بالاقتصاد العالمي إلى الانهيار. وسواء شئنا أم أبينا، على الولايات المتحدة أن تستنبط استراتيجية في مرحلة مابعد أفغانستان من أجل دعم النظام في الشرق الأوسط حتى في وقت ينتقل فيه تركيزها إلى أولويات أخرى.
وهناك سابقة يمكنها أن تخدم كنموذج أساس مفيد في إطار ابتكار تلك الاستراتيجية، وتتمثل تلك السابقة في تجربة هنري كيسنجر، الاستراتيجي البارز في واشنطن.
وعلى الرغم من أنه لا يُذكر بسببها إلا نادراً، فإنه قاد الجهود الناجحة في بناء نظام شرق أوسطي مستقر دام 30 عاماً. وقد حقق ذلك خلال السنوات الأربع التي خدم فيها وزيراً لخارجية الولايات المتحدة في ظل [الرئيس] ريتشارد نيكسون ثم [الرئيس] جيرالد فورد. واستطاع كيسنجر أن يحقق ذلك في وقت سحبت فيه الولايات المتحدة قواتها من فيتنام، وتراجعت من جنوب شرق آسيا. في تلك المرحلة، على غرار ما يحصل اليوم، توجب على الدبلوماسية أن تحل بديلاً عن القوة، وقد ترافقت أيضاً مع فضحية “ووترغيت” التي أغرقت الولايات المتحدة في أزمة سياسية عميقة وأجبرت نيكسون على التنحي عن الرئاسة، وخلقت أيضاً فراغاً محتملاً في قيادة الولايات المتحدة على المسرح العالمي.
ومع ذلك فقد استطاعت دبلوماسية كيسنجر خلال تلك الفترة من الضيق الأميركي أثناء “الحرب الباردة”، أن تهمش الاتحاد السوفياتي وترسي أسس عملية سلام بقيادة أميركية، أنهت عملياً الصراع بين الدول العربية واسرائيل، على الرغم من أنها فشلت في حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
واستطراداً، إن أحد الدروس الأكثر أهمية الذي يُستخلص من حقبة كيسنجر تلك يتمثل في أن التكافؤ في ميزان القوى ليس كافياً للحفاظ على نظام مستقر، إذ تحتاج واشنطن من أجل إضفاء الشرعية على ذلك النظام، إلى العثور على طرق في تشجيع حلفائها وشركائها على معالجة مظالم المنطقة.
وعلى الرغم من أن صناع السياسة يجب أن يكونوا حذرين في جهودهم لصنع السلام بحيث يعطون الاستقرار الأولوية على عقد صفقات نهاية الصراع، إلا أنه ينبغي لهم أيضاً أن يتجنبوا التقصير أو تحقيق أقل مما يتوجب، لأن ذلك يمكنه أيضاً أن يزعزع النظام. وفيما لا توجد رغبة كبيرة في واشنطن لمعالجة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، فمن الضروري أن تقاوم إدراة بايدن الإغراء بإهمال الأمر. وبحسب ما تعلم كيسنجر من تجاربه الصعبة، يمكن للصراعات التي تبدو كامنة أن تثور فجأة متحولة إلى أزمات كاملة في لحظات غير متوقعة. وبالتالي، إن التعامل مع أحد الصراعات المركزية في الشرق الأوسط عبر استخدام استراتيجية كيسنجر التي تشتمل خطوات تصاعدية، يشكل أفضل طريقة في تفادي اندلاع حريق آخر في تلك المنطقة القابلة للاشتعال.
إنه نظام وليس سلاماً
لقد تمثل ما سعى إليه كيسنجر في النظام وليس السلام، لأنه اقتنع بأن السلام لم يكن قابلاً للتحقيق، بل إنه لا يشكل غاية مرغوبة في الشرق الأوسط. وفي رأي كيسنجر، احتاج الحفاظ على النظام في الشرق الأوسط إلى الإبقاء على ميزان القوى مستقراً. وفي أطروحة أعدها لنيل شهادة الدكتوراه ونشرت لاحقاً عام 1957، بعنوان “عالم أُعيد بناؤه”، أشار كيسنجر إلى الكيفية التي عمل فيها الدبلوماسي النمساوي كليمانس فون مترنيخ ورجل الدولة الانغلو- إيرلندي اللورد كاستلري على ضمان 100 عام من الاستقرار النسبي في أوروبا، من خلال العناية البارعة بتوازن القوى والتلاعب الماهر بأولئك الذين حاولوا تعطيل ذلك الاستقرار.
ولقد سعى كيسنجر إلى اتباع ذلك النهج من جديد في الشرق الأوسط حينما سنحت له الفرصة، غير أنه أدرك أن التكافؤ في ميزان القوى لم يكن كافياً، وبالتالي لا بد للنظام كي يكون مستداماً من أن يكون مشروعاً أيضاً، مما يعني أن كل القوى الرئيسة الموجودة ضمن النظام ينبغي أن تلتزم مجموعة من القواعد المقبولة [منها كلها]. ولن تحظى تلك القواعد بالاحترام إلا إذا وفرت شعوراً كافياً بالعدالة لعدد كاف من الدول.
وكتب كيسنجر إنها لا تحتاج إلى إرضاء كل المظالم، بل إلى “غياب المظالم التي من شأنها أن تحفز على محاولة قلب النظام”. وجادل كيسنجر بأن النظام المشروع لا يؤدي إلى زوال الصراع ، بل إلى وضع حدود لنطاق ذلك الصراع.
وقد خلص إلى تلك النتيجة إثر ما لاحظه خلال الحرب العالمية الثانية، حينما أدت المثالية الويلسونية [نسبة إلى الرئيس الأميركي وودرو ويلسون] التي سعت إلى تحقيق سلام يضع حداً للحروب كلها [بعد الحرب العالمية الأولى]، أدت إلى سياسة الاسترضاء [إشارة إلى تعامل الدول الأوروبية مع طموحات هتلر قبل الحرب العالمية الثانية، عبر إعطائه بعض التنازلات على أمل إرضائه وكبح اندفاعه نحو الحرب]، ثم غزو هتلر لأوروبا بدلاً من ذلك السلام.
ووفق ما أورده كيسنجر في مذكراته، “يشكل السلام بالنسبة إلى معظم الناس في معظم مراحل التاريخ وضعية غير ثابتة، ولا يعني غياب التوتر كله على امتداد 1000 عام”. وبالتالي، تجنب كيسنجر بانتظام، في سياق جهوده الدبلوماسية في الشرق الأوسط، السعي إلى إبرام معاهدات سلام، وحاول بدلاً من ذلك التوصل إلى اتفاقات من شأنها أن تجعل الحفاظ على النظام الموجود في مصلحة الأطراف كلها. ووفق ما أوضح بنفسه بعد عقود، “لم أفكر أبداً أنه يمكن أن تكون هناك لحظة مصالحة شاملة”.
وقد جرى التعبير للمرة الأولى عن شكوك كيسنجر [بشأن المصالحة الشاملة] في العنوان الفرعي الذي اختاره لكتابه “عالم أعيد بناؤه: مترنيخ وكاستلري ومشكلات السلام”. وبالتالي، تمثل حقيقة أنه خلص بعد سنوات من البحث العميق إلى أن السلام يكون إشكالاً، أثرت بشكل تكويني [بمعنى بنية التفكير والتصرف عند كيسنجر] على نهجه الدبلوماسي في الشرق الأوسط.
ويشرح في الصفحة الأولى لمقدمة كتابه “عالم أعيد بناؤه”، السبب الذي جعله يخلص الى تلك النتيجة. ويكتب “إن تحقيق السلام ليس بمثل سهولة الرغبة فيه”. وثمة مفارقة في أن السلام استتب في العصور الشبيهة بتلك التي درسها كيسنجر، أكثر من أي عصور أخرى، لأن رجال الدولة المعنيين لم يكونوا يهجسون بالتوسط من أجل تحقيق السلام.
في سياق موازٍ، أعطى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي عاش في القرن الـ 18 تأثيراً آخر على صنع سياسات كيسنجر الشرق أوسطية، إذ اعتقد كانط أن السلام حتمي. في المقابل، استخلص كيسنجر من مقالة لذلك الفيلسوف عنوانها “سلام دائم”، أن الصراع بين الدول سيؤدي مع مرور الوقت إلى استنفاد قواها. وفي نهاية المطاف فإن تلك الدول ستفضل السلام على بؤس الحرب. بعبارات أخرى، تتأتى صناعة السلام عبر عملية تدريجية لا يمكن التسرع في إنجازها. وبحسب إشارة من كيسنجر فقد فهم كانط أن “جذر المعضلة في عصرنا يتبدى في أنه إذا تحول تطلب السلام غاية وحيدة للسياسة، يضحي الخوف من الحرب سلاحاً في أيدي الأكثر قسوة، فينتج من [ذلك التطلب] نزع سلاح أخلاقي”.
وعندما طبق كيسنجر ذلك المنظور على الشرق الأوسط، افترض أن العرب ليسوا مستعدين للمصالحة مع الدولة اليهودية، وإسرائيل لم تكن قادرة على تقديم تنازلات إقليمية طالبوا بها، من دون أن تعرض وجودها للخطر، ولذا فقد طور عملية سلام أتاحت لإسرائيل أن تنسحب بخطوات صغيرة وتصاعدية من الأراضي العربية التي احتلتها في “حرب الأيام الستة” سنة 1967، وجرى إضفاء الشرعية على ذلك النهج عبر شموله قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم (242) الذي نص على تبادل الأرض مقابل السلام.
بيد أن عملية السلام التي وضعها كيسنجر جرى تصميمها بهدف كسب الوقت بدلاً من تحقيق السلام. كسب وقت لإسرائيل من أجل بناء قدراتها وتخفيف عزلتها، ووقت للعرب كي يتعبوا من الصراع ويعترفوا بفوائد العمل مع جار إسرائيلي قوي بصورة متزايدة.
في تلك الأثناء سعى كيسنجر إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط بحذر وارتياب وبطريقة تدريجية، الأمر الذي جعله يسمي طريقته تلك “دبلوماسية الخطوة خطوة”.
كذلك تتمثل المفاهيم الأساسية لنهج كيسنجر الاستراتيجي في التوازن والشرعية أثناء السعي إلى تحقيق النظام، إضافة إلى التصاعدية في السعي إلى تحقيق السلام. لقد نجح في التفاوض على ثلاث اتفاقات مؤقتة بين مصر وسوريا واسرائيل، وأرسى الأسس لمعاهدات السلام اللاحقة التي وقعتها إسرائيل مع كل من مصر والأردن.
في المقابل، بدأت عملية كيسنجر تنهار حينما تجاهل الرئيس الأميركي بيل كلينتون تشديده على وجوب الحذر، إذ حاول [كلينتون] من دون جدوى أن ينهي الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وبعد ذلك شن الرئيس جورج دبليو بوش غزوه المشؤوم للعراق، مما أدى الى زعزعة النظام الذي حققه كيسنجر عبر تمكين إيران الثورية من تحدي الهيمنة الأميركية في العالم العربي السنّي.
بمساعدة محدودة من أصدقائنا
إن مقاربة كيسنجر في الشرق الأوسط وثيقة الصلة بوجه خاص، مع الوقت الحاضر، والآن تتراجع الولايات المتحدة عن المنطقة في خطوة توازي بصورة واضحة انسحاب أميركا في أيام كيسنجر من جنوب شرق آسيا.
في تلك الفترة، كما هو الحال تلك الأيام أدت تداعيات حرب فاشلة استمرت طويلاً إلى فرض قيود صارمة على قدرة واشنطن على نشر قوات في الشرق الأوسط. في المقابل، لقد أدرك كيسنجر حينئذ أن تحقيق توازن مستقر يعتمد على دعم الولايات المتحدة لدبلوماسيتها عبر التهديد بشكل قابل للتصديق، بشن عمل عسكري، ولذلك الغرض أقدم كيسنجر على خطوة ربما بدت مستحيلة، قوامها الاعتماد على حلفاء إقليمين مقتدرين، والعمل معهم.
ومثلاً، سعت “منظمة التحرير الفلسطينية” في سبتمبر (أيلول) 1970 إلى الإطاحة بالملك حسين في الأردن. وساعدت “المنظمة” في محاولتها تلك ثلاثة ألوية مدرعة سورية مدعومة من جانب الاتحاد السوفياتي من خلال احتلال مدينة إربد في شمال الأردن.
واتصل الملك حسين بالولايات المتحدة طالباً منها التدخل لأنه خشي أن تزحف تلك الألوية على عمّان، وآنذاك لم تكن الولايات المتحدة قادرة على التدخل بسرعة كبيرة وانطوى تدخلها على المجازفة بالتورط هناك، فيما لو فعلت.
لذا لجأ كيسنجر أمام إلحاح الملك حسين وبدعم من نيكسون في النهاية، إلى إسرائيل كي تردع السوريين. وهكذا أمرت غولدا مائير رئيس الوزراء الاسرائيلية قوات الدفاع الإسرائيلية بالتعبئة في هضبة الجولان والحدود الأردنية المتاخمة لمدينة إربد، وفي تلك الأثناء نشر كيسنجر مجموعتين قتاليتين مع حاملتي طائرات قبالة الساحل اللبناني، فيما أمر مجموعة ثالثة بدخول البحر الأبيض المتوسط، وذلك بهدف ردع السوفيات.
وبالتالي، تشجع الجيش الأردني نظراً للدعم الأميركي والإسرائيلي الذي حظي به، وألحق خسائر فادحة بألوية المدرعات السورية، فعمد السوريون إلى الانسحاب في غضون أيام، وانتهت الأزمة من دون أن يطأ حذاء عسكري أميركي واحد تلك الأرض.
وفي سياق مماثل، سخر كيسنجر أيضاً دعم الحلفاء الإقليميين في التعامل مع الزعيم القومي المصري جمال عبدالناصر، وحين دخل كيسنجر البيت الأبيض ليعمل مستشاراً للأمن القومي لدى نيكسون في 1969، شكل ناصر النموذج المناسب للثوري الذي يسعى إلى تعطيل النظام الموجود في الشرق الأوسط بالطريقة نفسها التي تحدى بها نابليون النظام الأوروبي في بداية القرن الـ 19. لقد تحاشى كيسنجر، في سياق التعامل مع مناورة ناصر المدعومة من قبل السوفيات العمل على تغيير النظام، وتلك كانت سياسة اتبعتها فرنسا والمملكة المتحدة خلال “أزمة السويس” في 1956 وحققت نتائج كارثية. وبدلاً من ذلك سعى كيسنجر إلى احتواء ناصر من طريق التشجيع على إيجاد ميزان قوى تكون الأرجحية فيه لمصلحة المدافعين الإقليميين عن الوضع السائد، ويشمل ذلك إيران وإسرائيل في قلب الشرق الأوسط. وعززت سياسة “الوفاق الدولي” التي طورها نيكسون وكيسنجر مع الاتحاد السوفياتي، ذلك التوازن لأنه شمل أموراً عدة منها التزام مشترك من جانب القوتين العظميين بالمحافظة على الاستقرار في المنطقة.
وفي ذلك السياق، أدرك كيسنجر أنه يتوجب على واشنطن معالجة مطالب الدول العربية بالعدالة في أعقاب “حرب الأيام الستة” التي خسرت فيها أراض مهمة لمصلحة إسرائيل، وإهمال تحقيق ذلك من شأنه تهديد شرعية النظام الجديد في الشرق الأوسط، ومع ذلك فقد افترض كيسنجر أنه طالما حافظت القوى العظمى على تكافؤ في ميزان القوى الإقليمي، سيكون من الممكن تأخير تحقيق العدالة. لقد أخطأ التقدير بشكل سيء، بحسب ما ظهر في اندلاع “حرب يوم الغفران” سنة 1973.
هنري كيسنجر أعطى الأولوية للنظام وتوازن القوى في سياسته مع الشرق الأوسط
هنري كيسنجر أعطى الأولوية للنظام وتوازن القوى في سياسته مع الشرق الأوسط (الأرشيف الوطني الأميركي)
ففي الفترة التي سبقت تلك الحرب اعتمد كيسنجر على إسرائيل والتقويم الاستخباراتي الأميركي اللذان أفادا بأن مصر لن تجازف على الإطلاق بشن حرب لأن إسرائيل المتفوقة عسكرياً والمدعومة بأسلحة أميركية متطورة ستهزمها بسرعة، وحمل ذلك التحليل كيسنجر على تجاهل الرئيس أنور السادات، خليفة ناصر، حين حذر مراراً وتكراراً من أن مصر ستذهب إلى الحرب إذا لم تحظ تطلعاتها إلى استعادة الأراضي التي فقدتها بالاهتمام.
تجاهل كيسنجر تصريحات السادات حتى حينما صارت لها نبرة مروعة، ومثلاً أعلن الرئيس المصري في مقابلة أُجريت معه أن “كل شيء في البلاد [مصر] خاضع حالياً للتعبئة بشكل جدي من أجل استئناف المعركة التي باتت حالياً حتمية”.
ومع ذلك، حينما غزت مصر في 1973 شبه جزيرة سيناء، وحاولت سوريا استعادة هضبة الجولان، وقد جرى ذلك في أكثر أيام التقويم اليهودي قدسية، انطلق كيسنجر للعمل على عجل بثقة مستمدة من دراسته للنظام الأوروبي في القرن الـ 19، وتمثل هدفه حينذاك في تعديل ترتيبات ما قبل الحرب بطريقة يرى اللاعبون الرئيسون في الشرق الأوسط أنها أكثر عدلاً وإنصافاً. كذلك أراد أن يضع الولايات المتحدة في موقع مناسب لأداء دور المتلاعب المهيمن على القوى المتنافسة في المنطقة.
وبغرض دعم دبلوماسيته من طريق القوة، شجع كيسنجر شن الهجمات الإسرائيلية المضادة. وعندما ساعد ذلك الضغط العسكري في إقناع المصريين والسوفيات بقبول شروط وقف إطلاق النار، طالب إسرائيل بوقف هجومها. ومنع قوات الدفاع الإسرائيلية خصوصاً، من تدمير الجيش المصري الثالث الذي حاصرته في نهاية الحرب. وقد مكن ذلك السادات من الدخول في مفاوضات السلام من دون المساس بنظامه وكرامته اللذين بقيا على حالهما.
بعد ذلك، انتهز كيسنجر فرصة المرونة السائدة في ذلك الوقت لإطلاق عملية سلام تهدف إلى منع مصر، الدولة العربية الأكبر والأقوى عسكرياً، من الدخول في أي تحالف عربي حربي في المستقبل. ومن شأن ذلك أن يجعل نشوب حرب أخرى بين الدولة اليهودية والدول العربية أمراً مستحيلاً. وثمة تشابه لا تخطؤه العين بين مقاربة كيسنجر لمصر وبين الطريقة التي تعامل فيها مترنيخ وكاستلري مع فرنسا بعد هزيمة نابليون، و[السعي إلى] دمجها في النظام الجديد بدلاً من معاقبتها، مع تحويلها من دولة ثورية تدعو إلى التغيير، إلى قوة تشكل جزءاً من الوضع الراهن.
واستناداً إلى تلك المعطيات، فمن المرجح أن كيسنجر كان سيتستخدم اليوم مخططاً أولياً مماثلاً في التعامل مع إيران، الدولة التي تشكل تهديداً واضحاً لكل ما تبقى من نظامه الخاص بشرق أوسط تقوده الولايات المتحدة. ولا يؤيد إسقاط النظام [الإيراني]، بل كان سيسعى بدلاً من ذلك إلى إقناع إيران بالتخلي عن سعيها إلى تصدير ثورتها والعودة عوضاً عن ذلك إلى اتباع سلوك شبيه بسلوك الدول. في غضون ذلك، ينبغي أن تسعى واشنطن إلى إقامة معادلة جديدة يمكن من طريقها احتواء الدوافع الثورية لدى إيران، وتحقيق توازن معها بواسطة تحالف من الدول السنيّة تدخل فيه إسرائيل والولايات المتحدة. في المقابل، بمجرد أن تقرر إيران اللعب وفق القواعد، فسيعتقد كيسنجر أن على الولايات المتحدة أن تتصرف كعنصر مشرف على بقاء التوازن، وتتموضع على نحو يجعلها أكثر قرباً إلى كل واحدة من القوى الشرق أوسطية المتنافسة، من قرب كل منها إلى الأخرى.
إذ يرى كيسنجر “يمكن للولايات المتحدة، في إطار سعيها إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية الخاصة أن تكون عاملاً حاسماً، وربما العامل الحاسم في تحديد إذا كانت إيران ستسلك طريق الإسلام الثوري، أو مسار أمة عظيمة موجودة بشكل مشروع ومهم ضمن نظام “ويستفاليا” [يتكون من دول مستقلة تتعاون على أساس مبدأ حفظ السيادة] من الدول على مستوى العالم”.
إحذر من السعي إلى تحقيق أهداف بعيدة المنال
وباعتبار أن كيسنجر كان يعمل في بيئة متقشفة، فقد أدرك بعمق أخطار المغالاة وتجاوز الحدود، لكن بحسب ما يلفت في كتابه “عالم أعيد بناؤه” إذ يوضح أن “ما يُلهم الناس لا يتمثل في التوازن بل العالمية، وليس الأمن بل الخلود”.
وبحسب ما ذكر بشكل مفصل في كتابه الضخم المعنون “دبلوماسية” الذي صدر في 1994، فنادراً ما يستوعب رجال الدولة الأميركيين أو يحترموا قواعد اللعبة التي يتطلبها مفهومه [كيسنجر] للنظام الدولي، وغالباً ما تكون مثاليتهم مدفوعة بإحساس له علاقة بالعناية الإلهية، خصوصاً حين يتصل الأمر بالشرق الأوسط، إذ يتصورون أن السعي إلى تحقيق السلام وبناء الأمة ليس مجرد أمر مرغوباً فيه، بل أمر قابل للتحقيق، وتكون المشكلة الوحيدة التي تبرز [أمامهم] هي التوصل إلى الصيغة الصحيحة.
وفي ذلك الملمح تكمن المعضلة الموجودة في صميم الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط. وبحسب ما فهم كيسنجر، إن الحفاظ على النظام يستدعي بذل جهد جدي يحوز صدقية بهدف حل الصراع في المنطقة، غير أن مستوى طموح رجل الدولة قد يؤدي إلى زعزعة استقرار ذلك النظام.
دعونا نتأمل كيف تجسدت غريزة نيكسون الأولى في العمل مع الاتحاد السوفياتي لفرض السلام على زبائنهما المتمردين في الشرق الأوسط. سافر كيسنجر في خضم “حرب الغفران” إلى موسكو للتفاوض على شروط وقف إطلاق النار مع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف.
وتلقى أثناء سفره تعليمات من نيكسون عن “بذل قصارى الجهد” بغرض تحقيق تسوية عادلة “الآن” والعمل مع بريجنيف “بهدف ممارسة الضغط اللازم على أصدقاء كل منا”.
وتالياً، لقد هدد ذلك بأن يقلب الاستراتيجية الأكثر تواضعاً التي وضعها كيسنجر رأساً على عقب، وقد هدفت استراتيجيته تلك إلى التوصل لوقف إطلاق للنار تنظم بعده مفاوضات مباشرة بين المصريين والإسرائيليين.
وإذ شعر كيسنجر بغضب شديد، فقد تجاهل تعليمات الرئيس نيكسون، لا سيما أنه وجه إليه تلك الرسالة تماماً في الوقت الذي أمر فيه [نيكسون] بإنهاء خدمات أرشيبالد كوكس، المدعي الخاص في قضية “ووترغيت” [فضيحة تجسس البيت الأبيض على مقر الحزب الديمقراطي في “ووترغيت” إبان انتخابات الرئاسة آنذاك]. واشتملت “مذبحة يوم السبت” التي وقعت بعد ذلك على استقالة اثنين من كبار المسؤولين في وزارة العدل قررا التنحي كي لا ينفذا أمر نيكسون، مما حمل قادة الكونغرس على الشروع بإجراءات عزل الرئيس.
وفيما تركز الاهتمام كله على السياسة المحلية في الولايات المتحدة، استطاع كيسنجر أن يتابع العمل على تنفيذ أولوياته في الشرق الأوسط.
وقد نجح في تحقيق إنجاز مماثل في ظل فورد الذي خلف نيكسون، فعندما انهارت المفاوضات بين السادات وإسحاق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي في فبراير (شباط) 1975، أراد فورد عقد مؤتمر في جنيف مع الاتحاد السوفياتي من أجل فرض تسوية سلمية شاملة على إسرائيل وجيرانها العرب، إلا أن كيسنجر أعاق تنفيذ تلك المبادرة، كي يضمن العودة إلى دبلوماسيته المكوكية التي جعلت مصر وإسرائيل أقرب إلى إبرام صفقة السلام النهائية معاً.
واستطراداً، أبدى رؤساء الولايات المتحدة الذين جاؤوا بعد نيكسون وفورد ميلاً إلى متابعة السعي إلى تحقيق أهدافهم المثالية في الشرق الأوسط من دون أن يولوا اهتماماً كافياً للإبقاء على النظام الذي أسسه كيسنجر، إذ أعاد الرئيس جيمي كارتر إحياء فكرة العمل مع الاتحاد السوفياتي لإعادة عقد مؤتمر جنيف بهدف فرض سلام شامل، وفي هذه المرة تولى السادات منع تنفيذ مبادرة الرئيس الأميركي من خلال رحلته إلى القدس في نوفمبر 1977. وسعى كارتر في “كامب ديفيد”، بعد سنة من تعرضه لتلك العقوبة [إفشال فكرة مؤتمر جنيف]، إلى تحقيق اتفاق سلام مصري- إسرائيلي منفصل، بدلاً من تسوية شاملة كان من شأنها أن تشمل حلاً للقضية الفلسطينية.
وبعد ما يزيد على عقدين من الزمن، استجاب كلينتون لإصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك على محاولة التوصل إلى اتفاق نهائي للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في “كامب ديفيد” خلال يوليو (تموز) 2000، متخلياً عن عملية الخطوة خطوة الدبلوماسية الكينسجرية التي طرحها رابين في “اتفاقات أوسلو”.
لقد فهم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أن باراك وكلينتون عازمين على فرض حل سلمي نهائي على الفلسطينين، ورفض الموافقة على ذلك. ولم يطل الوقت بعد ذلك، حتى اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية والقمع الإسرائيلي الذي جاء بعدها. وهكذا ظهر وضع يشبه حريقاً عنيفاً استمر خمس سنوات، مما أدى الى سقوط آلاف الضحايا، وتدمير الثقة بالكامل بين الطرفين. وفيما بعد، على الرغم من ذلك، سيحاول الرئيسان الأميركيان باراك أوباما ودونالد ترمب، ويفشلان، التوصل إلى اتفاقات لإنهاء الصراع.
وفي سياق موازٍ، قاوم جورج دبليو بوش إغواء صناعة السلام الشامل، لكنه استسلم للرغبة الجامحة في ما سماه كيسنجر قبل زمن بعيد بـ”الخلود”، فبعد الإطاحة بطالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، أعلن بوش عن “أجندة الحرية” في الشرق الأوسط، موضحاً أن الترويج للديمقراطية في أنحاء المنطقة، “يجب أن يكون محور السياسة الأميركية لعقود من الزمن في المستقبل”.
اتبع هنري كيسنجر سياسة الخطوة خطوة في التعامل مع الرئيس أنور السادات بعد حرب أكتوبر 1973
اتبع هنري كيسنجر سياسة الخطوة خطوة في التعامل مع الرئيس أنور السادات بعد حرب أكتوبر 1973 (ويكيميديا كومونز.أورغ)
وجاءت النتيجة كارثية. وأدت في غالبية الأحوال إلى تمهيد الطريق أمام محاولة إيرانية للسيطرة في العراق وأنحاء المنطقة، وكذلك نقل بوش أيضاً هدف الولايات المتحدة في أفغانستان من مكافحة الإرهاب إلى مكافحة التمرد وبناء الدولة. وقاد ذلك القرار أيضاً إلى الفشل والإذلال. وبعد 20 عاماً توجب على كيسنجر الذي بلغ التسعينيات من عمره، أن يشير إلى أن “الأهداف العسكرية [كانت] مطلقة للغاية ولايمكن تحقيقها، والأهداف السياسية مجردة ومراوغة للغاية”.
مخاطر السعي إلى تحقيق أهداف متواضعة أكثر مما يجب
خلافاً لصناع السياسة الأميركيين ممن جاؤوا بعده، صمم كيسنجر على تجنب المبالغة وتجاوز الحدود، في الشرق الأوسط. في المقابل، ظهرت حالات عدة أدى فيها حذره وشكه إلى التقصير في القيام بالحد الأدنى بدلاً من تجاوزه. ويمثل ذلك أيضاً الخطر الذي يواجهه الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط حالياً بعدما أنهى الحرب في أفغانستان.
وبالنسبة إلى كيسنجر، فإن أولى أمثلة السعي إلى تحقيق أهداف متواضعة أكثر مما ينبغي جاءت في يوليو (تموز) 1972 حين أعلن السادات بصورة مفاجئة طرد 20 ألف مستشار عسكري سوفياتي من مصر. شكل ذلك ما دعا إليه كيسنجر قبل عامين، ولكن حينما حدث ذلك فعلاً لم يشعر بالحاجة إلى الاستجابة له.
وقد أُصيب السادات بخيبة أمل. وقبل خمسة أيام من إعلانه عن الطرد، بعث برسالة إلى كيسنجر معرباً فيها عن رغبته في إرسال مبعوث خاص إلى واشنطن. وقد سيستغرق الأمر سبعة أشهر قبل أن يرتب كيسنجر لقاء مع حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي للسادات.
استحوذ العرض الذي قدمه إسماعيل على اهتمام كيسنجر، إذ أوضح المبعوث المصري أن بلاده مستعدة للتحرك بسرعة قبل الدول العربية الأخرى، حتى إنها ستؤيد بقاء وجود أمني إسرائيلي في سيناء شرط اعتراف تل أبيب بالسيادة المصرية على المنطقة.
ولكن حينما أطلع كيسنجر رابين الذي عمل وقتذاك سفيراً لغولدا مائير في واشنطن، على الطرح المصري، رفض السفير الإسرائيلي عرض إسماعيل بوصفه “ليس شيئاً جديداً” ورفضته مائير أيضاً، وتخلى كيسنجر عن الفكرة بصمت. التقى إسماعيل كيسنجر مرة أخرى في مايو (آيار) 1973، وخرج من الاجتماع معتقداً أن حسابات كيسنجر لن تتغير إلا بفعل أزمة ما، وبعد أربعة أشهر شن السادات حرب “يوم الغفران”.
استكمالاً، لا يمكن معرفة إذا كان من شأن إجابة أكثر فاعلية من قبل كيسنجر منع نشوب الحرب أم لا، لكن من الواضح أنه قصر في فعل الحد الأدنى، وذلك بسبب ثقته الخاطئة باستقرار التوازن الذي أسسه بنفسه.
لقد أغفل في الممارسة العملية شيئاً سبق أن أدركه من الناحية النظرية، وهو أن استقرار أي نظام دولي “يعتمد على الدرجة التي تشعر فيها مكوناته بالأمان، واتفاقها على مدى “عدالة” و”إنصاف” الترتيبات السارية”، ولذلك السبب فقد عالج كيسنجر في أعقاب “حرب الغفران” النقص الذي عانته العدالة، عبر إطلاق مفاوضات مباشرة بهدف التوصل إلى انسحابات إسرائيلية من أراض عربية.
في المقابل، لم تكن العدالة للفلسطينيين على أجندة كيسنجر لأن “منظمة التحرير الفلسطينية” ممثلتهم حينذاك، شكلت حركة تحررية فاعلة وغير حكومية وتنشر تكتيكات إرهابية في محاولة للإطاحة بالمملكة الهاشمية في الأردن، والحلول محل الدولة اليهودية، وقد فضل أن يترك المشكلة الفلسطينية لإسرائيل والأردن. وفي تلك الحال قاده حذره إلى تفويت الفرصة التي سنحت في 1974 من أجل الترويج لدور الأردن في معالجة المطالبات الفلسطينية. ولقد جسدت تلك الفرصة اللحظة الأخيرة التي يمكن فيها معالجة المشكلة الفلسطينية عبر مفاوضات دولتين مع بعضهما بعضاً، هما الأردن وإسرائيل.
وتفصيلاً، ففي ذلك الوقت ارتبط الأردن بعلاقات خاصة مع فلسطيني الضفة الغربية الذين كانوا من مواطنيه. ويعود الفضل للبريطانيين في أن المملكة الهاشمية تمتعت بحكومة عاملة تؤدي دورها، وجيش جدير بالثقة ومنظمة استخبارات فاعلة. وعلى عكس “منظمة التحرير الفلسطينية” التي دخلت عملية السلام في 1993 من دون مؤسسات حكومية، امتلك الأردن القدرة على ضمان تنفيذ أي اتفاق يجري التوصل إليه مع إسرائيل، وفق ما فعل مع التزامات معاهدة السلام الخاصة به، وبذلك بدا ممكناً تطوير اتحاد كونفيدرالي بين دولة فلسطينية في الضفة الغربية وبين الممكلة الهاشمية في الضفة الشرقية.
وسعياً إلى تحقيق ذلك توجب على كيسنجر أن يسعى إلى اتفاق لفض الاشتباك بين إسرائيل والأردن بعدما أبرم اتفاقات بين إسرائيل ومصر من جهة، وبين إسرائيل وسوريا من جهة ثانية.
لقد حرص الملك حسين على استعادة موطئ قدم له في الضفة الغربية، وكذلك أبدى الإسرائيليون استعداداً للتفاعل، وحتى إظهار بعض المرونة، لكن تجنب كيسنجر مراراً المشاركة في ذلك الجهد. لقد شجع الملك حسين على التعامل مباشرة مع الإسرائيليين، وقد فعل الملك ذلك، وحذر كيسنجر الإسرائيليين من أنهم إن لم يستجيبوا [للملك حسين] سيضطرون في نهاية الأمر إلى التعامل مع “منظمة التحرير الفلسطينية”، وشكل ذلك توقعاً بعيد النظر جاء من جانب كيسنجر، ولكن بعد ذلك أصر مراراً وتكراراً على أنه لن يمارس ضغطاً، إذ “لا يوجد سبب يحمل [الولايات المتحدة] على أن تكون وسيطاً”.
في ملمح متصل، لم يكن الإسرائيليون والأردنيون قادرين على التوصل إلى اتفاق من دون المشاركة الأميركية. وأعلنت جامعة الدول العربية في القمة التي عقدت في الرباط خلال أكتوبر (تشرين الأول) 1974 أن “منظمة التحرير الفلسطينية” تجسد “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”، الأمر الذي وضع حداً نهائياً للفرصة التي سنحت من قبل بحل المشكلة الفلسطينية في سياق أردني. وفي وقت لاحق، اعترف كيسنجر صراحة بأنه قد ارتكب “غلطة كبيرة”.
في المقابل، لقد امتلك كيسنجر أسباباً في ذلك، وعلى الرغم من أنه أحب الملك حسين فإنه لم ينظر إلى الأردن كلاعب رئيس في الشرق الأوسط، وأعتقد أن ذلك يعني أنه لم يكن عليه بذل جهود دبلوماسية بالنيابة عن المملكة الهاشمية، وبدلاً من ذلك كرس كيسنجر نفسه للتوصل إلى اتفاق مصري- إسرائيلي ثان، لأن إخراج مصر من الصراع مع إسرائيل شكل هدفه الاستراتيجي الأهم. كان من شأن متابعة العمل على تحقيق خيار أردني، أن تتداخل مع تلك المحاولة مع إمكان أن تثير صراعاً بين الأردن و”منظمة التحرير الفلسطينية”، وكذلك ستطرح مسألة من سيسطر على القدس التي تمثل قضية خلافية كبيرة للغاية سعى كيسنجر إلى تفاديها بأي ثمن.
تحت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، صاغ كيسنجر استراتيجية مكنت أميركا من كسب الشرق الأوسط استراتيجياً
تحت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، صاغ كيسنجر استراتيجية مكنت أميركا من كسب الشرق الأوسط استراتيجيا (مؤسسة ريتشارد نيكسون)
وساعد كيسنجر إيمانه بالتسلسل الهرمي للقوة على تحديد الأولويات، غير أن ذلك معناه أيضاً أنه لم يول قدراً كبيراً من الاهتمام للطريقة التي يمكن بها للدول الأقل قوة وحتى للجهات الفاعلة غير الحكومية أن تعطل نظامه الذي جرى تحقيقه بشق الأنفس، إذا لم يتمكن الترتيب الذي ساعد في وضعه موضع التنفيذ أن يوفر لهما قدراً ضئيلاً من العدالة على الأقل.
علامات التحذير في المستقبل
من المستطاع أن تقدم أخطاء كيسنجر وإنجازاته دروساً قيمة لبايدن في تعامله مع الشرق الأوسط بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وبينما ينقل بايدن انتباهه إلى أولويات أكثر إلحاحاً في أماكن أخرى، يجب أن يكون هدف دبلوماسيته في الشرق الأوسط، تشكيل نظام إقليمي مدعوم أميركياً، لم تعد الولايات المتحدة اللاعب المهيمين فيه، حتى مع بقائها الأكثر نفوذاً فيه.
ويحتاج ذلك النظام في صميمه إلى ميزان قوى تجري المحافظة عليه من خلال دعم الولايات المتحدة حلفائها الإقليميين، أي إسرائيل والدول العربية.
في المقابل، يتعين على بايدن أن يعمل مع الفاعلين المستعدين أداء أدوار بناءة في تثبيت نظام الشرق الأوسط واستقراره. سيؤدي ذلك إلى ظهور بعض الرفقاء الغريبين وغير المريحين، وسيشمل الأمر التعاون مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشأن غزة، والعمل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سوريا، ومعهم جميعاً من أجل احتواء طموحات إيران في الهيمنة والمضي ببرنامجها النووي قدماً إلى الأمام.
ستتصرف قلة من هؤلاء الحلفاء والشركاء على نحو يتوافق مع قيم الولايات المتحدة. ومع ذلك، ووفق ما تظهره تجربة كيسنجر في الشرق الأوسط، فستحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز شعور كاف بالعدالة والإنصاف لإضفاء الشرعية على النظام الناشئ، إذ يصرخ الناس في أنحاء المنطقة مطالبين بحكومات قابلة للمساءلة، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تأمل بتحقيق تلك المطالب، إذ سيكون معنى ذلك أن تبالغ وتتجاوز الحدود من جديد، لكنها لا تسطيع أن تتجاهلهم أيضاً.
وبشكل مماثل، سيكون مهماً الترويج لعملية سلام تعمل على تخفيف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني مهماً لناحية معالجة مظالم المنطقة.
إن ذلك بعيد للغاية من قمة أولويات بايدن، وقد شهد عن كثب في 2014، حين كان نائباً للرئيس، عدم رغبة القادة الإسرائليين والفلسطينيين على حد سواء في أن يغامروا على نحو معقول من أجل السلام، وعليه ألا يتخيل أنه سيتمتع بالخلود من خلال محاولة إجبارهم على فعل ذلك. وكذلك يقبل حجة نفتالي بينيت رئيس الوزراء الاسرائيلي بأن حكومة الائتلاف اليساري- اليميني الإسرائيلية لا يمكنها أن تنجو بعد عملية سلام تتطلب إنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويفترض بايدن شأنه شأن كيسنجر في 1973، أن الوضع الراهن مستقر. وعلى غرار كيسنجر في 1974 أيضاً، يرى بايدن أن المشكلة الفلسطينية هي مشكلة ستتعامل إسرائيل معها، وسيميل إلى أن يضع جانباً أي ضغوط تدفعه باتجاه محاولة حلها.
بيد أن علامات التحذير بادية للعيان، إذ توشك السلطة الفلسطينية على الانهيار. وفقد محمود عباس الرئيس الفلسطيني كل صدقيته بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، بينما تكتسب “حماس” التي تتبنى عقيدة المقاومة العنيفة، مزيداً من الشعبية.
ومن شأن انتصار “طالبان” في أفغانستان أن يعزز حجة “حماس” بأن استراتيجيتها تشكل السبيل الوحيد لتحرير أراض فلسطينية. علاوة على ذلك، يتزايد عدد الفلسطينين الذين يسقطون ضحايا المواجهات مع الجيش الإسرائيلي بمعدل ينذر بالخطر، وتسمح الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى بالصلوات اليهودية عند ما يسميه اليهود “جبل الهيكل” ويدعوه المسلمون “الحرم الشريف” [المسجد الأقصى]، وتلك خطوة تحريضية للغاية يمكنها أن تلهب المشاعر.
إن المادة الخام جافة جداً إلى درجة تجعلها قابلة للاشتعال بسرعة، حتى إن مجرد عملية هرب بسيطة من السجن نفذها سجناء فلسطينيون في سبتمبر (أيلول) الماضي، أدت إلى المجازفة بإضرام شرارة انتفاضة أُخرى.
ومنذ سنوات، يحذر صناع السياسة الأميركيون من أن الوضع الراهن الإسرائيلي- الفلسطيني غير قابل للاستمرار، ومع ذلك فإنه يبدو محافظاً على نفسه، وقد نبه الخبراء من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، لكن حينما فعل ترمب ذلك لم يحصل شيء.
يبدو الأمر شبيهاً تماماً بسبعينيات القرن الماضي، حين هدد السادات بالحرب طوال سنوات من دون أن يحدث شيء، حتى جاء ذلك اليوم الذي وقعت فيه الحرب. ومن أجل التقليل من احتمال انفجار العنف سيحتاج بايدن إلى أن يشجع عملية سلام إسرائيلية – فلسطينية تدريجية بغية إعادة بناء الثقة وتعزيز التعايش العملي، على غرار ما فعل كيسنجر تماماً في إطار جهوده لإخراج مصر من الصراع مع إسرائيل، وقد اقترح بينيت إجراء تغييرات اقتصادية مثل السماح لمزيد من الفلسطينيين بالعمل في إسرائيل كخطوة أولية.
ومع ذلك فإن مثل تلك التحركات وحدها لن تكون كافية لإضفاء الصدقية على عملية شوهتها الاخفاقات السابقة. وكذلك تتطلب الجهود المطلوبة [من بايدن] حصول عملية سياسية أيضاً، حتى لو جاءت متواضعة وواقعية، يمكن أن تشمل وقف إطلاق النار على المدى الطويل في غزة، وإخضاع مزيد من الأراضي على مراحل للسيطرة الفلسطينية الكاملة في الضفة الغربية.
وكخلاصة، في أعقاب الانسحاب من أفغانستان، ليس من المرجح أن يبالغ بايدن ويتجاوز الحدود في منطقة الشرق الأوسط، لكن بحسب ما يمكن لكيسنجر أن يخبره سيكون من الخطأ بالنسبة إليه [بايدن] أن يدير ظهره إليها.
اندبندت عربي