يرى كثيرون أن جوهر التدخل العسكري الروسي المتزايد في سورية حالياً، يهدف في نهاية الأمر إلى تثبيت مساعي النظام للحفاظ على ما تسميه إيران “سورية المفيدة”، التي يُمنع سقوطها بأي حال، وتضمّ الساحل السوري ودمشق وحمص. من هنا، يفسر البعض تزايد الحضور الروسي في منطقة الساحل، على أنه مسعىً روسي من قبل موسكو، لتنفيذ هذا المشروع من جهة، ولموازنة التواجد الإيراني فيها من جهة أخرى، تحسباً لاحتمالات نجاح مشروع التقسيم.
ويبدو أن الروس قد بدأوا يشعرون بعد مساندة النظام لأكثر من أربعة أعوام ودفع مبالغ مالية طائلة، بأنهم فقدوا الكثير من نفوذهم في سورية لصالح إيران، والتي باتت تسيطر على جميع مرافق الدولة وحتى على القرارات السياسية المتعلقة بالحلّ السياسي بما يخدم مصالحها في المنطقة. هذا ما يُفقد روسيا قدرتها على فرض تسوية سياسية بناءً على بيان جنيف، القائم على الانتقال السياسي من دون أركان النظام. ويبدو أن هذا التخوّف الروسي قد دفع موسكو إلى التفكير بعقلية جديدة، وهي التوسّع في سورية من خلال ابتداع فكرة تشكيل تحالف لمكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) والقضاء عليه، ولكن انطلاقاً من المناطق التي يسيطر عليها النظام. وذلك في محاولة روسية لإضفاء شرعية دولية على تدخلها في سورية من بوابة “محاربة الإرهاب”. وفي سياق هذه التطورات الميدانية المتسارعة نتساءل عن حثيثيات التدخل الروسي في سورية وأثره المستقبلية على مصالح إيران وحليفها حزب الله في سورية.
الدولة التي تصرفت على الأرض منذ مدة مبكرة على أن حكم الرئيس السوري بشار الأسد قد انتهى، لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية ولا «أصدقاء الشعب السوري». كما أن هذا الدولة لم تكن روسيا، إذ إنهما أي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا اتفقتا منذ منتصف ٢٠١٢ على «مرحلة انتقالية» وهيئة حكم من المعارضة والموالاة تحافظ على مؤسسات الدولة لمنع تكرار تجربة العراق بعد الإحتلال الأمريكي له في العام2003م . لم يفكرا جـــدياً في ما وراء مؤسسات الحكم. كانت موسكو تستخدم الأزمة السورية لضبط خساراتها في الشرق الأوسط بعد العراق وليبيا وتحسين موقعها على سلم القوى الدولية، فيما كانت واشنطن لا تريد الفوضى الكـــاملة في ما تبقى من سورية وتضـــغط كي يتخلى الرئيس السوري بشار الأسد عن ملفاته الرئيسية، خصوصاً الترسانة الكيماوية، ثم لاحقاً عدم ممانعة متابعة الجهاديين الذين يقاتلون «حزب الله» على الأرض السورية لعشر لسنوات أخرى، والضغط على إيران في المفاوضات النووية، طالما أن الأزمة السورية «محتواة ضمن الحدود».
المشروع الإيراني كان في مكان آخر. استراتيجية طهران كانت أيضاً في مسار آخر. بعد اندلاع «الربيع العربي» ووصول رياحه إلى دمشق، وضعت إيران كل إمكاناتها الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، لمنع وصول عدوى الميادين إلى سورية بدءاً من «ساحة الساعة» في حمص وسط البلاد، لكنها كانت تدرك أن النظام انتهى بنيوياً، ولا بد من نظام جديد وجغرافيا جديدة وعقد اجتماعي جديد بين النظام والجغرافيا والديموغرافيا.
كانت الرؤية واضحة والأدوات موجودة. وعاد كل حلفائها في العراق وسورية ولبنان إلى الوظيفة التقليدية في المشروع الإيراني. انخراط من دون قفازات. راحت إيران تعمل بهدوء لتأسيس «نظام ظل» يتضمن الكثير من المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولعل إحدى الأدوات الرئيسية تلك الميليشيات البعيدة من سلطة المركز كما هي الحال في دول أخرى. نسخ الحرس الثوري الإيراني تجربة «الباسيج»، وأسس «قوات الدفاع الوطني» لتكون تحت تأثير إيراني مباشر عبر تدريبها في إيران وتقديم التمويل ووجود مرشدين في مناطق سوريّة عدة. ويُعتقد أن عدد مقاتلي «قوات الدفاع» يبلغ حوالى مئة ألف مقاتل.
واللافت أن غالبية أفرادها من السنّة المهمّشين والعاطلين من العمل الذين تحـــولوا في فترة قصيرة وهم في مقتبل العمر، إلى أصحاب نفوذ وسلطة وأموال عبر منح رواتب عالية وأسلحة ولباس عسكري موحد. دورهم هـــو ضبط المجتمع المحلي وأن يكونوا مصدّاً في مواجهة مــــقاتلي المعارضة وعيوناً للتجسس على المجتمعات النائية.
اللجوء إلى «الدفاع الوطني» كان لتعويض الخسائر التي مُني بها الجيش النظامي، إذ تتحدث مصادر عن مقتل أكثر من مئة ألف عنصر وضابط وفق قيود شعبة التنظيم والإدارة في وزارة الدفاع، إضافة إلى تراجع حاد في عدد المجندين إلى بضعة آلاف في كل ستة أشهر بعدما كان العدد يتجاوز ٦٠ ألفاً قبل ٢٠١١، وحصول انشقاقات كبيرة في مناطق سنّية وتهرُّب شباب مناطق الساحل من الخدمة إلى المهجر. كل ذلك أدى إلى تقلُّص عدد الجيش النظامي إلى حوالى مئة ألف مجنّد. قوبل ذلك بفرض قيود على تطبيق الاحتياط ومنع سفر شرائح واسعة من الشباب على البوابات الحدودية ووقف خطوط نقل بحري كان يستخدمها أبناء الساحل.
إضافة إلى ذلك، سعت إيران إلى توسيع شرائها العقارات وتوسيع المزارات الشيعية في دمشق وحمص وتسهيل ظهور طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين استفادوا من العمولات الناتجة من التحايل على العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة، خصوصاً في مجالي قطاع النفط والطاقة والمواد الغذائية. كما وضع «أمراء الحرب» أعينهم على المخططات الجديدة لإعادة إعمار المناطق المدمّرة في العاصمة، لمزج المكاسب المالية بتغييرات في ديموغرافيا العاصمة تضاف إلى «حزام الفقر» الذي زنّر دمشق في العقود السابقة ولعب دوراً رئيسياً في السنوات الأربع سواء في المرحلة السلمية أم العسكرية.
جديد إيران، إقدامها على إعلان قيادة الملف العسكري على الأرض. لم يكن خافياً دور «الحرس الثوري الإيراني» ولا دور الميليشيات العراقية والآسيوية ولا دور «حزب الله» في الصراع المسلح منذ نهاية ٢٠١٢. لكن طهران قررت إعلان دورها بوضوح في المعارك. بداية في معارك ريف حلب شمالاً، ثم في «معركة الجنوب» في مثلث دمشق ودرعا والقنيطرة قرب الجولان المحتل من إسرائيل والأردن بوابة الخليج.
أغلب الظن أن إيران تحاول أن ترث النظام السوري في سورية كما سبق أن ورثته في لبنان. اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري وفرض عزلة على دمشق، ثم خروج الجيش وقوات الأمن من لبنان في 2005، أمور أنهت حقبة من الوجود السوري في لبنان. هذا الوجود كان ضمن «قواعد لعبة» فرضت منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية وصولاً إلى اتفاق الطائف. دخول سورية كان بضوء أخضر أميركي – روسي في النصف الثاني من السبعينات أُعطي إلى الرئيس حافظ الأسد. انتقل الوجود إلى مرحلة ثانية باتفاق الطائف بتفاهم إقليمي مع السعودية مستفيداً من انتهاء الحرب الباردة. كما استفاد الأسد من الدخول في عملية السلام و «عاصفة الصحراء» للقضاء على الجنرال ميشال عون والسيطرة على القرار اللبناني لأكثر من عقدين. أيضاً، تضمّن الوجود السوري تفاهماً حول «الخطوط الحمر» حول طبيعة الأسلحة التي يمكن أن تنتشر في جنوب لبنان بعد انسحاب إسرائيل.
خرجت سورية من لبنان. وفقدت قيادتها وشراكتها في إدارة لبنان. وفي السنتين الماضيتين، كان لدور «حزب الله» وإيران الحصة الأكبر في إنقاذ النظام. وها هي إيران، تحاول طرح معادلة في سورية شبيهة بالمعادلة التي طرحتها سورية في لبنان. تحاول الإفادة من الحرب على الإرهاب وتسهيل مهمة التحالف الدولي – العربي ضد «داعش» والمفاوضات النووية، كي تعرُض الصفقة الآتية: أمن إسرائيل والخليج مقابل السيطرة على القرار في بلاد الشام وفي العراق، بحيث يترك لها ملف إدارة السياسة بما يراعي مصالح الغرب والخليج. في قيادتها «معركة الجنوب» تفتح ملفاً تفاوضياً كانت خسرته بعد صدور القرار ١٧٠١ بعد حرب عام ٢٠٠٦. تعرض نفسها شريكاً عقلانياً يعرف قواعد اللعبة في «سورية المفيدة» بدل جنون «جبهة النصرة» والفصائل المعارضة. تعرض نفسها ضامنة لاتفاق فك الاشتباك بين سورية وإسرائيل لعام 1974، وإعادة «القوات الدولية لفك الاشتباك» (أوندوف). تعرض نفسها أيضاً سداً منيعاً أمام تقدم «داعش» إلى الأردن، ثم إلى الخليج.
لا يُقلق هذا العرض إدارة الرئيس باراك أوباما. واشنطن مستعدة للتفاوض عليه. ودعمها «المعارضة المعتدلة» السورية ضمن جهود التفاوض مع إيران عبر «نزفها» وجلبها إلى طاولة التفاوض. لكن العرض الإيراني، مقلق أكثر لفلاديمير بوتين. روسيا كانت منذ بداية الأزمة توفر الغطاء والحماية للنظام في مجلس الأمن عبر حق النقض (فيتو) المدعوم من الصين. كانت أيضاً، تقدم الدعم العسكري والمالي إلى مؤسسات الدولة السورية. موسكو ترى نفوذها تاريخياً في المؤسسات التقليدية، خصوصاً الجيش والأمن. طهران ترى نفوذها في المؤسسات غير الحكومية. روسيا تؤمن بحل «من فوق إلى تحت» عبر تفسيرها لـ«بيان جنيف» والهيئة الانتقالية. إيران تؤمن بحل «من تحت إلى فوق» من بوابة اقتراح المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لأنه يعطي دوراً أكبر للقادة المحليين والميليشيات.
المؤشرات الآتية من موسكو، تدل على قلق روسي من النيات الإيرانية. بعثت روسيا أكثر من رسالة غامضة، عبر تبنّي قرارات دولية بينها التخلي عن الترسانة الكيماوية ٢١١٨، وقرارات المساعدات الإنسانية بما فيها «العابرة للحدود»، ثم قرار منظمة حظر السلاح الكيماوي لرفع ملف استخدام الكلور إلى مجلس الأمن، ذلك بعد موافقتها على بيان جنيف في ٢٠١٢ ومشاركتها في المؤتمر الدولي في بداية العام الماضي. وبدأ الاختلاف في المواقف تدريجيا، وإن بشكل خفي، بين طهران وموسكو وظهر خاصة في الملف اليمني، حيث دعم الروس القرار 2216 الذي يخدم السعودية وحلفاءها اليمنيين، ويساعد على محاصرة الحوثيين المرتبطين بإيران. مما لا شك فيه، أن هناك تطابق بين روسيا وإيران في الهدف في المدى القصير وهو منع النظام من الانهيار ومنع تغيير النظام،كي تحافظ إيران على ممر الإمداد العسكري لحزب الله، لكن في المدى البعيد هناك افتراق في الأهداف والأولويات بين تركيز طهران على البعد الطائفي والعقائدي ودعم الميلشيات والمحليات، مقابل تركيز موسكو على المصالح والصراع السياسي ودعم مؤسسات النظام والحكومة والحلول العامة – الوطنية
من هنا جاء التدخل العسكري الروسي في سوريا كمحاولة لإعادة الهيبة إلى الجيش السوري وتفكيك الميليشيات الموالية لإيران، بينما تحاول طهران منع حدوث ذلك أو على الأقل تأجيله. وما يدعم هذا التحليل هو إعلان من مقر القاعدة العسكرية الروسية في اللاذقية غرب سورية خطة لحل «قوات الدفاع الوطني» التي ساهمت إيران في تأسيسها قبل بداية 2013 لدعم القوات النظامية في قتال مقاتلي المعارضة في مناطق مختلفة، لكن تطبيق القرار قد يواجه تحديات، بسبب النفوذ الكبير الذي تحظى به هذه الميلشيات وضمها عشرات آلاف المقاتلين. وهذا ما أكد عليه قاسم سليماني حينما قال الأمريكيون والروس يسيطرون على المجال الجوي السوري ونحن نسيطر على المجال البري.
وكان رئيس الأركان في الجيش السوري العماد علي أيوب أعلن في بيان من مقر غرفة العمليات الروسية- السورية في قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، تشكيل «قوات بشرية مزودة بالسلاح والعتاد كان أهمها الفيلق الرابع– اقتحام»، الذي تولى بداية عملية الهجوم البري مدعوماً بغارات مكثفة من الطيران الروسي في ريفي حماة وإدلب في وسط البلاد وشمالها الغربي. وأفيد بأن «الفيلق الرابع- اقتحام» سيكون وريثاً لقوات الدفاع الوطني.
وتزامن الحديث عن خطة تفكيك «قوات الدفاع» مع تعرض اتفاق الهدنة بين مدينة الزبداني قرب دمشق وبلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين في ريف إدلب إلى تحد كبير بعد بدء الغارات الروسية على مناطق عدة كان بينها قرى في ريف إدلب كان يفترض أن يشمل «وقف القصف» بموجب الاتفاق الذي أنجزته إيران في مفاوضات مع «أحرار الشام الاسلامية» في تركيا. وقال مسؤول إسلامي معارض: «أحرار الشام ملتزمة كلمتها والاتفاق الذي وقعته مع إيران مع ان روسيا خرقت الاتفاق مرات عدة وقصفت ريف ادلب»، إضافة إلى أن قصف ريف حماة جمد عملية تبادل نقل المدنيين والمقاتلين السنة من الزبداني إلى ريف إدلب مقابل نقل عشرة آلاف مدني ومصاب شيعي من ريف إدلب عبر نقطة جرى الاتفاق على مكانها في ريف حماة. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق كيف استقبلت إيران وحليفها حزب الله التدخل العسكري الروسي في سوريا؟
تبدو إيران متفاجئة بالتدخل العسكري الروسي في سوريا، أبدت إيران إشارات متضاربة بين الترحيب بهذا التدخل الذي تعتقد أن من شأنه أن ينقذ حكم الرئيس السوري بشار الأسد من السقوط، وبين عدم القدرة على إخفاء قلقها من توسع الدور الروسي في سوريا على حساب نفوذها لطالما سعت إلى توسيعه خلال العقود الماضية.وظهر الارتباك والتناقض الإيراني بشكل واضح على الميليشيات التي تدعمها سواء حزب الله او تلك التي حشدت مقاتليها من العراق وباكستان وافغانستان.
وسيزداد هذا التناقض والإرباك لاسيما مع رغبة موسكو في أن تتحول إلى لاعب دولي مؤثر في المنطقة، وتلويحها بالتدخل في العراق الذي ظن الإيرانيون أنه صار ملكهم بعد أن نجحوا في إرباك الولايات المتحدة الأمريكية عبر مليشياتها هناك ودفعها إلى الانسحاب من العراق في نهاية عام2011م. ولا تخفي موسكو، التي طالما امتدح الإيرانيون صداقتها، رغبتها في السيطرة على الملعب الذي أصبحت طهران تتحرك فيه وحدها، أي العراق، فضلا عن سوريا التي عمل الإيرانيون ما في وسعهم لبسط السيطرة عليها وإلحاقها بمشروع الهلال الشيعي. وكانت القيادة الإيرانية تتوقع أن يكون التدخل الروسي لدعم الرئيس السوري بشار الأسد مقتصرا على توفير أسلحة متطورة، أو إرسال خبراء لتدريب الجنود السوريين على هذه الأسلحة وخاصة تدريبهم على الطائرات ليحافظ النظام السوري على تفوقه العسكري. ومن الواضح أن طهران كانت تريد أن تستخدم موسكو للدفاع عن مصالحها في سوريا، لكن المشهد يسير نحو انقلاب كامل، إذ بدأت روسيا بوضع يدها على مكاسب الإيرانيين في سوريا، بانتظار أن تتوسع في اتجاه العراق.
وقال خبراء ومحللون إن التوجه الروسي الجديد لم يكن مفاجئا، بل هو ردة فعل على لعبة إيرانية خفية كانت تستهدف استثمار وزن روسيا، وخاصة امتلاكها ورقة الفيتو، لفرض شروطها على الدول الغربية التي كانت تفاوضها في الملف النووي. ويبدو أن الروس قد فهموا الأمر متأخرا، أي بعد توقيع الاتفاق النووي الذي فتح الأبواب واسعة أمام الشركات الغربية للاستثمار في إيران التي تعد العدة لعقد مؤتمر حول النفط خلال فبراير القادم في لندن، وهو ما يعني أن إيران كافأت روسيا بجزاء سنمار. لكن ما يثير انزعاج طهران أن القرار العسكري في سوريا حاليا لم يعد بيد قادة عسكريين إيرانيين أو من حزب الله مثلما كان سائدا خلال السنوات الماضية، حيث سلم الأسد زمام المبادرة لإيران لإدارة المعركة بعد انشقاقات كبيرة في صفوف الجيش، وفي ظل شكوك بولاء القيادات العسكرية السورية.
وبالتوازي، فتح الكرملين الباب أمام علاقات جديدة مع دول خليجية منافسة لإيران، وخاصة مع المسؤولين السعوديين الذين تكررت زياراتهم إلى موسكو مبشرة بميلاد شراكة استراتيجية على حساب طهران. ولتطويق الرغبة الروسية في الاستئثار بـ”نصر” يبقي الأسد في مكانه، ويهزم المجموعات المعارضة، تتجه إيران للعب كل أوراقها في سوريا لتبدو شريكا في هذا “النصر”.
ورغم ترحيب أمين عام حزب الله حسن نصرالله بالتدخل الروسي في سوريا، على أمل أن ينجح في ما فشل فيه الحزب وحلفاؤه في التخلص من المعارضة السورية المسلحة التي نجحت في إرباك النظام السوري، فإن دوائر مقربة من الحزب لم تخف قلقها من وضع مقاتليه في سوريا، وخاصة مصير الحزب في ضوء المعادلة الجديدة، أي بعد أن صارت سوريا محل تنافس عسكري بين روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
وستتركز مهمة عناصر حزب الله في تقسيم الأدوار الجديد بحماية دمشق وربطها بمنطقة الزبداني وبالطريق الواصل إلى لبنان، وترك مهمة حماية مناطق العلويين في الساحل إلى القوات الروسية.ويواجه عناصر حزب الله صعوبات لوجستية في القتال والحركة في جبهة بعيدة داخل سوريا. وتبخرت حسابات الحزب، ومن ورائه إيران، في ما يتعلق بإقامة دولة طائفية تعود بالولاء الكامل للمرجعية في إيران.
ما يثير مخاوف الحزب أن روسيا ربما تقبل بحل سياسي يقوم في أول شروطه على إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، ثم المرور إلى تهيئة أجواء مصالحة وطنية بين مختلف فرقاء الأزمة السورية.وتنبع هذه المخاوف من تصريح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال فيه “روسيا لا تفرق ما بين جماعات شيعية وسنية”، ما يعني أن موسكو لم تتحرك لدعم أجندة حزب الله وإيران في تمكين الطائفة من حكم سوريا، وهذه إشارة في غاية الأهمية إذ أن روسيا تدخل في حساباتها عدم استفزاز مشاعر مواطنيها المسلمون السٍنة إذا أعلنت وقوفها بشكل واضح إلى جانب المليشيات الشيعية. كما أنها لا تخوض الحرب ضد السنة خاصة أنها فتحت أبواب علاقات اقتصادية وعسكرية نوعية مع دول سنية في المنطقة كالمملكة العربية السعودية.
وعليه يمكن القول أن التدخل العسكري الروسي في سورية كان قد أظهر الارتباك والتناقض الإيراني بشكل واضح على الميليشيات التي تدعمها سواء حزب الله او تلك التي حشدت مقاتليها من العراق وباكستان وافغانستان. وإن غالبية الميليشيات غير السورية بدأت تتمركز في العاصمة دمشق ومحيطها وبعدما أخذت تدريجيا في الانسحاب من منطقة الساحل السوري حيث ألقت موسكو بثقلها، وأنشأت غرفة العمليات الرئيسية التي تتحرك من خلالها القوات الروسية.و أن التخوف من إمكانية إقدام روسيا على عقد اتفاق دولي مع دول غربية وعربية للتوصل إلى حل سياسي لا يشمل المحافظة على نفوذ إيران في سوريا بات مستشريا بين صفوف الحزب اللبناني الذي فقد المئات من مقاتليه في سوريا منذ اندلاع شرارة الحرب الأهلية قبل أربعة أعوام.
وما يدلل على ذلك، حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عرض الاستراتيجية الروسية في سوريا خلال لقائه بالشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي والأمير محمد بن سلمان ولي ولي عهد السعودية في منتجع سوتشي، بوصفها خيارا مقبولا في المنطقة أفضل من الاستحواذ الإيراني، خصوصا وأن الرياض وأبوظبي من أهم قادة الحملة على التوسع الإيراني في المنطقة وتخوضان الحرب في اليمن كمواجهة أساسية.والاجتماع بين بوتين والقادة الخليجيين الذي جرى قبل عدة أيام هو أعلى اتصال بين الزعيم الروسي وقادة من دول خليجية عربية منذ بدأت روسيا حملة ضربات جوية لدعم الأسد. حيث تمثل الإمارات والسعودية المحور الحاسم الذي يقود التصدي لتوسع النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو محور يطمح بوتين في الحصول على دعمه لاحقا ضمن محاولاته تصفية النفوذ الإيراني في سوريا.
مما تقدم نخلص، لا نبرر التدخل الإيراني ومن ثم الروسي في سورية مهما كانت أسباب ودوافع ذلك التدخل، لكن هذا لا يمنع من القول بأن روسيا دخلت المعركة باستراتيجية واضحة، لا تستبعد التصعيد، لكنها تعمل على تسوية لتقاسم النفوذ والمصالح مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهي لن تحارب سوى الدفاع عن أمنها ومصالحها. ولا مصلحة لها في كسر قواعد وشروط التنافس والصراع التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية