نشر قبل أيام فيديو لأحد أشهر المتهمين بالتطهير الطائفي في الحرب الأهلية التي جرت في العراق، بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء شباط 2006، ويُظهر الفيديو المدعو «أبو درع» وهو يقوم بتنظيف إحدى المدارس بوصفة «ناشطا مدنيا»! وقبلها ظهر هذا المتهم في عشرات الفيديوهات والصور وهو محاط بمجموعة من حمايته وهم مدججون بالسلاح، كما ظهر أيضا وهو يسلم على وزير داخلية العراق الأسبق!
ومع كل هذه المشاهد الغريبة، لم نلمس لدى الرأي العام الرسمي وغير الرسمي أي مشكلة أخلاقية في كل ذلك، ولم يبد أي طرف رسمي أو شعبي استياءً أو حتى حرجا، لا سيما سلطات الدولة العراقية، ولدى الطائفيين الذين يهيمنون على القرار السياسي والأمني في العراق! فالرجل صاحب مهمة «مقدسة» تجعل الجميع يصمت على جرائمه ويغطيها أيضا! وهو لا يثير أي مشكلة أخلاقية أيضا لدى فئات عديدة من المجتمع التي تنظر اليه بوصفه «بطلا»!
في 21 كانون الثاني/ يناير 2007، نشر الصحافي البريطاني جون سوين مقالا في صحيفة التايمز بعنوان: «هل هذا هو أغزر قاتل جماعي في العراق؟» مع صورة لأبي درع، القاتل الذي يعرف العراقيون جميعا، دون استثناء، سجله الإجرامي البشع في الحرب الاهلية في الأعوام 2006 ـ 2007، ويصفه الصحافي بأنه: «عربيد القتل الطائفي»! ويوثق الصحافي كلامه بفيديو شهير مصور من هاتف محمول، يوثق عملية قتل المحامي خميس العبيدي (كان محاميا عن الرئيس الأسبق صدام حسين حينها) في بغداد حيث «تم ربط يديه خلف ظهره ووضع في مؤخرة شاحنة تويوتا، وتم استعراضه بهذه الوضعية في مدينة الصدر الواسعة، حيث كانت الحشود تقذفه بالحجارة، وتهينه، وتتهكم عليه… وفي لحظة يتم ضربه على مؤخرة عنقه… تتوقف الشاحنة، ويتم انزال العبيدي منها بقسوة، ثم يتقدم أبو درع ويضع ثلاث طلقات في رأسه، كل هذا معروض في شريط الفيديو»!
دافع مجرم الحرب الصربي رادوفان كراديتش عن نفسه في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي التي اتهمته بـ11 تهمة تتعلق بالإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، وأبرزها جريمة التطهير العرقي في ما يعرف بمجزرة سربنيتسا التي راح ضحيتها 7500 رجلا وطفلا، بأن «شعبه دافع عن نفسه» وأن قضيته كانت قضية «عادلة ومقدسة» وان هدفه الوحيد كان «إنقاذ حياتنا وممتلكاتنا والحفاظ على أراضينا»!
على مدى سنوات، مرت عشرات من جرائم «الانتقام المقدس» بسلاسة، صمتت عنها سلطات الدولة العراقية أخرها، وليست أخيرها بالتأكيد، ما جرى في قرية «نهر الإمام» في محافظة ديالى يوم الثلاثاء 26 أكتوبر الجاري. حين قامت داعش بمهاجمة قرية الرشاد الشيعية، و أوقع 13 عشر ضحية، وعشرات الجرحى.
بعد ذلك قامت ميليشيات محصنة ينتمي أفرادها إلى تلك القرية بالتنكيل بأهالي قرية «نهر الإمام» السنية القريبة من قرية الرشاد في عملية (انتقام) عجزت القوات العسكرية والأمنية، كالعادة، في اعتراضها أو منعها، لينتهي الأمر إلى اعدامات ميدانية، وعملية تجريف للبساتين، وتهديم للممتلكات، وتهجير قسري لسكان تلك القرية والقرى المجاورة! وجاهرت قيادات الميليشيات بذلك صراحة حيث كتب أبو علي العسكري، الذي يصف نفسه بأنه «المسؤول الأمني لكتائب حزب الله» تغريدة يدعو فيها إلى القيام بعملية تطهير مذهبي من خلال استنساخ تجربة جرف الصخر التي يعتبرها عملية «ناجحة»!
الاتهامات الجاهزة ستطالُ كل من يسعى إلى كشف هذه الجرائم، أو الدفاع عن من لا وليّ دم لهم في العراق، وأول التهم هنا هي تهمة «الطائفية» والتي لا تصلح سوى لوصف هذا «الانتقام المقدس»
ثم نشر المكتب الإعلامي لوزارة الداخلية بيانا جاء فيه أن وزير الداخلية زار رفقة وفد أمني رفيع المستوى قريتي «الرشاد ونهر الإمام» وانه أكد على «إنزال أشد العقوبات بالمجرمين من عصابات داعش الإرهابية»! وأنه قرر «فتح تحقيق شامل في الاعتداء الإرهابي»! دون أن يشير بطبيعة الحال، إلى عملية «الانتقام المقدسة» التي تمت في المنطقة نفسها أو إلى فاعليها «المقدسين»!
بالعودة الى التاريخ القريب، وفي 22 أغسطس/ آب 2014 حدث الأمر نفسه حين قامت داعش بتفجير في محافظة ديالى أدى إلى مقتل عدد من أفراد عشيرة الزركوش التي ينتمي العديد من أبنائها إلى الميليشيات، وبعدها في اليوم نفسه، قامت الميليشيات بقتل 34 مصليا أثناء أداء صلاة الجمعة في مسجد مصعب بن عمير في قرية إمام ويس، وقد نقلت بي بي سي عربي في خبر لها نشر يوم 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 أن الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية وصف الهجوم على المسجد بأنه «رد فعل عادي وعفوي دافعه الانتقام»! تخيل أن يتم وصف عملية قتل جماعية لمواطنين عزل، قامت بها قوات يفترض أنها تنتمي للدولة، في بيان رسمي، بأنها «رد فعل عادي وعفوي»!
لاحقا، وبتاريخ 13 نيسان/ أبريل 2015 حكم بالإعدام على شخصين أُدينا بارتكاب هذه الجريمة وقد اعترفا بعد تأكيد عشرات شهود العيان بأنهم القتلة، لكن محكمة التمييز نقضت قرار الحكم بالإعدام الصادر ضدهما في آب/ أغسطس 2018، وأطلق سراحهما لاحقا، ليتم إعادة إلقاء القبض عليهما مرة أخرى بتاريخ 10 كانون الثاني/ يناير 2019، ويتم الحكم عليهما بالسجن المؤبد بتاريخ 7 كانون الثاني/ يناير 2020 بموجب المادة الرابعة/ 1 من قانون مكافحة الإرهاب في حين أن المادة نفسها في القانون تقرر الحكم بالإعدام حصرا ولا وجود لشيء اسمه السجن المؤبد في هذه المادة! ومع ذلك عادت محكمة التمييز مرة أخرى في منتصف آب/ أغسطس 2020 لتصدر قرارا بالإفراج عنهما! ايمانا منها أن «الانتقام المقدس» مهمة يستحقان عليها التكريم لا المعاقبة!
ستنسى سلطات الدولة جميعها جريمة نهر الإمام في ديالى تماما، كما نسيت جريمة قرية ويس وقرية «الفرحاتية» في محافظة صلاح الدين (أعدمت الميليشيات، في هذه القرية، ثمانية أشخاص، ميدانيا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 في عملية انتقام عشوائي وعد القائد العام للقوات المسلحة حينها بأن «يد القانون ستقصم ظهر فلول المجرمين بدلا من الانتقام») تماما كما تم تجاهل عشرات الجرائم قبل ذلك!
ما تقوم به داعش من جرائم هو أيضا، في عرفها، مهمة مقدسة وانتقاما سماويا، لكن الجميع ينكر فعلتها وينعتها بالإرهاب وهو أمر منته، لكن في سياق الخلل الأخلاقي والاجتماعي في العراق، لا يعترض أحد على ما تقوم به الميليشيات المغطاة رسميا، من جرائم ضد مواطنين عراقيين، وعلى «تجاهل» الدولة، بل وتغطيتها على جرائم الانتقام «المقدسة» هذه، بل إن الاتهامات الجاهزة ستطالُ كل من يسعى إلى كشف هذه الجرائم، أو الدفاع عن من لا وليّ دم لهم في العراق، وأول التهم هنا هي تهمة «الطائفية» والتي لا تصلح سوى لوصف هذا «الانتقام المقدس» والمتواطئين معه!
يحيى الكبيسي
القدس العربي