تركيا بين الطموحات الكبرى والصعوبات الداخلية

تركيا بين الطموحات الكبرى والصعوبات الداخلية

 

في كل مرة أحط الرحال في تركيا أزداد إعجابا بهذه البلاد الجميلة الواسعة، التي حباها الخالق بكل أنواع الجمال والتضاريس المنوعة والمناخ المعتدل، والثروات الطبيعية والمواقع الأثرية. تعتقد أن أجمل المدن خارج إسطنبول مدينة إزمير وتغير رأيك كلما تزور مدينة جديدة، خاصة على شواطئ المتوسط.
أما مدينة إسطنبول العظيمة فلا أرى مثيلا لها في النشاط والجمال والآثار العظيمة. يزينها مطار حديث ومنظم من أكبر مطارات العالم. كما أن المدينة تملك شبكة مواصلات حديثة شاملة ومتعددة ومريحة ومنظمة وزهيدة الأسعار. وقد اخترت هذه المرة أن أستقر في الجانب الآسيوي منها، فوجدته لا يقل متعة ونشاطا ومعالم حديثة وقديمة عن شقها الأوروبي، يربط بينهما ثلاثة جسور ونفق جديد وقطار أنفاق، افتتح قبل سنتين ليختصر المسافة من رحلة بالسيارة تمتد لساعتين أو أكثر، إلى 15 دقيقة.
زاد عدد العرب في إسطنبول وتعددت مشاربهم وأهواؤهم وميولهم في المدينة التي تضم أكثر من 20 مليونا، عدا السياح واللاجئين وغير المسجلين رسميا. منهم اللاجئ والمستثمر، والمقيم الباحث عن جنسية، والسائح، والموظف والمشرد والهارب من أنظمة القمع والاستبداد في الجوار العربي. وتكاد تكون اللغة العربية هي الأكثر تداولا في الشارع بعد التركية. وفي زيارتي القصيرة لهذه البلاد أحاول أن أسمع من أصدقاء عديدين جمعتني بهم روابط الصداقة والصحافة والأكاديميا، لأخرج من هذه اللقاءات برؤية موضوعية أو شبه موضوعية، عن الأوضاع في بلد كبير ومهم ومؤثر في السياسات المحلية والدولية، يحاول أن يلحق بمصاف الدول الكبرى اقتصاديا وسياسيا. فأكثر كتّاب الشأن التركي إما مدّاحون أو ردّاحون. فمنهم من يعتبر تركيا دولة الخلافة الإسلامية الجديدة، ومنهم من يعتبرها عدوا لدودا يريد أن يعيد أمجاد الدولة العثمانية على حساب العرب والمسلمين، وآخرون يعتبرونها دولة الإخوان المسلمين بامتياز. وفي رأينا أن الأوصاف الثلاثة غير دقيقة ومنافية للواقع.

شعبية أردوغان في تراجع

الشعب التركي له مقاييسه المختلفة عن المداحين لأردوغان في الخارج. مقاييسه الاقتصاد والأوضاع المعيشية أولا. وفي كل مرة أزور تركيا أحاول أن أسحب الكلام من كل من أتحدث معهم من الأتراك، في الشارع والمقهى والمطعم والمتجر والتاكسي والفندق، حول شخصية أردوغان. وعلى عكس المرات السابقة وجدت أن شعبيته تراجعت وحدة الانتقادات له زادت، والتعرض لشخصيته الأوتوقراطية اتسعت. وبعض تلك المظاهر انتشار صور مصطفى كمال أتاتورك بشكل غير مسبوق، وكأن تعليق الصورة هذه تعبير عن رسالة سياسية. ولو تحدث الانتخابات اليوم لما استطاع أن يحصل على غالبية، كما قال لي صديق. فقد خسر حزبه انتخابات أهم بلديتين في تركيا: إسطنبول وأنقرة.

الشعب التركي له مقاييسه المختلفة عن المداحين لأردوغان في الخارج.. مقاييسه الاقتصاد والأوضاع المعيشية أولا

صحيح أن لا أحد ينكر إنجازاته الكبرى في كل المجالات، التي لا تخفى على عين أحد، ولا ينكرها إلا جاهل أو حاقد، إلا أن هذا لا يكفي. فقد كشفت الأزمة الكبرى لجائحة كورونا عن كثير من هشاشة الأوضاع الاقتصادية والصحية، وتركت بصمتها في كل مناحي الحياة ـ ليس فقط في عدد المصابين الذي زاد عن 8 ملايين ونحو 70000 حالة وفاة، ولكن في تعثر سير عجلة الاقتصاد، وارتفاع نسبة البطالة وتراجع سعر صرف الليرة، وهي أمور تنعكس مباشرة على حياة المواطن العادي.
المسألة الأخرى التي يلوم فيها الشعب أردوغان، هي استقباله لنحو خمسة ملايين مهاجر، من بينهم أربعة ملايين سوري والباقون من العراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وغيرها من مناطق النزاعات. السوريون خاصة أثـّروا في مستوى معيشة المواطن العادي، فالسوري مهني وجلد على العمل ويقبل وظائف وأعمالا بأجور أقل من الأتراك ما ترك بعض الحساسيات والنفور من الوجود السوري.

تراجع سعر صرف الليرة التركية

في الأيام العشرة التي قضيتها، انخفض سعر الليرة بشكل غير طبيعي. ففي اليوم الذي وصلت فيه كان سعر صرف الدولار 8.2 ليرة، وفي اليوم الأخير وصل سعر الصرف إلى 9.55 ليرة، وهو انحدار قياسي في فترة زمنية قصيرة. وللتذكير فقد كان سعر صرف الدولار في زيارة عام 2018 نحو 4.90 ليرة، وفي زيارة عام 2011 كان 1.60 ليرة. وإذا حاولت أن تعرف الأسباب الموضوعية لهذا التراجع الخطير، فإنك تسمع العديد من الإجابات، كثير منها يـبتعد عن الموضوعية فلا يذكر الأزمة الاقتصادية العالمية التي سببتها جائحة كورونا، وتوقف عجلات الإنتاج والتجارة والسياحة والطيران، وغير ذلك من دواليب الاقتصاد المتشعبة. والإجابة الأسهل التي تقدم لك بسرعة تضع اللوم كليا على الرئيس رجب طيب أردوغان وتدخله في السياسة المالية، وقراره بخفض نسبة الفائدة مرتين خلال فترة وجيزة، أدت إلى ارتفاع نسبة التضخم لتصل إلى 20%. لقد تم طرد ثلاثة من كبار موظفي البنك المركزي يوم 23 سبتمبر الماضي على خلفية الخلافات حول السياسة المالية، التي يبدو أنها تخضع لرغبة الرئيس. لقد ارتفعت حدة الانتقادات لسياسة الرئيس المالية، واتهمته المعارضة بأن قراراته لا مبرر لها، وأن البنك المركزي تحول إلى «ختم» في يد الرئيس.

الاختراق التركي لافريقيا

قام الرئيس رجب طيب أردوغان بين 17 و21 أكتوبر بزيارة جديدة للقارة الافريقية، شملت كلا من أنغولا ونيجيريا وتوغو، ليصل عدد الدول التي قام بزيارتها لغاية الآن 31 دولة، وليكون أكثر زعيم عالمي يزور القارة الافريقية في الـ15 سنة الأخيرة. وقال في تصريح عشية الزيارة: «نحن لا ننظر أبدا إلى علاقات التعاون مع الدول الافريقية على أنها قصيرة الأمد، وفي خدمة مصالحنا… أنا على ثقة بأنّ دور القارة الافريقية سيكون بارزا على الساحة الدولية في القرن الواحد والعشرين، ولهذا نريد المضي قدما بعلاقاتنا معها على أساس المنافع المتبادلة والشراكة المتساوية». لقد ارتفع عدد السفارات التركية في القارة الافريقية من 12 عام 2002 لتصل الآن إلى 43 سفارة. كما ارتفع حجم التجارة التركية مع القارة الافريقية من خمسة مليارات دولار عام 2000 إلى 25 مليار دولار عام 2020 ويطمح أردوغان أن يصل حجم التبادل التجاري مع القارة الافريقية إلى 100 مليار دولار على المدى المتوسط. أما الخطوط الجوية التركية، فوسعت رحلاتها في القارة لتشمل أكثر من 50 مدينة. وقد استضافت إسطنبول يومي 21 و22 أكتوبر الجاري منتدى الأعمال التركي الافريقي الثالث، وتستعد كذلك لاستضافة قمة افريقية تركية يومي 17 و18 ديسمبر المقبل. تركيا لا شك أصبحت منافسا أو ندأ لفرنسا والصين وروسيا وإسرائيل في القارة الافريقية، وهناك قبول وارتياح أكثر للتعامل مع تركيا وسنرى تركيا قريبا عضوا مراقبا في الاتحاد الافريقي بدل إسرائيل.

بين أردوغان وماكرون

شهدت العلاقات بين تركيا وفرنسا ودول أوروبية عديدة كثيرا من التوتر على خلفية الهجرة والمهاجرين، عندما لم تف أوروبا بالتزامتها حسب الاتفاق مع تركيا بحيث تقوم بمنع تدفق المهاجرين باتجاه الدول الأوروبية، مقابل مساعدات مالية كبيرة لتأهيل واستيعاب اللاجئين في تركيا. لكن التوتر ظل مستمرا خاصة بين فرنسا وتركيا، والزعيمين أردوغان وماكرون. وفي كل أزمة تدخل فيها تركيا تجد باستمرار اصطفاف فرنسا مع الجهة المناهضة لها، سواء في شرق المتوسط أو في ليبيا، أو في النزاع بين أرمينيا وأذربيجان أو في قبرص. وقد جرت محاولات لتخفيف حدة التوتر بين الرجلين في اتصال عن بعد في يونيو الماضي إلا أن المناكفات لم تتوقف. فقد اتهم ماكرون الرئيس التركي بأنه سيحاول التأثير في الانتخابات في فرنسا من خلال الجالية التركية، والجمعيات والمؤسسات الإسلامية، ما جعل أردوغان يتهم ماكرون بالعنصرية. وكان قد أعلن أنه يؤيد مقاطعة البضائع الفرنسية التي انطلقت في أكثر من دول عربية وإسلامية، على خلفية نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم. وفي أحد ردوده على ماكرون لانتقاده الرئيس التركي في استهداف الأكراد في منطقة عفرين قال أردوغان «إن ماكرون ميت دماغيا» وعليه أن يفحص نفسه، ليتأكد من ذلك وهو ما رد عليه ماركون باستدعاء السفير التركي وتقديم احتجاج شديد اللهجة.
ما من شك بأن هناك ودا مقطوعا بين الرجلين، ولا يمضي أسبوع بدون مناكفات. وفي صلب هذه العلاقة المتوترة منافسة تركيا لفرنسا في مناطق نفوذها في القارة الافريقية. لقد بدأت فرنسا تشعر بالمنافسة التركية في أسواقها التقليدية ليس فقط في ميدان التجارة العادية والمشاريع الاستثمارية والبناء والتنقيب، بل استطاعت تركيا مؤخرا الحصول على عقود بيع أسلحة ومركبات عسكرية وطائرات مسيرة، لكل من إثيوبيا والمغرب وأنغولا ورواندا ومالي، وهو ما اعتبرته فرنسا تحديا لمناطق نفوذها التقليدية.
لا شك بأن الرجل يطمح في وضع تركيا في مصاف الدول الكبرى، واحتلال الموقع العاشر اقتصاديا مع حلول احتفالات الذكرى المئوية للجمهورية عام 2023 ليثبت أنه مؤسس الجمهورية الثانية. لكن كل ذلك مرتبط بإرادة الشعب التركي الذي قد يختلف على كثير من القضايا، بما فيها شخصية ودور أردوغان، لكنه لا يختلف على التمسك بالديمقراطية السليمة واحترام نتائج الانتخابات الحقيقية وليس المسرحية.

عبدالحميد صيام

القدس العربي