يقدّم تحذير وزير الخارجية الإيطالي باولو جينتيلوني من أن أزمة المهاجرين تمثل تهديدا لـ”روح” أوروبا، صورة هامة عن أحد أبرز الأسباب التي تطيل من عمر هذه الأزمة وتعقّد حلولها وتوسّع من دائرة الخلافات الأوروبية حول طريقة التعاطي معها؛ فالأزمة، وإن كانت في مظهرها الرئيسي أزمة سياسة وأزمة قدرات، فإنها في الجانب الآخر من الصورة، أزمة دينية واجتماعية وثقافية.
ولئن، تحدّثت تقارير اقتصادية عن أهمية توطين اللاجئين في اقتصاد بعض البلدان الأوروبية، على غرار ألمانيا، حذّرت تقارير أخرى من أن التعاطف الإنساني الواسع حيال أزمة اللاجئين السوريين والعراقيين، قد يشكّل خطرا على هوية الدول الأوروبية الحاضنة لهم، ويهدد بتحويل شعوب القارة إلى أقليات في بلدانهم مستقبلا.
ويذكّر القلقون من التداعيات القومية لأزمة المهاجرين واللاجئين على دعوات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لاستقبال اللاجئين المحتشدين على الحدود الأوروبية، بموجة الهجرة التي شهدتها أوروبا في عصر الهجرات الكبرى في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، حينما هاجرت القبائل الجرمانية والهون من آسيا إلى القارة.
وصوّر هذه الهواجس الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك في روايته “خضوع”، الصادرة بداية العام الجاري، وصور فيها فرنسا في عام 2022 وقد تحولت طوعا إلى بلد مسلم تغطيه المساجد، فيما كشفت دراسات واستطلاعات رأي أجريت حديثا في ألمانيا أن 51 بالمئة من الألمان أعربوا عن خوفهم وقلقهم من وصول مئات الآلاف من طالبي اللجوء.
ويؤكّد كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس، أنه نظرا لثراء أوروبا واقتصادها المتقدم، من الصعب القول إنها تفتقر إلى سبل استيعاب هؤلاء الوافدين، و”موجة الناس” هذه أشبه بقطرة في بحر الاتحاد الأوروبي الذي يبلغ تعداد سكانه نحو 500 مليون نسمة؛ فلماذا الذعر إذن؟
أسباب هذا الذعر عديدة، منها كما يشير روث، أسباب اقتصادية واجتماعية، فدول الاتحاد الأوروبي ليست كلها غنية جدا، وبعضها يعيش على وقع أزمة اقتصادية خانقة، كما أن نسبة البطالة مرتفعة في أغلبها. وفي ظل هذا الوضع من الطبيعي أن يفكّر الشباب الأوروبي أن الوافدين الجدد سيسرقون منهم فرص العمل أو يؤدي وجودهم إلى خفض الأجور.نظرا لثراء أوروبا واقتصادها المتقدم من الصعب القول إنها تفتقر إلى سبل استيعاب الوافدين
تغيير التركيبة الديمغرافية
سبب آخر لا يقلّ أهمية، يتعلّق بالمشكلة الديمغرافية التي تواجهها العديد من دول الاتحاد الأوروبي، فألمانيا مثلا تعاني من أعراض شيخوخة المجتمع، هي الأكثر سكانا في الاتحاد الأوروبي بنحو 82 مليون نسمة. وتوجد بها 4 أقليات محلية معترف بها رسميا وبلغاتها الخاصة، هي الدنماركية والصربية والفريزية والغجر الألمان. ويعيش في ألمانيا بحسب دراسة ميدانية صدرت عام 2009 نحو 4.5 مليون مسلم، بنسبة 5 بالمئة من تعداد سكان البلد، ويحمل 45 بالمئة منهم الجنسية الألمانية، أي ما يقارب 2 مليون شخص، فيما يحتفظ 55 بالمئة بجنسياتهم الأصلية. وتبذل الحكومات الألمانية جهودا كبيرة في سبيل إدماج المهاجرين في المجتمع.
ولا تعتبر التشريعات الألمانية المسلمين أقلية، ولا تعترف بلغات المهاجرين الوافدين. وبالتالي هناك مخاوف من خطر انقراض الألمان وذوبانهم بانضمام موجات هجرة جديدة كبيرة إلى الوضع المقلق السائد هناك.
وفي إيطاليا، حذرت وزيرة الصحة بياتريس لورينزين قائلة “نحن نقف عند العتبة، فمن يموت لا يولد بديل له من السكان، هذا يعني أننا دولة تفنى”، والأمر نفسه في دول أوروبية كثيرة التي ستحتاج لتجديد شبابها في السنوات المقبلة، وتحسين من قاعدتها الديمغرافية وإلا ستواجه نقصا حادا في الفئات التي ستشتغل وتدفع التأمين والضرائب وتعويض المواطنين المتقاعدين غير العاملين.
وفي غياب انتعاش سياسة الإنجاب، فإن القادمين الجدد، والعديد منهم شباب يافعون مثقفون وذوو خبرات، قد يكونون ما يحتاجه الاتحاد الأوروبي من أجل الحفاظ على شبابه.
خطر على مسيحية أوروبا
السبب الرئيسي الأهم في تضخيم أزمة اللاجئين المهاجرين، عبّرت عنه المجر صراحة، حين حذّرت من تأثير اللاجئين المسلمين على الثقافة المسيحية، حيث قال وزير الخارجية المجري، بيتر سيارتو، “إذا تركنا المسلمين يدخلون القارة لمنافستنا فسيفوقوننا عددا، إنها مسألة حسابية ولا تعجبنا”، مضيفا “أتحدث عن الثقافة ومبادئ الحياة اليومية كالعادات الجنسية وحرية التعبير والمساواة بين الرجل والمرأة وكل هذه القيم التي أطلق عليها اسم المسيحية”.
بدورها، عزت سلوفاكيا رفضها فرض حصص إلزامية من اللاجئين على دول الاتحاد الأوروبي إلى الاختلافات الدينية؛ وهو القلق نفسه الذي ينتاب مختلف دول أوروبا، فحتى تلك التي لم تعلن صراحة هذا الأمر، بل وانتقدت المجر وسلوفاكيا تواجه نفس القلق والخوف من تغيير التركيبة الدينية لدول الاتحاد الأوروبي الذي يعرّف بأنه “نادي المسيحية”، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي أعاقت حصول تركيا على العضوية الأوروبية.
وأكّدت نتيجة اجتماع زعماء الاتحاد الأوروبي، أمس الخميس، حول وضع أزمة الهجرة في الاتحاد الأوروبي تحت السيطرة، والتي لم تخلتف كثيرا عن نتائج اجتماعات سابقة عقدت منذ تأزم الوضع، أن أكبر بواعث قلق المروجين لفكرة الأزمة، وفق كينيث روث، هي مخاوف ثقافية، حيث يخشى الكثير من الأوروبيين أن يقوّض تدفق الأجانب ثقافاتهم المريحة. وتُظهر البحوث أن هذا القلق عامل كبير من عوامل دعم الأحزاب الشعبوية المتطرفة في العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي.
ويفاقم هذا الخوف في أوروبا ذات الأغلبية المسيحية، أن أكثر الوافدين من المسلمين، وهو ما يفسر ترحيب بعض الحكومات -في بولندا وبلغاريا وسلوفاكيا- عن تفضيلها للاجئين المسيحيين حصرا. وهذا القلق يعتمل منذ عقود، مع تغيّر تركيبة أوروبا السكانية ببطء. ليس من المدهش أن بعض الساسة، مثل مارين لوبان في فرنسا وخِرت فيلدرز في هولندا وماتيو سالفيني في إيطاليا وميلوس زيمان في جمهورية التشيك وحزب استقلال المملكة المتحدة في بريطانيا، يستخدمون الآن موجة اللاجئين في تغذية هذه المخاوف.
بدورهم استغل رجال دين مسيحيين هذا الوضع لتنشيط عمليات التبشير، ففي الوقت الذي تكافح فيه بعض الكنائس في ألمانيا بسبب تضاؤل أعداد المسيحيين، يرى القس مارتينز، في كنيسة ترينيتي الإنجيلية في برلين، أن مجموعته تتضخم من 150 فردا لتصل إلى أكثر من 600 شخص خلال عامين فقط، مع تدفق اللاجئين الجدد. وجاء بعضهم من مدن بعيدة، بعد أن بلغتهم الأنباء أن مارتينز ينصر المسلمين بعد دورة مدتها 3 أشهر في المسيحية، كما أنه يساعدهم في طلبات اللجوء.
إذن أزمة اللاجئين، كما وصفها كينيث روث، “أزمة وهمية”، وهي أيضا كما تذهب إليه المحللة الإسرائيلية روتي سيناي، ليست أزمة اقتصادية، وقد أكّدت على ذلك أنجيلا ميركل، حين قالت “ألمانيا دولة قوية وسنتدبر أمورنا”، والأمر ذاته يسري على جيران ألمانيا، حيث بإمكانهم تدبر أمر الموارد، حتى بالنسبة للدول الأوروبية المتأزمة والناشئة. أزمة اللاجئين بالتالي هي أزمة دينية واجتماعية؛ وليست أزمة تتعلق بكيفية استيعاب بعض مئات آلاف البشر من ديانات وثقافات مختلفة.
صحيفة العرب اللندنية