أصبح أغلب حكام الشرق الأوسط يدركون أن أمن النظام معتمد على تلبية حاجات السكان أكثر من اعتماده على التحريض الطائفي وكراهية الآخر.
* * *
ما الذي نفهمه من إعادة خلط العلاقات وتحول التحالفات في الشرق الأوسط؟ اكتسبت الدبلوماسية زخما بين أعداء لدودين؛ وظهرت صدوع بين أصدقاء مقربين. وتعكف قوى إقليمية مثل المملكة العربية السعودية، وإيران، وتركيا، ومصر على إعادة ضبط سياساتها الخارجية واستعادة العلاقات مع جيران مُبعَدين. كما جددت الولايات المتحدة وروسيا تنافسهما الإقليمي، ودخلت الصين كمنافس جديد.
الواقع أن هذه العوامل الجيوسياسية يمكن أن تجعل الشرق الأوسط مسرحا لمنافسة شرسة وعالمية حقا. لكنها قد تعمل أيضا على نزع فتيل الخصومات الإقليمية، من خلال الجمع بين بلدان تاريخها عامر بالكراهية لبعضها بعضا.
يتوقف الكثير على العوامل الرئيسية الكامنة وراء عمليات إعادة تنظيم الصفوف: تقلص تواجد أميركا على المستوى الإقليمي، وصعود الصين، والتأثير السلبي الذي تخلفه جائحة كورونا على الاقتصادات الإقليمية الضعيفة مسبقاً.
أوضح الرئيس الأميركي جو بايدن أن الشرق الأوسط ليس من أولويات السياسة الخارجية من منظور إدارته. وبينما عمل الرئيس السابق دونالد ترامب على بناء تحالف مناهض لإيران بقيادة المملكة العربية السعودية وإسرائيل، كان بايدن يسعى إلى النأي بنفسه عن المملكة العربية السعودية، وخاصة من خلال إنهاء دعم الولايات المتحدة للحرب في اليمن. واستأنفت إدارته العمل الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي مع إيران المبرم في العام 2015، الذي انسحب منه ترامب الولايات المتحدة في العام 2018، كما عملت على إبقاء تركيا ومصر (اللتين كانتا من الدول التي فضلها ترامب في المنطقة) على مسافة.
الولايات المتحدة تنسحب عسكريا والصين تتعزز اقتصاديا
مع انسحاب الولايات المتحدة الكامل من أفغانستان في شهر آب (أغسطس) 2021، أوضح بايدن أن الولايات المتحدة تنسحب من الحروب الباردة في المنطقة مع تحول محور اهتمامها باتجاه آسيا والصين. وفي مختلف أنحاء الشرق الأوسط، ينتشر على نطاق واسع اعتقاد مفاده أن أميركا لم تعد شريكا حقيقيا.
علاوة على ذلك، بينما تتراجع أميركا، تعمل الصين على جعل وجودها محسوسا في المنطقة. ففي آذار (مارس) 2021، أبرمت اتفاقية رئيسية مع إيران، وعدت باستثمارات بقيمة 400 مليار دولار على مدار السنوات الخمس والعشرين المقبلة مقابل شحنات ثابتة من النفط والغاز. وفي إطار جولة شملت المملكة العربية السعودية، وتركيا، وإيران، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وعمان في الشهر ذاته، أكد وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، التزام بلاده بأمن المنطقة واستقرارها. وفي تعليق لاذع موجه إلى الولايات المتحدة، قال إن الصين ستعارض التدخلات الأجنبية وستعمل كوسيط نزيه في حل النزاعات المستمرة في المنطقة.
كما أشار وانغ إلى احتمال إبرام اتفاقية تجارة حرة صينية، والتي من شأنها أن تجلب عشرات المليارات من الدولارات في هيئة فرص استثمارية، من خلال ربط “مبادرة الحزام والطريق” الصينية بمشاريع التنمية المحلية. ويتردد صدى هذا النوع من التجميل الاقتصادي على نطاق واسع في الشرق الأوسط، حيث كانت معدلات البطالة بين الشباب، ومستويات الفقر، وغير ذلك من المؤشرات الاقتصادية، كئيبة قبل فترة طويلة من اندلاع الجائحة. وعلى مدار الأشهر الثمانية عشر الأخيرة، تسببت جائحة “كوفيد -19” في تفاقم أزمات اجتماعية كانت حادة مسبقاً في العديد من البلدان.
ليس من المستغرب في مثل هذه الظروف أن يسجل الحوار الإقليمي والدبلوماسية عودة قوية. ويدرك أغلب الحكام الحاليين أن أمن النظام يعتمد على تلبية احتياجات السكان أكثر من اعتماده على التحريض الطائفي وكراهية “الآخر”.
تطبيع دبلوماسي شرق أوسطي بعد قطيعة
وهكذا، عقدت المملكة العربية السعودية وإيران في شهر نيسان (إبريل) 2021 محادثات سرية لمناقشة كيفية إنهاء الصراع في اليمن، حيث كان تحالف تقوده السعودية يخوض حرباً ضد متمردين حوثيين تدعمهم إيران منذ آذار (مارس) 2015.
كما تصالحت المملكة العربية السعودية مع قطر (التي تحافظ على علاقات ودية مع إيران)، بعد أن قطعت الرياض جميع علاقاتها مع جارتها في حزيران (يونيو) 2017. وفي بادرة تقارب قوية في نيسان (إبريل) 2021، وجه الملك سلمان، عاهل المملكة العربية السعودية، الدعوة إلى أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لزيارة بلاده.
وكدليل إضافي على إعادة ترتيب الأوراق السياسية على نطاق أوسع، قام السعوديون أيضا بتطبيع العلاقات مع العراق (حليف إيراني)، فأنهوا بذلك ثلاثة عقود من القطيعة والعداء المتبادلين. وبعد سنوات من الصراع مع الرئيس السوري بشار الأسد (شريك آخر مقرب لإيران)، عقد مسؤولون سعوديون مؤخرا محادثات سرية مع نظراء سوريين في دمشق، ما أدى إلى خروج تقارير حول احتمال التوصل إلى اتفاق بشأن التطبيع الدبلوماسي.
وقد تكون إيران أيضاً على وشك تحسين العلاقات مع جيرانها، وخاصة الإمارات العربية المتحدة. وقيل إن وزير الخارجية يعتزم زيارة الإمارات العربية المتحدة قريبا، بعد عودته من جولة دبلوماسية تلطيفية عبر قطر، والعراق، والكويت، وعُمان.
لكن إمكانية التقارب الإيراني السعودي هي الأكثر أهمية. وعلى الرغم من خروج الرئيس الإيراني السابق المعتدل حسن روحاني، فإن المتشدد الذي حل محله، إبراهيم رئيسي، يقول إنه لا يرى “أي عقبات” تحول دون إقامة علاقات دبلوماسية مع المملكة. والواقع أن من شأن استعادة العلاقات أن تحد من الصراع الأهلي وحروب الوكالة في سورية واليمن، حيث تختمر اثنتان من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم اليوم، وقد تجلب أيضا الاستقرار إلى بلدان منقسمة سياسيا ودينيا مثل العراق ولبنان.
أخيرا، مثل المملكة العربية السعودية وإيران، انطلق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في حملة دبلوماسية لإصلاح علاقات بلاده المتوترة في المنطقة، وخاصة مع مصر والمملكة العربية السعودية. وبعد أن كادت تتورط في قتال عنيف حول ليبيا في العام 2020، تريد تركيا تحسين العلاقات الاقتصادية مع مصر والقوى الإقليمية والعالمية الأخرى.
والواقع أن عمليات إعادة التنظيم الإقليمية الأخيرة هذه يمكن تفسيرها من خلال تقييمات موازين القوى المتغيرة والمصالح المتقاربة. فقد أجبر تقلص وجود أميركا القوى الإقليمية على رعاية أمنها بنفسها من خلال إصلاح الأسوار. ويدرك القادة الإقليميون على نحو متزايد أنهم لن يكسبوا شيئا من صب الزيت على النار المستعرة، كما فعل ترامب. ومن خلال الدبلوماسية الدولية بقيادة أميركا، وأوروبا، والصين، وروسيا، واليابان، يصبح من الممكن أن يواصل الشرق الأوسط السير على مساره الحالي لخفض التصعيد.
هل من الممكن أن يتوسط المجتمع الدولي في التوصل إلى اتفاق من أجل بنية أمنية شاملة جديدة وشرق أوسط خال من الأسلحة النووية، أو على الأقل يدعم ويشجع الحوار الإقليمي ومحاولات إدارة الصراع الناشئة هناك؟ لم يعد من قبيل التمني أن نتخيل أمرا كهذا. ربما كان الصراع اللانهائي سِمة من سمات الشرق الأوسط في الماضي؛ لكنه لم يعد مصير المنطقة الحتمي الآن.
الغد