جاءت إدارة بايدن إلى السلطة بأولوية واضحة وصريحة في السياسة الخارجية، ألا وهي مواجهة الصين الصاعدة. وقد أشارت التصريحات العامة للإدارة، ووثائقها المبكرة بشأن تخطيط الأمن القومي، وحملاتها الدبلوماسية الأولية، إلى أن التصدي لنفوذ بكين العالمي المتزايد سيكون محور اهتمام الأمن القومي الأميركي، إلى جانب التهديدات العابرة للحدود الوطنية مثل تغير المناخ وجائحة كورونا. في المقابل، تراجع الاهتمام بكيفية التعامل مع روسيا، ولم تعد إلى الواجهة سوى عندما حشدت روسيا قواتها على الحدود مع أوكرانيا في أبريل الماضي. كانت تلك الأزمة بمثابة تذكير بخطر تجاهل موسكو – ولكن بحلول شهر يوليو، عاد الرئيس جو بايدن ليعلن أن روسيا “تجلس على رأس اقتصاد لديه أسلحة نووية وآبار نفط ولا شيء آخر”.
ليس بايدن أول زعيم أميركي يفكر على هذا النحو. فمنذ نهاية الحرب الباردة، أشار السياسيون الأميركيون بشكل دوري إلى أن أيام روسيا كقوة عالمية حقيقية باتت معدودة. في عام 2014، وصف جون ماكين، السناتور الجمهوري عن ولاية أريزونا، روسيا بأنها “محطة وقود تتنكر في شكل دولة”. في نفس العام، استبعد الرئيس الأميركي باراك أوباما روسيا باعتبارها مجرد “قوة إقليمية”. لم يمضِ وقت طويل بعد ذلك حتى تدخلت روسيا بشكل ناجح في الحرب السورية، وتدخلت في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، وأقحمت نفسها في الأزمة السياسية في فنزويلا والحرب الأهلية في ليبيا. ومع ذلك، يستمر تصور روسيا كنمر من ورق.
تكمن المشكلة في المبالغة في مسألة الانحدار الروسي، حيث أن الكثير من الأدلة على ذلك، مثل تقلص عدد سكان روسيا واقتصادها المعتمد على الموارد، ليست ذات أهمية بالنسبة للكرملين كما يفترض الكثير في واشنطن. ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تتوقع أن تتخلى روسيا تلقائياً عن نهج المواجهة بمجرد مغادرة الرئيس فلاديمير بوتين لمنصبه، لأن سياسة بوتين الخارجية تتمتع بدعم واسع بين النخبة الحاكمة في البلاد. وسيشمل إرثه مجموعة من النزاعات العالقة وعلى رأسها تلك المتعلقة بضم شبه جزيرة القرم. لذا فإن أي خلافات مع الولايات المتحدة ستبقى قائمة.
ببساطة، لا يمكن لواشنطن أن تركز على الصين وتنتظر ببساطة تلاشي روسيا. بدلاً من النظر إلى روسيا على أنها قوة متدهورة، يجب على قادة الولايات المتحدة النظر إليها كقوة ثابتة – وإجراء نقاش صريح حول القدرات الحقيقية لروسيا ونقاط ضعفها. إنّ إعادة التفكير في الافتراضات الأميركية بشأن القوة الروسية سيسمح لصانعي السياسة بالتعامل مع ما سيكون فترة مواجهة طويلة مع خصم قادر.
افتراضات خاطئة
تتضمن توقعات التدهور الروسي حقائق مهمة، من بينها ركود اقتصاد البلد، مع قلة المصادر ذات قيمة باستثناء استخراج وتصدير الموارد الطبيعية، واستشراء الفساد في النظام بأكمله، الذي تهيمن عليه شركات غير فعالة مملوكة للدولة أو تسيطر عليها الدولة. وبينما تحد العقوبات الدولية روسيا من الوصول إلى رؤوس الأموال والتكنولوجيا، تُصارع البلاد لتطوير المواهب والاحتفاظ بها وجذبها. وتعاني الدولة من نقص مزمن في البحث العلمي، ويعيق سوء الإدارة البيروقراطية الابتكار التكنولوجي. نتيجة لذلك، تتخلف روسيا بشكل كبير عن الولايات المتحدة والصين في معظم مقاييس التطور العلمي والتكنولوجي. عسكرياً، استقر الإنفاق إلى حد كبير في السنوات الأربع الماضية، وديموغرافياً، من المتوقع أن ينخفض عدد السكان بمقدار عشرة ملايين بحلول عام 2050.
بهذه الآفاق القاتمة، من الطبيعي الافتراض أن قدرة روسيا على التخريب والعداء على المسرح الدولي سوف تتضاءل قريباً – وأن الكرملين ببساطة سيستنفد موارد لتمويل سياسته الخارجية العدائية. لكن تلك البيانات لا تبرز الصورة الأوسع، إذ تسلط الضوء على نقاط ضعف روسيا وتقلل من نقاط قوتها. قد تكون روسيا “دولة بطيئة”، كما اشتكى هيرمان غريف، رئيس أكبر بنك في روسيا، في عام 2016. لكن إمكاناتها الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية ستظل كبيرة، ولن تدخل في تدهور سريع.
بالنظر إلى اقتصاد البلد، الذي، مهما كان راكداً، لا يزال أكبر وأكثر مرونة مما يعتقد الكثيرون. يحب المحللون الإشارة إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا البالغ 1.5 تريليون دولار يمكن مقارنته بإيطاليا أو تكساس. ولكن يتم احتساب 1.5 تريليون دولار باستخدام أسعار الصرف في السوق. فعند استخدام عامل القوة الشرائية، يرتفع إلى 4.1 تريليون دولار، ما يجعل روسيا ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا وسادس أكبر اقتصاد في العالم. ومع أنّ أيّاً من المقياسين ليس دقيقاً للغاية – حيث من المحتمل أن يكون تقدير أحدهما ناقصاً وتقدير الآخر مبالغاً فيه – تُظهر المقارنة أن الاقتصاد الروسي ليس صغيراً كما هو في الاعتقاد السائد. وعلى أي حال، غالباً ما يكون الناتج المحلي الإجمالي الخام مقياساً ضعيفاً للقوة الجيوسياسية، حيث لم يعد يُترجم بسهولة إلى إمكانات عسكرية أو نفوذ دولي.
لا يمكن لواشنطن أن تركز على الصين بينما تنتظر وتأمل تدهور روسيا
من المؤكد أن الاقتصاد الروسي لم يكن كريماً بمواطنيها. لقد تراجعت المداخيل الحقيقية المتاحة للإنفاق بنسبة 10 في المئة اليوم عما كانت عليه في عام 2013، ما محا إنجازات عقد من النمو. لكن مؤشرات الاقتصاد الكلي مستقرة بما يكفي للسماح لموسكو بإبراز قوتها بشكل جيد في المستقبل. بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم واحتلال شرق أوكرانيا في عام 2014، تسببت العقوبات الدولية وانخفاض أسعار النفط في تعثر اقتصادها. لكن في السنوات التي تلت ذلك، قللت الحكومة من إنفاقها وتكيفت مع انخفاض أسعار النفط، وخلقت فوائض في الميزانية وصندوق حرب متنامٍ. وتشير أحدث التقديرات، اعتباراً من أغسطس (آب) 2021، قيمة صندوق الثروة الوطني الروسي بنحو 185 مليار دولار واحتياطاتها من العملات الأجنبية بنحو 615 مليار دولار – وهذا لا يعكس صورة عوز. من ناحية أخرى، أدى تبني سياسة جديدة لاستبدال الواردات، رداً على العقوبات الدولية، إلى بث حياة جديدة في القطاع الزراعي، الذي تدر صادراته الآن أكثر من 30 مليار دولار سنوياً. كما أعاد الكرملين توجيه التجارة بعيداً من الغرب ونحو الصين، الشريك التجاري الأول له حالياً، ومن المتوقع أن تتجاوز التجارة مع الصين 200 مليار دولار بحلول عام 2024، أي ضعف ما كانت عليه في عام 2013.
ماذا عن اعتماد روسيا على الصناعات الاستخراجية؟ ما زالت مبيعات النفط والغاز تمثل حوالى 30-40 في المئة من ميزانية الحكومة، ما يعني أن أي تحول مستقبلي بعيداً من الوقود الأحفوري سيكون مؤلماً. لكن من غير الواضح مدى اقتراب حدوث ذلك. وتنتج روسيا الطاقة بسعر منخفض لدرجة أنه من المرجح أن تتعرض الدول المصدرة الأخرى للضغط قبل أن تتقلص ميزانية روسيا. إضافة إلى ذلك، تعد روسيا الموّرد الرئيسي للطاقة إلى الاتحاد الأوروبي، الذي ازداد اعتماده على موسكو على مدى العقد الماضي، حيث يحصل الاتحاد الأوروبي على 41 في المئة من غازه الطبيعي و27 في المئة من نفطه و 47 في المئة من الوقود الأحفوري الصلب من روسيا. لكن المشكلة التي تواجه موسكو هي أن مواردها ليست بلا حدود، حيث سيبلغ إنتاجها من النفط ذروته في العقد المقبل، ويعتقد البعض أنه وصل ذروتها فعلاً، ما يعني أن قدرة البلاد على تصدير النفط القابل للاستخراج بسهولة (وبالتالي الرخيص) ستبلغ حدّها.
من ناحية أخرى، على الرغم من أن روسيا متخلفة عن الولايات المتحدة في مجال الابتكار التكنولوجي، فإنها لا تزال من بين العشرة الأوائل في العالم في الإنفاق على البحث والتطوير. في حالة الذكاء الاصطناعي، قد لا يهم ما إذا كانت الدولة رائدة أو تابعة، لأنه نظراً للتطبيقات العديدة والمنفعة التجارية لهذه التكنولوجيا، قد تدرك موسكو بعض مزايا المتحرك الثاني (second mover) وتترك الولايات المتحدة والصين تتحملان تكاليف ومخاطر الريادة في تطويرها. علاوة على ذلك، تمتلك روسيا قطاعاً تكنولوجياً حيوياً على رغم معاناته، وقد طورت نظائرها الخاصة بـ “فيسبوك” و”غوغل” ومنصات الإنترنت الشائعة الأخرى، وكلها ناجحة إلى حد ما داخل روسيا.
بشأن الجيش والرجال
من بين المفاهيم الخاطئة الأكثر شيوعاً حول روسيا أن الآفاق الديموغرافية للبلاد ستحد بشكل كبير قدراتها المستقبلية. لكن مثل هذه الحتمية الديموغرافية سبق أن فشلت تاريخياً في التنبؤ بمصير روسيا. وفقاً لتوقعات الأمم المتحدة، سينكمش عدد سكان روسيا بنحو سبعة بالمئة بحلول عام 2050، فيما ترى توقعات أكثر تشاؤماً انخفاضاً بنسبة قد تصل إلى 11 بالمئة. لكن حتى في الحالة الأخيرة، ستظل روسيا الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في أوروبا وأوراسيا بفارق واسع. قد تتخلف عن البلدان الغربية المتقدمة للغاية من حيث متوسط العمر المتوقع ومعدلات الوفيات، لكنها قلّصت هذه الفوارق إلى حد كبير منذ التسعينيات. من المؤكد أن البلاد ليست على شفا انهيار ديموغرافي.
والأهم من ذلك، أن علاقة الديموغرافيا بقوة الدولة بحاجة إلى إعادة التفكير، لأن القوى العظمى الحديثة لا تُحدد من خلال حجم سكانها ولكن من خلال جودتها، صحة الناس ومستوياتهم التعليمية وإنتاجيتهم في العمل من بين مؤشرات أخرى. ولو كان الأمر خلاف ذلك، لكانت دول مثل بنغلاديش وإندونيسيا ونيجيريا من بين أقوى دول العالم. وكما كتب الباحث الأميركي هال براندز، “مع تماثل بقية الأشياء، يمكن للبلدان التي لديها خصائص ديموغرافية سليمة أن تخلق الثروة بسهولة أكبر من منافسيها”. ولقد أظهرت روسيا تحسناً كبيراً على هذه الجبهة منذ تسعينيات القرن الماضي، مع انخفاض معدل الوفيات وزيادة متوسط العمر وتحسن معدل الخصوبة. حتى عام 2015، صعدت بانتظام في مؤشرات مثل مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة ومقاييس إنتاجية العمل لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. لقد أدى الركود الاقتصادي منذ ذلك الحين إلى تباطؤ هذا التقدم ومحو بعض الإنجازات، لكن الوضع العام لروسيا قد تحسن بشكل كبير من الأزمة الديموغرافية التي شهدتها في التسعينيات والتنبؤات بالهلاك الديموغرافي في السنوات الأولى من هذا القرن.
في غضون ذلك، لا تزال هجرة الأدمغة تمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لروسيا، التي يغادرها العديد من ألمع مواطنيها. ومع ذلك، من الصعب قياس تأثيرها الاقتصادي. وبينما يهاجر العديد من الروس المنتمين إلى الطبقة المتوسطة والذين يعتبرون أساسيين في اقتصاد المعرفة، تستفيد روسيا من الهجرة الكبيرة للباحثين عن عمل من الجمهوريات السوفياتية السابقة. تظهر التركيبة الديموغرافية لروسيا مؤشرات مختلطة تمزج بين أوجه تحسن نوعية وأوجه تدهور كمية. في المقابل، تمثل الآفاق الديموغرافية للعديد من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها إشكالية مماثلة، أو أسوأ من ذلك.
القوة العسكرية
فوق ذلك كله، ستبقى روسيا قوة عسكرية لا يستهان بها. تاريخياً، لطالما كانت القوة العسكرية مصدر قوة روسيا، وتعوض عن اقتصاد البلاد غير المتنوع نسبياً وتخلفها التكنولوجي وافتقارها إلى الحركية السياسية. ويعد هذا جزئياً سبب نجاح روسيا في المنافسة لفترات مطولة مع دول أقوى منها اقتصادياً في الماضي، سواء كانت الولايات المتحدة أو الإمبراطورية البريطانية. وبعد تدهور مستواها في أوائل حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، تم إحياء القوة العسكرية الروسية – وسوف تتحسن أكثر في العقد المقبل، حتى عندما يوجه صناع السياسة الأميركيون انتباههم إلى الصين.
تظل روسيا النظير الأساسي للولايات المتحدة في مجال تكنولوجيا الأسلحة النووية. وإلى جانب الناتو، فهي تمتلك أيضاً أقوى جيش تقليدي في أوروبا، والذي أعيد بناؤه بعد فترة من الإصلاحات العسكرية والاستثمارات منذ عام 2008. ولقد تم تجاهل هذا التحول إلى حد كبير قبل عام 2014، وهو ما يفسر سبب تفاجؤ الكثير من المحللين من التحركات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ثم في سوريا لاحقاً. اليوم، يوجد الجيش الروسي في أعلى مستوى الجاهزية والحركة والقدرة التقنية منذ عقود. وعلى الرغم من كون الناتو متفوقاً على الورق، إلا أنّ الكثير يعتمد على الحرب، ولا يضمن تفوق الناتو الظاهر النصر أو القدرة على ردع روسيا عبر مجموعة من النزاعات المحتملة. كما تمتلك روسيا مجموعة مرنة من القوات الخاصة والمرتزقة وعملاء الاستخبارات العسكرية. يأتي هذا قبل اعتبار مكانة الدولة كقوة رائدة في الفضاء أو قدراتها الواسعة في الحرب الإلكترونية، والتي تم إثباتها أخيراً من خلال ما يسمى بعملية اختراق “سولار ويندز” (SolarWinds)، حيث اخترق القراصنة الروس العديد من الوكالات الحكومية الأميركية وتجسسوا عليها.
وسائل بلوغ أهداف جيوسياسية من دون الانزلاق إلى مواجهة كبرىعند أخذ تكافؤ القوة الشرائية وخصائص قطاعات الدفاع الذاتي في الاعتبار، يقدر المحللون أن روسيا تنفق ما بين 150 مليار دولار و180 ملياراً سنوياً على الدفاع، أكثر بكثير مما يوحي به سعر الصرف السوقي البالغ 58 مليار دولار. ويتم إنفاق نصف ميزانية الدفاع السنوية لروسيا على شراء أسلحة جديدة وتحديث الأسلحة القديمة والبحث في التكنولوجيا العسكرية، وهي حصة أكبر بكثير مما تنفقه معظم الجيوش الغربية في هذه المجالات. علاوة على ذلك، تعد هذه تقديرات متحفظة لأن بعض النفقات الروسية تظل مخفية أو محجوبة أو سرية. وباستخدام هذه الميزانيات السخية، طور المجمع الصناعي العسكري الروسي العديد من أسلحة الجيل التالي، من الصواريخ الأسرع من الصوتية إلى أسلحة الطاقة الموجهة (مثل الليزر) وأنظمة الحرب الإلكترونية والغواصات المتقدمة والدفاعات الجوية المتكاملة، إلى الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية من أصناف مختلفة.
مع ذلك، لا يخلو الجيش الروسي من المشكلات، ويبقى متخلفاً في بعض المجالات. من الناحية العملية، تعد روسيا في وضع جيد يمكنها من البقاء فاعلاً مهيمناً في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي ومن تحدي المصالح الأميركية في مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط. كما تحتفظ روسيا بقدرات لوجستية جوية وبحرية أساسية تمكنها من نشر قواتها على مسافة ما من حدودها. ويبدو إنفاقها الدفاعي مستقراً عند المستويات الحالية، على الرغم من الصدمة الثلاثية للركود الاقتصادي وانخفاض أسعار النفط والعقوبات الدولية. وعلى الرغم من أنّ لا يزال الجيش الروسي يعتبر نفسه مستضعفاً نسبياً، إلا أنه أصبح أكثر ثقة في قدرته على ردع الناتو حتى من دون أسلحة نووية، ومن الصعب التنبؤ بنتيجة حرب طويلة بين القوات الروسية وقوات الناتو. في ظل هذه الظروف، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها التوقف عن تجاهل روسيا باعتبارها مجرد “مُشوش” والاعتراف بها كخصم عسكري جدي في قدرتها ونيتها.
إنها ليست مجرد مشكلة بوتين
ترتبط رواية التراجع الروسي بفكرة أن الولايات المتحدة لديها في المقام الأول مشكلة مع بوتين – وأنه بمجرد أن خروجه من منصبه، ستصبح السياسة الخارجية لبلاده أقل حزماً. لكن من غير المرجح أن تكون الحال كذلك، لسبب واحد وهو أنّ بإمكان بوتين بشكل قانوني أن يظل في منصبه حتى عام 2036، بفضل الاستفتاء الذي أجراه العام الماضي والذي يسمح له بالخدمة لولايتين إضافيتين تبلغ مدة كل واحدة ست سنوات، وذلك بعد انتهاء فترة ولايته الحالية في عام 2024. ولقد أظهر بحث أجراه واحد ما (كيندال تايلور) مع عالمة السياسة إيريكا فرانتز، أن مثل هذا الاستمرارية أمر شائع لقادة مثل الرئيس الروسي. ففي حقبة ما بعد الحرب الباردة، تبيّن أنّ المستبدين، مثل بوتين، الذين أمضوا 20 عاماً في الحكم، وبلغوا 65 سنة من العمر على الأقل، وركزوا السلطة في أيديهم، وجدوا أنفسهم يحكمون لمدة 36 عاماً، في المتوسط.
تشير الأبحاث التي أجريت على القادة المستبدين الذين حكموا لفترات طويلة أيضاً، إلى وجود احتمال ضئيل في حدوث تحسن سياسي جوهري مباشرة بعد مغادرة بوتين – حتى لو حدث ذلك في وقت أبكر مما هو متوقع. ففي أغلب الأحيان، تستمر الأنظمة التي أنشأها مثل هؤلاء القادة القدامى، أو تظهر ديكتاتورية مختلفة. وتقل احتمالات مجيء الدمقرطة بعد أفول نظام مثل نظام بوتين – الذي يديره زعيم فردي كبير في السن لمدة 20 عاماً أو أكثر – أقل من واحد من كل عشرة. كما أن تمديد حدود الولاية الرئاسية، كما فعل بوتين بعد استفتاء العام الماضي، هو أيضاً علامة سيئة. ووفقاً لبيانات مشروع الدساتير المقارنة، سعى 13 زعيماً حول العالم إلى تمديد حدود الولاية الرئاسية في الفترة من 1992 إلى 2009. وفي جميع الحالات التي تمت دراستها في ما عدا حالة واحدة، إما أنّ أنظمتهم لا تزال في السلطة أو أنها انتقلت ببساطة إلى نظام استبدادي جديد بعد رحيل الزعيم.
هذا لا يعني أن روسيا محكوم عليها بالاستبداد أو أن تغيير الرئيس لن يكون مهماً. لقد أظهر السجل التجريبي أن الإجراءات التي يتخذها القادة الاستبداديون منذ فترة طويلة لضمان السيطرة – مثل تقويض المجتمع المدني وتفريغ المؤسسات التي يمكن أن تقيد سلطتهم – تخلق حواجز أمام ظهور الديمقراطية. بصورة مماثلة، فإن مجرد التغيير في القيادة لن يكون لها تأثير مهم. فإذا لم يأتِ رحيل بوتين بتحول كبير في النخبة الحاكمة، ستظل الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الروسية، مثل الإيمان بحق روسيا في مجال نفوذ في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، غير متوافقة مع قيم الولايات المتحدة وحلفائها. ببساطة، يجب على صانعي السياسة الأميركيين الاستعداد لاحتمال أن تستمر ملامح السياسة الخارجية الروسية، بالتالي نية الكرملين لتقويض المصالح الأميركية، لفترة طويلة بعد مغادرة بوتين لمنصبه.
القوة المستمرة
يجب أن تفكر الولايات المتحدة في روسيا ليس كقوة متدنية بل كقوة ثابتة ومستعدة وقادرة على تهديد مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة على مدى السنوات العشر إلى العشرين المقبلة على الأقل. وحتى إذا أثبتت الصين أنها تمثل التهديد الأكثر أهمية على المدى الطويل، فإن روسيا ستظل أيضاً منافساً على المدى الطويل – أي قوة “جيدة بما فيه الكفاية”، كما قالت عالمة السياسة كاثرين ستونر، بقدرة على التأثير في الشؤون العالمية وبشكل كبير على المصالح الأميركية. إنّ الفضاء السوفياتي السابق لا يزال عبارة عن صندوق بارود، يُعاني من تبعات تفكك الاتحاد السوفياتي، الذي لا ينبغي اعتباره حدثاً بل عملية مستمرة، كما قال المؤرخ سيرجي بلوخي بشكل مناسب. وبغض النظر عن مدى رغبة واشنطن في التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ينبغي عليها أن تنظر في احتمالية اندلاع حرب روسية أوكرانية أخرى، أو صراع عسكري ناتج من الاضطرابات السياسية في بيلاروس، أو أزمات شبيهة بحرب ناغورنو قره باغ عام 2020.
مقارنة بالصين، تشكل روسيا أيضاً خطراً أكبر على الوطن الأميركي. من ناحية، تظل روسيا التهديد النووي الأبرز للولايات المتحدة، على الرغم من ترسانة الصين المتنامية من الأسلحة النووية الاستراتيجية. ينطبق الأمر نفسه على قدرة روسيا على الوصول إلى الولايات المتحدة القارية بصواريخ تقليدية بعيدة المدى. كما تمتلك روسيا قوات متمركزة خارج حدودها أكثر من الصين، حيث لديها قواعد في القوقاز وآسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط، مما يضع جيشها على مقربة منتظمة من القوات الأميركية وحلف شمال الأطلسي. عندما يتعلق الأمر بالحرب غير المباشرة، فإن سجل موسكو في التدخل في الانتخابات والقرصنة يثبت أنها تستطيع وستستخدم التقنيات الناشئة ضد الولايات المتحدة وحلفائها. ومن الجدير أيضاً التأكيد على أن الكرملين يمكن أن يعرض المصالح الأميركية للخطر بكفة ضئيلة. في هذا الصدد، كانت التدخلات العسكرية الروسية في أوكرانيا وسوريا وليبيا محدودة وغير مكلفة، وكذلك كانت الهجمات الإلكترونية وجهود التضليل.
يجب أن تفكر الولايات المتحدة في روسيا ليس كقوة متدهورة بل كقوة ثابتة
من المرجح أن تشكل روسيا التهديد الأكثر استدامة ربما في مجالات الحرب الإلكترونية والهجمات على الديمقراطية الليبرالية. لقد طوّرت روسيا مجموعة من الأدوات منخفضة التكلفة التي تسمح لها بتعزيز الأنظمة الاستبدادية في البلدان الأخرى، وتضخيم الأصوات غير الليبرالية في الديمقراطيات الراسخة، وتسميم النظم البيئية للمعلومات، وتخريب الانتخابات والمؤسسات الديمقراطية الأخرى. ونظراً لاعتقادها بأن إضعاف الديمقراطية يمكن أن يُسرّع تراجع النفوذ الأميركي، ستستمر روسيا في بذل الجهود على هذه الجبهة. ولقد لاحظت دول أخرى نجاح روسيا في هذا المجال وبدأت تقلدها، كما اتضح من تبني الصين لحرب معلوماتية على طريقة الكرملين أثناء الوباء.
هناك مصدر قلق أخير بشأن روسيا، ويتمثل في اصطفافها المتنامي مع بكين. ففي الواقع، شكلت حكومتا البلدان شراكة استراتيجية، حيث تتبادلان الدعم الفني والمادي لموازنة الضغط الغربي وتركيز مواردهما على التنافس مع الولايات المتحدة بدلاً من التنافس مع بعضهما البعض. كما نما تعاونهما الدفاعي والعسكري. وسيكون تأثير هذا الاصطفاف أكبر من مجموع أجزائه، مما يضاعف التحدي لمصالح الولايات المتحدة الذي تفرضه كل دولة على حدة. بالتالي، لن يكون التحدي هو مجرد إعطاء الأولوية للصين وروسيا بشكل صحيح في استراتيجية الولايات المتحدة، بل الاعتراف بأن المشكلات التي يطرحها البلدان ليست بالضرورة منفردة وقابلة للفصل.
تحديد الحجم الحقيقي لروسيا
يجب على واشنطن أن تتجاوز الأسطورة القائلة بأن روسيا دولة محاصرة أو أنها في مأزق، والصراخ بأنها تسير إلى زوال. في الحقيقة، هناك أدلة قليلة على أن قادة روسيا يرون بلادهم بهذه الطريقة – على العكس من ذلك، إنهم يعتبرون روسيا مركز القوة في منطقتها ولاعباً حازماً على مستوى العالم. بل أكثر من ذلك، تعزز أحداث مثل الانسحاب الأميركي الفاشل من أفغانستان تصور موسكو بأن الولايات المتحدة هي التي في تراجع. وسيوّلد تجاهل هذا الرأي توقعات خاطئة بشأن سلوك روسيا، ما سيترك الولايات المتحدة وحلفاءها غير مؤهلين للتنبؤ بالإجراءات الروسية.
لقد اتخذت إدارة بايدن خطوات في الاتجاه الصحيح، من بينها التركيز على تعزيز مناعة الديمقراطية. فمن خلال رفع مستوى الأمن السيبراني إلى أولوية بالنسبة للأمن القومي وتعزيز البنية التحتية الحيوية، وتحسين النظم البيئية للمعلومات، واستئصال الفساد الذي تستخدمه روسيا لتخريب المؤسسات الديمقراطية، يمكن لواشنطن وحلفائها قطع مصدر رئيسي لنفوذ موسكو في الخارج. في غضون ذلك، يمكن للجهود التي تبذلها الإدارة للحد من التسلح وتحقيق الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا، والتي يجب أن تمتد إلى المجال الإلكتروني والفضاء، الحيلولة دون خروج مواجهة طويلة الأمد عن نطاق السيطرة.
لكن للمضي قدماً، يجب على واشنطن أن تتجنب التركيز المفرط على الصين لدرجة إهمال القضايا المهمة الأخرى مثل روسيا. لقد ناقش الدليل الاستراتيجي للأمن القومي المؤقت، الذي صدر في مارس باعتباره أحد التحليلات الأولى للأمن القومي لإدارة بايدن، الصين بعمق بالغ بينما خصص بضع جمل قليلة لروسيا لذا يجب أن تصحح الوثائق الاستراتيجية المستقبلية، مثل استراتيجيات الأمن القومي والدفاع الوطني المقبلة، هذا الاختلال.
يجب أن تكون واشنطن أكثر جرأة في جهودها للدفاع عن الديمقراطية ضد التخريب الخارجي.
يجب أن تتبع الإدارة نفس النهج في وضع ميزانية الدفاع. فعلى الرغم من أنّ التهديد العسكري الروسي لم ينخفض، إلا أنّ التمويل الذي خصصته واشنطن للتعامل معه قّل، حيث خفّضت طلبات الميزانية المتتالية منذ عام 2020 الدعم لمبادرة الردع الأوروبية (وهي جهد أميركي لتعزيز وجودها العسكري في أوروبا بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم)، أخيراً بنسبة 19 في المئة. إنّ إعادة تخصيص هذه الأموال لشرق آسيا، كما تريد إدارة بايدن، لن يُحدث فرقاً ملحوظاً على الأرجح في التوازن العسكري مع الصين – لأن المبلغ متواضع جداً لذلك. لكن تحويلها سيخلق مخاطر غير ضرورية في أوروبا، بخاصة بالنظر إلى إمكانية نشوب صراعات متزامنة مع الصين وروسيا، حيث تستغل إحدى هاتين الدولتين زي أزمة تشمل الأخرى لتحقيق أهدافها الخاصة. يجب على واشنطن التحوط ضد مثل هذا السيناريو والحرص على ألّا تصبح أوروبا الحلقة الضعيفة في استراتيجيتها.
سيلعب الناتو دوراً مركزياً في ذلك المسعى. فقد بدأ الحلف أخيراً في تحديث وثيقته الاسترشادية الرسمية، ويجب أن تحرص واشنطن على بقاء روسيا، وليس الصين، أولوية واضحة. يجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تواصل تشجيع حلفائها وشركائها الأوروبيين على تحمل المزيد من عبء الردع والدفاع في القارة. في هذا الصدد، أعاد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان تنشيط الدعوات الأوروبية لتعزيز قدراتها الذاتية. لقد حان الوقت، من خلال التنسيق الدقيق عبر الأطلسي، لاتخاذ خطوات حقيقية نحو تعزيز الركيزة الأوروبية داخل الناتو.
أخيراً، يجب أن تكون واشنطن أكثر جرأة في جهودها للدفاع عن الديمقراطية ضد التقويض الخارجي. كما ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها تكثيف ردودهم الجماعية على الحرب الإلكترونية التي تشنها موسكو وعلى تدخلها في الانتخابات وغيرها من الأنشطة التي تهدد سلامة أنظمتها السياسية والاقتصادية. على سبيل المثال، يجب عليهم الاتفاق على اتخاذ إجراءات جماعية ضد أي تدخل خارجي في الانتخابات يتجاوز الحدود المتفق عليها. قد تُحجب الصين طموحات روسيا الرقمية، لكن روسيا تعمل على تطوير ديكتاتوريتها الرقمية الخاصة، المصممة جزئياً لتقويض الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. تتطلب معالجة هذا التهديد أيضاً العمل مع شركاء ديمقراطيين متشابهين في التفكير في المنظمات الدولية مثل الاتحاد الدولي للاتصالات للتأكد من أن بكين وموسكو ليستا من يفرض القواعد والمعايير الرقمية المستقبلية.
من المفهوم أن التهديد الذي تشكله الصين الصاعدة ذات التوجه التنقيحي، يتمتع بجاذبية قوية. لكن الولايات المتحدة قادرة على التعامل مع قوتين في آن واحد: الصين، باعتبارها تهديداً متسارعاً، وروسيا، باعتبارها تهديداً مستمراً. عند الحديث عن نهجهم تجاه روسيا، فإن مسؤولي إدارة بايدن مغرمون بالقول إن الولايات المتحدة “يمكنها أن تمشي وتمضغ العلكة في نفس الوقت”. الآن سيتعين عليهم إثبات ذلك.
اندبندت عربي