تحاول روسيا استغلال التوتر في الشمال السوري بين تركيا و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، والتي يشكّل الأكراد القوام الرئيسي لقيادتها، بهدف توسيع نفوذها وترسيخه في منطقة شرقي الفرات، وهي المنطقة الأهم في الجغرافيا السورية من حيث غناها بالثروات النفطية والمائية والزراعية، فيما تحاول “قسد” الاستفادة من المسعى الروسي لتجنّب عملية عسكرية تركية محتملة ضدّها، حيث تولت موسكو زمام التحرك السياسي لإقناع أنقرة بعدم التوغل مجدداً في سورية بمنطقتي غربي الفرات وشرقه.
ومن المقرر أن يجري وفد من “مجلس سورية الديمقراطية – مسد”، الجناح السياسي لـ”قسد” برئاسة القيادية في حزب “الاتحاد الديمقراطي”، إلهام أحمد، اليوم الثلاثاء، مشاورات في العاصمة الروسية موسكو، يبدو أن الهدف منها التوصل إلى تفاهمات مشتركة بين الطرفين، مقابل موقف روسي ضاغط على تركيا من أجل عدم القيام بعمل عسكري واسع النطاق في اتجاه مناطق تسيطر عليها “قسد” في الشمال السوري. وهذه هي الزيارة الثانية لأحمد إلى موسكو خلال فترة زمنية قصيرة، حيث كانت زارت العاصمة الروسية منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي، والتقت المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، حيث جرى “بحث تطورات الأوضاع في مناطق شمال شرقي سورية، ومستجدات العملية السياسية”، بحسب بيان للخارجية الروسية صدر إثر اللقاء.
أحمي: لم نسلّم أي منطقة من مناطق الإدارة إلى النظام
وترتبط قوات “قسد” مع موسكو باتفاق ذي صبغة عسكرية، أبرم في أكتوبر/تشرين الأول 2019، ومنح الروس والنظام السوري مناطق انتشار عسكري في شرقي الفرات لإيقاف عملية “نبع السلام” التي شنّها الجيش التركي في ذلك العام ضد القوات الكردية. وتدل المعطيات السياسية الحالية على أن الروس والأتراك في طور نسج تفاهمات جديدة بشأن المنطقة، ربما قد تتبلور خلال اجتماع خبراء عسكريين من الجانبين في العاصمة التركية أنقرة خلال الأسبوع الحالي. ومن الواضح أن الجانب التركي يبحث عن مكاسب ميدانية مهمة في غربي الفرات، حيث مدينتا تل رفعت ومنبج وكلتاهما تحت سيطرة “قسد”، أو في شرقي الفرات، حيث مدينة عين العرب (كوباني) ذات الزخم السُكّاني الكردي، أو بلدتا عين عيسى وتل تمر الواقعتان على الطريق الدولي “أم 4”.
آراء
أكراد سورية بين حدّ الحرب والاستسلام
وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة “الوطن” التي تعكس مواقف النظام السوري، أمس الإثنين، أن “المبادرات الروسية تتجلى في إقناع قادة المكون الكردي في تلك المناطق (شمالي وشمال شرقي سورية) بسحب مقاتليهم من المواقع محل الخلاف، مثل تل تمر وعين عيسى، وربما منبج وعين العرب، مقابل تمركز الشرطة العسكرية الروسية”. وأضافت “الوطن” أن “القيادة الروسية تُركز جهودها حالياً على إيجاد حلول وسط، تضمن مصالح جميع أطراف النزاع لسحب فتيل المواجهات المفترضة”.
وفي السياق، ذكرت مصادر مطلعة لـ”العربي الجديد”، أن موسكو جمعت ضباطاً من قوات النظام وقياديين أكراداً، خلال الأيام القليلة الماضية، لبلورة تفاهمات جديدة ربما تعيد رسم الخريطة في شرقي نهر الفرات. وحصل اجتماع أمس الإثنين بين “قسد” وضباط من الجيش الروسي في مطار الطبقة العسكري (الرقة) لبحث مسألة عودة قوات النظام إلى مدينة الطبقة، وذكرت المصادر أن كل هذه المفاوضات “لم تثمر عن أي نتائج حتى اللحظة”. وقالت المصادر إن “النظام متمسك بشروطه، يريد منطقة شرقي نهر الفرات والعودة إلى ما قبل 2011، وهذا ما ترفضه قسد حتى الآن”. وبيّنت المصادر أن “مجلس سورية الديمقراطي” (مسد) يحاول إقناع موسكو بالإبقاء على الإدارة الذاتية (الكردية)، واعتبار قوات “قسد” تابعة للجيش السوري، أي “بقاء الوضع في شرقي الفرات على ما هو عليه اليوم”، لافتة إلى أن “تسليم أي منطقة في الرقة ودير الزور وريف حلب للنظام، يعني الخطوة الأولى نحو تسليم بقية المناطق، ومن ثم خروج الأكراد من دون أي مكسب سياسي”. وأشارت المصادر إلى أن هناك تخوفاً لدى “قسد” في الوقت ذاته من شنّ الجيش التركي عملية عسكرية “إما في اتجاه عين العرب، ما يعني تقطيع أوصال المناطق التي تسيطر عليها، أو في اتجاه عين عيسى للتحكم بطريق أم 4، الشريان الاقتصادي الأبرز في شرقي الفرات”، وفق المصادر.
يتمسك النظام بشروطه التي ترفضها “قسد” حتى الآن
لكن المتحدث باسم “الإدارة الذاتية” الكردية في شمالي وشرقي سورية، لقمان أحمي، أكد أمس أنه “لم ولن يتم تسليم أي منطقة من مناطق الإدارة إلى قوات النظام”، مضيفاً أن كل المناطق التي كانت تحت سيطرة قسد “لا تزال ضمن سيطرتها وستبقى كذلك”. ونفى أحمي وجود حوار مع النظام السوري، واضعاً الأنباء التي تتحدث عن ذلك في إطار “الشائعات”، غير أنه أكد “أننا منفتحون على الحوار مع كل الأطراف لحل الأزمة السورية سلمياً وديمقراطياً، بما يضمن حقوق مكونات شعبنا في شمالي وشرقي سورية، والحفاظ على قوات سورية الديمقراطية”.
وحول الأهداف الروسية، يرى الباحث في مركز “الحوار السوري”، محمد سالم، أن “هناك ملامح تعاون روسي أميركي في شرقي الفرات، يمكن أن يفسر على أنه تحضير لانسحاب أميركي من المنطقة”، لافتاً إلى أن تركيا “تتحفز وتبذل كل جهودها للحصول على مكاسب من أي تغيير في خريطة السيطرة”. ويعتبر سالم، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “مرور الدوريات الروسية في بعض مناطق قسد، دون رد فعل أميركي، يعني ضوءاً أخضر من واشنطن لقسد وروسيا للتنسيق”، مشيراً إلى أنه “بوجود ضغط تركي وملامح انسحاب أميركي، تصبح الفرصة كبيرة أمام روسيا لتوسيع مناطق نفوذها”.
من جهته، يعتبر الباحث المختص بالشأن الروسي، طه عبد الواحد، أن موسكو “تستغل حاجة الأتراك والأكراد (لها) لتوسيع نفوذها في شرقي الفرات”، لافتاً في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أنها تحاول منذ سنوات “أن تكون وسيطاً بين الأكراد والنظام، وها هي اليوم تنشط للوساطة بين الأكراد وتركيا”. ويرى أنه “في الحالتين، لا شك أن هذا الوضع سيساعد روسيا على توسيع نفوذها، لا سيما في منطقة سورية تتمتع بأهمية استراتيجية”، معتبراً أن أي وساطة ستمنح الروس صفة “الضامن”، وتعزز وجودهم في المنطقة التي قد تشملها أي تفاهمات كردية – تركية بوساطة روسية، ما سيعزز مكانة روسيا أيضاً لدى تركيا”.
العربي الجديد