“ليس هناك من أمر دائم أكثر من المؤقت”، يقول مثل فرنسي شهير، وسيكون هذا صحيحاً إذا ما تغير ترتيب الكلمات؛ بمعنى أن الدائم المزعوم هو أيضاً ليس محصناً من التغييرات، ولا سيما عندما يدور الحديث عن الشرق الأوسط. وأحياناً يكون هذا أقل من ذلك الوضع الذي تغير وأكثر منه التقديرات والتفسيرات من حوله، سواء للمصلحة أم لعدم الفهم. وثمة مثال بارز، وهو التفسيرات حول علاقات العالم العربي السُني، أو قسم منه، مع إيران.
يعتقد توماس فريدمان، المحلل السياسي في “نيويورك تايمز”، بأن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان غيّر ترتيب الحجارة على لوحة الشطرنج الشرق أوسطية المجمدة، وجراء ذلك ينشأ واقع من علاقات تقارب بين السعودية ودول الخليج الأخرى مع طهران. دعك من تجاهل فريدمان، عندما يتحدث عن لوحة الشطرنج المجمدة، للتحسن الكبير الذي طرأ في المنطقة؛ أي اتفاقات السلام والتطبيع بين إمارات النفط والبحرين مع إسرائيل؛ ولكن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان منح حظوة نحو تطور مبارك ما في المنطقة، وهذا يثير الدهشة في نظري. فما بالك أن معظم المحللين، ومنهم فريدمان نفسه، لم يوفروا النقد على ما حدث وعلى خطوات الرئيس بايدن. ولكن فريدمان يواصل، وربما يعكس موقف الإدارة: “كان بايدن محقاً مئة في المئة، إذ إن وجود أمريكا في أفغانستان والضمانات الأمنية الرسمية أو الضمنية لجهات مختلفة في المنطقة أدت إلى سلوك مرفوض وضار: مقاطعات، احتلال، مغامرات منفلتة العقال وما شابه”.
وهو يذكر “توسيع المستوطنات الإسرائيلية في عمق الضفة الغربية” كأحد الأمثلة على هذه النظرية. ولكن يصل هنا إلى الموضوع الأساس من ناحيته، أي أنه وبسبب الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط، نشأت أرضية واسعة لتبديد التوترات بين العالم العربي السني وإيران. وهو يذكر في هذا السياق تصريحات إيجابية لزعماء ودبلوماسيين من الطرفين. بتعبير آخر، التهديد الإيراني -برأيه- ليس خطيراً مثلما كان من قبل.
على أي حال، يبدو أن الزعماء العرب أكثر وعياً من فريدمان، وأكثر بكثير من زعماء إسرائيل الحاليين، وهم لا يتأثرون بالتغييرات الإيجابية التي طرأت، زعماً، في نوايا طهران. العكس هو الصحيح؛ فهم يستخلصون استنتاجات صحيحة من التحولات التي طرأت على السياسة الخارجية الأمريكية في عهد بايدن، وليس أقل من ذلك من التحولات في السياسة الأمريكية الداخلية، حين تكون الإدارة المتعثرة تحتجز تقريبا في كل موضوع كرهينة في أيدي اليسار المتطرف في الحزب الديمقراطي في الكونغرس، الذي لا يخفي معارضته للعلاقات السابقة التي بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في الشرق الأوسط. السياسيون العرب لا يستخفون بأهمية العلاقات مع الولايات المتحدة، ولكنهم يفهمون أن ثمة قيوداً موجودة في الوضع الحالي. بادرات طيبة كهذه أو تلك وحتى خطوات رمزية تجاه الإيرانيين هي جزء من اللعبة الدبلوماسية، ولكن الحقائق الأساس لم تتغير: إيران وفروعها هم في نظرهم مثلما هم في الماضي التهديد الحقيقي. والدليل أن السعودية أعلنت قبل بضعة أيام عن المؤسسة المالية لـ”حزب الله”، (صندوق الحسن) كجسم إرهابي. ليس للسعودية أوهام حول نوايا إيران، سواء مباشرة، أم من خلال فروعها مثل “حزب الله”، مصممة على مواصلة السياسة التي هدفها عزل إيران قدر الإمكان. رغم الابتسامات المتبادلة، فإن السعودية والإمارات الأخرى يقظة مثل إسرائيل لمخاطر إيران بتحولها نووياً، وإرهابياً وساعية إلى الهيمنة الشرق أوسطية. لكن فريدمان، في نظر نفسه على الأقل ليس صحافياً فحسب بل باحث ومتوقع لما سيأتي، وإضافة إلى التحليلات السياسية، تنبع النظرية الأساس لرؤياه عن الشرق الأوسط المتغير من التحولات الطبيعية التي ستملي ظاهراً على الدول المختلفة التعاون بينها. لكن حالياً لا يوجد اي مؤشر على أن إيران مثلاً ستخفف من ميولها العدوانية بسبب اعتبارات بيئية، وبالتأكيد ليس ضد إسرائيل. كما أسلفنا، حتى لو كانت هناك تغييرات مؤقتة محتملة فإنها لا تشهد على تغيير في الميول الدائمة.
القدس العربي