يبدو أنه لم يتلق رئيس حكومة عراقية يوماً ما عدداً كهذا من التبريكات ورسائل التشجيع ومكالمات الدعم الهاتفية، كالذي حظي به مصطفى الكاظمي، الذي كاد يفقد حياته فجر أول أمس في محاولة لاغتياله. الكاظمي، الذي أصاب بيته ضرر كبير وأصيب عدد من حراسه الشخصيين، أظهر الهدوء وطلب من الجمهور تجنب المواجهات ووعد بالتحقيق والعثور على المذنبين وتقديمهم للمحاكمة.
“نعرف من الذي يقف من وراء محاولة الاغتيال”، أعلن، وأمر الجيش بإغلاق المنطقة التي أطلقت منها الطائرات المسيرة. قالت تقارير عراقية إن الطائرات المسيرة المسلحة تشبه في نوعها التي استخدمها من هاجموا أهدافاً أمريكية قبل شهر في “المنطقة الخضراء”، حي السفارات في وسط بغداد. وُجهت إصبع الاتهام للميليشيات الشيعية التي ترعاها إيران، والظروف السياسية تساعد على ترسيخ هذا الاتهام.
تلقت هذه المليشيات ورؤساؤها السياسيون الضربة الأقسى في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 10 تشرين الأول الماضي. وعند معرفة نتائج الانتخابات، حركوا نشطاءهم للقيام بمظاهرات صاخبة وعنيفة طالبوا فيها إعادة فرز جميع الأصوات لشك في حدوث تزوير. فليس من قبيل الصدفة أن سارع قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني، في الوصول إلى بغداد للالتقاء بقادتهم ليلة الأحد الاثنين،.
في هذه الأثناء، لن تخدم أي مواجهات عنيفة مصالح إيران الساعية إلى بناء تحالف داعم تشكله الحكومة. من هنا، ثمة صعوبة في ترسيخ منطق يقف من وراء محاولة الاغتيال، إلا إذا كان الهدف إشعال حرب أهلية أو على الأقل مواجهات عنيفة على المستوى الوطني، التي ربما كانت ستتسبب بتشكيل حكومة طوارئ مؤقتة. ولكن إذا كان هذا هو محرك العملية، فليس للمليشيات أو إيران أي ضمانة بنجاحها في إنجاز نتيجة سياسية تخدم أهدافهم.
الكاظمي (54 سنة) هو رجل قانون في مهنته، عاش في المنفى في بريطانيا وألمانيا وعمل في الصحافة قبل عودته إلى العراق في 2003. وقد تولى رئاسة المخابرات في العراق وحصل على مباركة إيران والولايات المتحدة عندما تم تعيينه في هذا المنصب في أيار 2020. مهمته الأساسية كانت إعداد الدولة للانتخابات بعد أن تم تبكير موعدها. وعادل عبد المهدي استقال من منصبه بعد مظاهرات عنيفة اندلعت في نهاية 2019، التي قتل فيها مئات الأشخاص وأصيب الآلاف.
اضطر الكاظمي الذي أقام علاقات وثيقة مع الإدارة الأمريكية، إلى السير على حبل دقيق بين المصالح العراقية – الأمريكية – الإيرانية. من جهة كان يجب عليه تطبيق القانون البرلماني الذي نص على أنه يجب على الحكومة إنهاء الوجود الأمريكي في العراق، وفي الوقت نفسه محاربة القوة المهددة للمليشيات المؤيدة لإيران. في موازاة ذلك، كان عليه الحفاظ على علاقات سليمة مع النظام في طهران، إيران هي الشريكة التجارية المهمة للعراق، وهي تستورد منها 40 في المئة من احتياجاتها وتبيعها الكهرباء والمياه والبنزين.
طن. ولكن عند خروج القوات الأمريكية النهائي الذي قد يحدث حتى نهاية هذه السنة، ستبقى الحكومة العراقية مع جيش غير موحد، ومن غير الواضح إذا كان مؤهلاً بما فيه الكفاية لمواجهة التهديدات الكثيرة.
أمام المليشيات التي تم دمجها في الجيش العراقي، وهي تحظى بميزانية خاصة بمبلغ 2 مليار دولار، استخدم رئيس الحكومة العراقي القبضة الحديدية واعتقل المتمردين على القانون الذين جاءوا من صفوفها. أقال الكاظمي ضباطاً كباراً في الجيش اتهموا بتقارب زائد مع المليشيات، ونقل من منصبه مستشار الأمن القومي، صالح فياض، الذي تولى هذا المنصب مدة عشر سنوات، وفي موازاة ذلك تولى قيادة جزء من المليشيات الشيعية.
رغم النجاح النسبي في مجال الأمن، إلا أن الطلبات الأساسية للعراقيين مثل خلق أماكن العمل وتوفير مستمر ومنظم للمياه واجتثاث الفساد الإداري الذي يضع العراق على رأس قائمة الدول الفاسدة في العالم، لم ينجح في تحقيقها. الآن، عندما تولى منصبه كرئيس للحكومة الانتقالية، فإن صلاحيته لتطبيق إصلاحات اقتصادية وإدارية باتت محدودة أكثر. وسيكون التحقيق في محاولة اغتياله خاضعاً لنسيج معقد من المصالح والضغوط التي يمكن، مثلما في لبنان، أن تفشل جهود العثور على المسؤولين وتقديمهم للمحاكمة.
الصدر سيقوم بتسوية الأمر
هذه شرنقة سياسية، حتى الانتخابات الأخيرة سيصعب عليه حلها، وتركها سيعطي العراق فرصة للخروج من أزماته. يبدو أن نتائجها تدل على هزيمة للحركات المؤيدة لإيران والمليشيات الشيعية. ومثلما في الانتخابات السابقة، حقق الانفصالي الشيعي، مقتدى الصدر، فوزاً مهماً، فاز فيه بـ 73 مقعداً في البرلمان من بين الـ 329.
لكن هذا الفوز غير كاف للسيطرة على البرلمان العراقي أو تحديد من سيكون رئيس الحكومة القادم، حتى لو بكر الصدر إعلانه بأن رئيس الحكومة سيكون شخصاً من حركته. الصراع السياسي الذي يجري الآن والذي قد يستمر لأسابيع أو أشهر هو حول تشكيل التحالف الذي يمكنه قيادة الدولة، وحول تعيين رئيس الحكومة والموافقة على شخصية الرئيس، الذي سيكون كردياً، حسب الدستور.
تشكيلة الكتل السياسية التي تنافست في الانتخابات ليست هي التركيبة التي سترتكز عليها الحكومة الجديدة. حتى الآن، لا يوجد مرشح متفق عليه لرئاسة الحكومة، وحتى الأكراد لم يقرروا بعد مرشحهم للرئاسة. هذه معركة تتداخل فيها مصالح إقليمية ودولية متناقضة.
الولايات المتحدة التي ستسحب قواتها قد تخسر مراكز نفوذها السياسية إذا كانت هذه حكومة تؤيد إيران أو سيترأسها زعيم يكون خاضع لإملاءات إيران. الولايات المتحدة في الحقيقة تأمل أن يمنع الصدر تشكيل حكومة كهذه، لكنه يعارض التدخل الأمريكي بنفس القدر الذي يعارض فيه تدخل إيران.
إيران في المقابل تدرك الحساسية المناوئة لإيران والعداء تجاه تدخلها في بغداد. ولكن العراق أكثر أهمية، حتى أكثر من لبنان، لأنه نجح في ترسيخ سيطرة اقتصادية وسياسية وعسكرية، وبنى لنفسه بفضل ذلك مكانة دولة عظمى إقليمية. على طهران أن تضمن أن أي حكومة سيتم تشكيلها لن تتوجه نحو السعودية التي يمكنها أن تسحب رافعة النفوذ الاقتصادي من بين يديها.
إن التعرض لهذه المصالح، إلى جانب صراعات القوة المحلية والأزمة الاقتصادية، هي الأسس الثابتة التي تغذي عدم الاستقرار في العراق. وهذه لن تتوقف عند تشكيل حكومة جديدة وتعيين رئيس حكومة متفق عليه.
القدس العربي