عندما يبارك الإيرانيون الانتخابات البرلمانية العراقية، ويعتبرونها “استمرارا للمسيرة الديمقراطية في العراق”، ويصفون ما أثير بعدها من جدل ومماحكات بين الكتل والأحزاب المشاركة فيها بأنه “شأن داخلي يخص شعب وأحزاب هذا البلد”، فهذا يعني أن العراقيين سيواجهون عواصف سياسية هوجاء، قد لا ينجو من مقاديرها أحد، وأن الإيرانيين لا يريدون أن يكونوا في الواجهة، ما دامت عقدة “الملف النووي” لم تحسم بعد. ولذلك تراهم يمارسون في طرح مواقفهم مما يجري لعبة “التقية”، تاركين لوكلائهم المحليين فعل المقتضى، بعكس ما كانوا يعلنونه في فترة سابقة، عندما كان رجلهم القوي، قاسم سليماني، يتحكّم في الملف العراقي، وفي حينها لم يتورّع عن التبجح بأنه وراء إنشاء “الحشد الشعبي” للدفاع عن بلاده. وواضح أنهم، في ظل الظروف المعقدة التي تحيط بهم، ليسوا على عجلة من الوصول الى هدفهم الأخير في إحكام هيمنتهم على العراق، وربما إعلانه ولايةً من ولايات “الولي الفقيه” كما يحلم بعضهم، إنما “رويدا رويدا وتتحوّل خيوط الصوف إلى سجادة” بحسب المثل الفارسي.
وقد رأينا مقدّمات تلك العواصف في تظاهرات “الفرصة الأخيرة” التي طوّقت “المنطقة الخضراء”، والتي نظمتها المليشيات “الولائية”، وأرادت منها إشعال النار في نتائج الانتخابات، وإسقاط حكومة مصطفى الكاظمي التي اتهمتها بتزوير نتائج الانتخابات، وسرقة أصوات الآلاف من الناخبين لصالح خصومها، وصولا إلى محاولة اغتيال الكاظمي، بعد ساعات من تهديد زعماء المليشيات علنا بتصفيته، ما يؤكّد النية السوداء لإدامة حالة عدم الاستقرار في العراق، بما يخدم توجّهات إيران في الإقليم، ويضمن لها بقاءها قوة مهيمنة على العراق، وساعية إلى توسيع هذه الهيمنة، كي تشمل دولا أخرى في محيطه.
ليس الإيرانيون على عجلة من الوصول الى هدفهم الأخير في إحكام هيمنتهم على العراق، وربما إعلانه ولايةً من ولايات “الولي الفقيه” كما يحلم بعضهم
وعبرت تظاهرات “الفرصة الأخيرة” في وجهها الآخر عن حالة إحباط ونكوص، عانى منها معسكر المليشيات، إثر خسارته المدوية في الانتخابات، وبعد أن انعقد ما يقترب أن يكون إجماعا عاما لدى العراقيين على رفض الهيمنة الإيرانية، والنظر الى “المليشيات” طابورا خامسا يخدم المشروع العرقي الفارسي، المتخفّي وراء الشعارات المذهبية. وزاد من حقدها ارتفاع صيحات ثوار تشرين أن “إيران برّه.. برّه”، ودفعها إلى الولوغ بدماء الثوار، والسعي إلى إسكات أصواتهم على النحو الذي عرفه العراقيون في العامين الماضيين.
وثمّة مفارقة برزت في هذه التظاهرات تدعم ما طرحه في السابق معنيون بالوضع العراقي، وهي اصطفاف “الحشد الشعبي” الذي يفترض أن يكون جزءا من القوات المسلحة العراقية إلى جانب “المليشيات الولائية”، ومشاركته بتظاهرات “الفرصة الأخيرة”، وتنديده بالقائد العام للقوات المسلحة، والتوعد بتصفيته، ما يشكّل خرقا للقوانين العسكرية يستوجب العقوبة، ويعزّز الانطباع القائل إن “الحشد” الذي أخذ أكبر من حجمه ليس سوى أداة في خدمة مخطّطات معادية للهوية العراقية وللأهداف الوطنية. ومفارقة ثانية، تبنّي مسؤولين في الحكومة، وفي كتل وأحزاب قائمة، تلك التظاهرات التي خرجت عن الإجماع الوطني بشعاراتها الطائفية، وبترويجها لغة العنف غير المبرّر.
وفي التداعيات أيضا محاولة بعض قيادات الجماعة السياسية الحاكمة النأي بأنفسهم عن محاولة الاغتيال، وقد كانوا إلى حد آخر ساعة يهدّدون بتصفية الكاظمي واثنين من مساعديه، لكنهم ما لبثوا أن استداروا مئة وثمانين درجة بعد فشل المحاولة، داعين إلى ضبط النفس وعدم الانجرار إلى الفتنة.
ثمّة صراعات بدأت تظهر إلى العلن بين الأطراف المختلفة في العراق، ربما تجعل الوضع العام قلقا ومفتوحا على كل الاحتمالات
وهكذا فشل “سيناريو” الإقصاء والتصفية الذي أرادته المليشيات للكاظمي، وأدّى إلى عكس ما أرادوه، فقد سجل الكاظمي نقطة لصالحه، قد تخدمه في سعيه إلى تأمين حصوله على ولاية ثانية، وإن كان زعماء المليشيات سيعملون جهدهم للوقوف بوجهه. وبقدر ما انعكس فشل “السيناريو” الماثل على حظوظ المليشيات في استئثارها بموقع القوة والنفوذ الذي اعتادت التعامل من خلاله مع الآخرين، فإنه سوف ينعكس أيضا داخل “العملية السياسية” الماثلة نفسها التي تريد الجماعة الحاكمة إعادة إنتاجها. وثمّة صراعات بدأت تظهر إلى العلن بين الأطراف المختلفة، ربما تجعل الوضع العام قلقا ومفتوحا على كل الاحتمالات، وقد يدفع قوى إقليمية ودولية إلى التدخل لتأمين موطئ قدم لها في بلدٍ يحوي من عوامل الجذب الكثير.
يبقى السؤال الذي ننتظر الإجابة العملية عنه: كيف سيتصرّف الكاظمي تجاه المليشيات هذه المرّة، وهل سيكون حازما في اتخاذ ما ينبغي بعد أن وضح الدور الشرير الذي لعبته في محاولتها إغراق العراق بالدم، وبعد أن حصل على هذا الدعم الدولي الواسع الذي لم يسبق لحكومة سابقة عليه أن تناله؟
العربي الجديد