ما خلا أنّ العبوات الناسفة والسيارات المفخخة لم تكن هي الأداة مقابل الصواريخ والمسيّرات ومعدّات التفجير المعاصرة، والنجاح الصاعق مقابل الفشل الذريع، وفارق السنوات الـ16 سنة؛ بدت محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الأخيرة بمثابة تذكرة بليغة، وربما إعادة إنتاج ضمن معطيات إخراجية تفرضها اعتبارات راهنة شتى، لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
ولا يُلام امرؤ ربط بين هذه وتلك، لجهة إحالاتها الواضحة وبصمة الجهات المنفّذة؛ أو يجد البعض غضاضة في مقارنة مسرحية أحمد أبو عدس في بيروت 2005، وسخرية أبو علي العسكري المسؤول الأمني في «كتائب حزب الله» العراقية في بغداد 2021 من أنه توجد «طرق كثيرة جداً، أقل تكلفة وأكثر ضماناً» لاغتيال الكاظمي، أو «هذا المخلوق الفيسبوكي»، «رئيس الوزراء السابق». أكثر من ذلك، على غرار ما تساجل به هذه السطور، هل تُلام أدوات التنفيذ الفعلي من قتلة الحريري أو مستهدفي الكاظمي، أم الملامة الأولى أجدر بالتوجّه إلى رأس التخطيط والآمر الأكبر؛ سواء كان مقرّه الضاحية الجنوبية في بيروت، أم مكاتب الوليّ الفقيه الخاصة السوداء في طهران؟
اغتيال الفرد بهدف خلط سلسلة من الأوراق المرتبطة به، أو حتى إفساد معادلة هنا وتوازن هناك على صلة ببقائه في المشهد حيّاً أو إزاحته عنه ميتاً؛ ليس خياراً جديداً أو طارئاً على أحزاب الله التابعة للمركز في إيران، بل هو ثقافة سياسية وأمنية عريقة، ليس على المتعمق في جوانبها حرج إذا ردّ الكثير من عناصرها إلى جذور مذهبية خصوصية أكثر مما هي دينية عمومية. وضمن قراءة مثل هذه، سوف يعثر المرء على أسلوبية أخرى للسخرية من فشل محاولة اغتيال الكاظمي، تتقزّم إزاءها سخرية أبو علي العسكري آنفة الذكر: تصريح علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، بأنّ محاولة الاغتيال «فتنة جديدة يجب التحرّي عنها في مراكز الفكر الأجنبية».
نعم، مراكز الفكر! كأنْ يتحرى المرء في مركز فكر لفلسفة ما بعد التفكيك في فرنسا، أو ما بعد الحداثة في أمريكا، أو ما بعد الاستعمار في بريطانيا، أو ما بعد الماركسية في إيطاليا، أو ما بعد الفرويدية في النمسا… والـ»ما بعد» هنا ضرورية تماماً لإلصاق تهمة راهنة معاصرة، بالنظر إلى أنّ شمخاني أو أسلافه في المنصب لم يسبق لهم أن أشاروا إلى أدوار اغتيالية مارستها «مراكز الفكر» في أطوار الـ«ما قبل»! للسخرية حدودها بالطبع، في سطور هذه الفقرة مثلما هي في تصريح شمخاني، إلا أنّ الذهاب بها إلى مستويات مبتذلة تحاكي ما ابتدعه أمثال شمخاني الإيراني وتلميذه النجيب أبو علي العراقي، إنما يستدعي طرازاً موازياً من التهكم والاستخفاف.
وليست أولى مفارقات التطبيق الأحدث لهذه الثقافة أنّ الكاظمي كان في الأصل مرشحاً توافقياً رضيت به مجموعات «الحشد الشعبي» والميليشيات الموالية لطهران، وكان قد أتى إلى المنصب من قلب المؤسسة الأمنية والاستخبارية التي تعقد معها الفصائل الشيعية أوثق الصلات وأحسن الأواصر. إثم الرجل، اللاحق في الواقع، كان انحيازه الاضطراري إلى مفهوم الدولة في مستوياتها المؤسساتية، ثمّ امتثاله لإرادات محلية وإقليمية ودولية حثّت على طراز جديد من التعامل مع السلاح خارج القانون.
المفارقة التالية أشارت إلى أنه إذا فشل زيد أو تعثر عمرو في تحقيق النتائج المرجوة من صناديق الاقتراع، فإنّ اللجوء إلى إزاحة الكاظمي الفرد لن يتكفل بمنع التيار الصدري من الظفر بمزيد من النوّاب، كما أنه لن يصنع فارقاً كبيراً على طاولات التفاوض الشاقّ لإيجاد البديل عنه في رئاسة الحكومة. واحتمال أن يقع الاختيار على الرجل مجدداً لن يكون أكثر من إعلان فاضح جديد عن عقم ثقافة الاغتيال، وجدب مخيّلة رعاتها ومنفّذيها؛ سواء بسواء.
القدس العربي