شرعت قضية المهاجرين على الحدود البولندية ـ البيلاروسية الأبواب أمام خلاف أطلسي – روسي، واستطراداً أوروبي ـ روسي جديد، مرتبط بالصراع المستمر على الحدود الشرقية لأوروبا، منذ اجتياح الروس شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014 وضمّها إلى سيادتهم. ومع اتّساع رقعة التصعيد الجديد من البحر الأسود إلى مداخل البلطيق، وضمناً أوكرانيا، يبدو السباق محتدماً بين الحلّين العسكري والسياسي للأزمة. وتلاحقت التقارير عن حشد متزايد للقوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا بشكل غير مسبوق، بل الحديث عن انتشار 100 ألف جندي، وهو عدد أكبر بمرتين ونصف عن الحشد الذي حصل في الربيع الماضي، حين تجمّع 40 ألف جندي روسي في منطقة روستوف، المحاذية لحوض دونباس الأوكراني، حيث يخوض الانفصاليون حرباً ضد كييف في إقليمي لوغانسك ودونيتسك. وهو ما يطرح تحدياً شائكاً للأوروبيين، الذين يجدون أنفسهم، ربما للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991) في موقع أقرب للمواجهة مع الروس منه للتفاوض. ولا يعود ذلك إلى الحجم الهائل للبؤر الساخنة، المتشابكة شرقي أوروبا فحسب، بل أيضاً إلى مجموعة عوامل طرأت على القارّة الأوروبية في العقد الأخير. في البدء، كان عام 2015 مفصلياً لأوروبا، مع تدفق المهاجرين إليهم، في ظلّ خلافات عميقة مع تركيا على الملف، ثم في بدء التنقيب عن النفط شرقي المتوسط، ثم احتدام القتال في ليبيا، الذي أدى إلى انتشار عسكري تركي وروسي. وبعد ذلك، أضعف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الوحدة القاريّة، في ظلّ استمالة الأميركيين، بقيادة الرئيس السابق دونالد ترامب، لندن إليها.
تخشى أوروبا أن يتخلّى حلف الأطلسي والأميركيون عنها
كل ذلك، جعل الأوروبيين يفكرون بإنشاء جيش أوروبي موحّد، لكنه بدوره غير قابل للولادة الفورية، بفعل تنامي الأحزاب اليمينية المتطرفة في مختلف دول القارّة، بل ودعوة بعضهم للانفكاك عن الاتحاد الأوروبي. ولعلّ قضية الحدود البولندية ـ البيلاروسية خير مثال على مدى المأزق الذي تعاني منه دول الاتحاد الأوروبي. ففي مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، منح القضاء البولندي أولوية القوانين المحلية على القوانين الأوروبية، في تحدٍ واضح لسلطة الاتحاد، الذي تنضوي وارسو تحت لوائه. دفع ذلك الأوروبيين إلى تهديد بولندا، ما لم تتراجع عن قرارها. غير أن خطوة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بدفع المهاجرين غير الشرعيين إلى بولندا، أعاد اصطفاف الأوروبيين خلفها.
ويخشى الأوروبيون تدهور الوضع وتحوّله إلى صراع عسكري، مستندين إلى الانسحاب “الفوضوي” للأميركيين والقوات الأطلسية من أفغانستان في أغسطس/آب الماضي، والذي أثار قلق الدول الأوروبية، خصوصاً في حال قررت الاعتماد عليهما لردّ أي احتلال روسي لأوكرانيا أو لمنع تعدّي بيلاروسيا على بولندا. من هنا جاءت دعوة مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في الأسابيع الأخيرة لضرورة “إنقاذ أوروبا” عبر تشكيل جيش صغير، لكن فعّال “لمواجهة مختلف الأزمات”. ويفكّر الأوروبيون بجيش لا يتعدّى عدد عناصره الـ5 آلاف جندي، على أن يكون مولجاً في عمليات إخلاء أو حماية حدود، أو القيام بمهمات إنسانية، حسبما جاء في تقرير نشرته قناة “سي أن أن” الأميركية. وتطرق الأوروبيون، وفقاً للتقرير، إلى الحاجة لتشكيل جبهة موحّدة في الدفاع المشترك والأبحاث والاستخبارات، من دون اتضاح طريقة الإنفاق، خصوصاً في ظلّ الفجوات الاقتصادية الهائلة بين دول الاتحاد الـ27. حول ذلك، اعتبر المندوب الإيطالي إلى الاتحاد الأوروبي، بييترو بيناسي، في حديثٍ مع “سي أن أن” أنّ “تشكيل مثل هذه القوة تحتاج إلى موافقة الدول الـ27″، لكنه أبدى اعتقاده أنه على الرغم من التفاوت الدستوري بين دولة وأخرى، حيال الاستخدام العسكري، إلا أن “أوروبا قادرة على بناء استراتيجية مشتركة، وسيحصل هذا الأمر في لحظة ما”.
الأطلسي/سياسة/6/5
تقارير دولية
روسيا و”متلازمة الأطلسي”: من يطلق الرصاصة الأولى؟
وتحظى فكرة “جيش أوروبي موحّد” بدعم فرنسي، خصوصاً من الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي تحدث مراراً عن جيش لا يحتاج إلى قيادة أميركية ـ أطلسية لتأمين الحماية للقارّة الأوروبية. ويدفع ماكرون للخروج باتفاق أوروبي على إنشاء جيش، في مارس/آذار المقبل، مع انعقاد قمة أوروبية. وعلى الرغم من صعوبة الوضع، إلّا أن دولاً، مثل بولندا وإستونيا وليتوانيا، وبدرجة أقل السويد والنرويج والدنمارك، أكدت دعمها لمثل هذا الجيش “شرط أن يتضمّن إنشاؤه نصاً صريحاً يشير إلى روسيا أولاً، ثم الصين ثانياً”. لكنّ الوصول إلى صيغة تضمن طرح روسيا “خطراً أوروبياً مشتركاً” يحتاج إلى دعمٍ ألماني، وهو الأمر الذي يبدو غامضاً، مع استمرار المفاوضات لتشكيل الحكومة في برلين، بعد انتهاء عهد المستشارة أنجيلا ميركل. ومن غير الواضح ماهية استراتيجية ألمانيا الخارجية، تجاه روسيا تحديداً.
وحول ذلك، أفاد دبلوماسي ألماني قناة “سي أن أن” أنّ “وزارة الدفاع في حكومة برلين، قد تكون من حصة الاشتراكيين، الذين قد يقبلون بدعم مستشفيات ميدانية في أيّ جيش أوروبي، من دون التوسّع في مختلف القطاعات العسكرية حسبما ترغب فرنسا. أعتقد أنه لن يحصل بينهما اتفاق حول صيغة الجيش الجديد”. في غضون ذلك، تبقى المسألة عالقة في نقاط الصراع، في ظلّ طرح أسئلة متشابكة، وهي: إلى أي مدى يبدو الوضع خطيراً بين البحر الأسود والبلطيق؟ ما الذي يستطيع التحالف الغربي فعله تجاه روسيا؟ وما الذي يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحديداً؟ ومع اعتراف الجميع، بأنّ الوضع لا يشبه عام 2014 بل أخطر، إلّا أنّهم يقرّون بأنّ بوتين لا يخشى الردود الغربية، إذ سبق أن قام بما يريد في أوكرانيا، وفي جورجيا عام 2008 قبلها. وهو ما يجعله في موقع قوي نسبياً، ويدفع الغرب للتحاور معه من أجل تخفيض التوترات، الأمر الذي سيستغله الرئيس الروسي من أجل المطالبة برفع العقوبات عن بلاده. وحول ذلك، قال دبلوماسي أوروبي: “في كل مرة ترفع ميركل الهاتف لتتصل ببوتين، يصبح فوراً الحلّ لأي قضية. وهو ما يجعله قوياً في الداخل الروسي وفي القارّة الأوروبية”. وإذا كان الملف الأوكراني أولوية ألمانية، فإنّ اهتمام ماكرون بالحدود البيلاروسية ـ البولندية، دفعه للاتصال ببوتين، الذي “دعا” لخفض التوترات، مشدّداً على استمرار تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا، عكس رغبة لوكاشينكو. واستناداً إلى التواصل الأوروبي معه في كل أزمة، انطلق بوتين في خطاب أخير له إلى الدبلوماسيين الروس، يوم الخميس الماضي، بالقول إنّ الدول الغربية باتت تعلم أنّ لروسيا “خطوطاً حمراً لا يمكنهم تجاوزها”. وقصد بذلك توجّهه للأطلسي، المنتشر في البحر الأسود، بالقول: “اقتربتم 20 كيلومتراً من الحدود الروسية، وهو ما يمثّل تجاوزاً لخطوطنا الحمر”. وهو ما أدى إلى تراجع نسبي للأطلسي. مع العلم أنّ بوتين رفع من نبرة حديثه، في الأشهر الأخيرة، حول التجارب العسكرية الروسية، خصوصاً في سياق الصواريخ الفرط صوتية (هايبرسونيك)، والغواصات النووية، فضلاً عن تدمير قمر صناعي يوم الإثنين، بصاروخٍ انطلق من الأرض.
تختلف ألمانيا وفرنسا حول صيغة “الجيش الأوروبي” الجديد
يدرك الغرب أنّ بوتين وزع اهتمامه على ضفّتين: أوروبا والمحيط الهادئ. هناك أجرت البحريتان الروسية والصينية دورية مشتركة لقاذفاتهما الاستراتيجية. دفع هذا لإعلان الاستخبارات الأميركية، أن الروس سيُقدمون على عمل عسكري في أوكرانيا “قريباً”، ونصحت الدول الأوروبية بالتعاون مع الولايات المتحدة، من أجل فرض المزيد من العقوبات على روسيا. وحول هذا الاحتمال، أبدى دبلوماسيون أوروبيون خشيتهم من احتمال دفع بوتين لتشكيل حكومة موالية لموسكو في كييف، بصورة مشابهة لما كان أيام الرئيس السابق، فيكتور يانوكوفيتش. على أن مثل هذا الخطوة، تلي أيضاً عملاً عسكرياً. ويُمكن الاستناد إلى ارتفاع أسعار الغاز، وهو ما سمح لروسيا بإنفاق المزيد على التطوير العسكري. وعلى الرغم من أن بعض المحللين العسكريين اعتبروا أن هدف بوتين النهائي، هو ربط شرق أوكرانيا الانفصالي بشبه جزيرة القرم، وهو ما يعني السيطرة النهائية على بحر آزوف، المتفرّع من البحر الأسود، إلّا أنّ زيارة مدير المخابرات الأميركية المركزية “سي آي إيه”، وليام بيرنز، إلى موسكو في 2 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، أثارت المزيد من القلق حول النوايا الروسية في أوكرانيا. وهو ما لخّصه المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، جيم تاونسند بالقول إنّ “بوتين يدرك أنّ العالم منشغل بالحدود البيلاروسية ـ البولندية، بالتالي فإنّ أوكرانيا مشرعة أمامه”. وحول الرد الأميركي، اعتبر أنّه “علينا أن نكون مستعدين لإظهار قوتنا. لا نحتاج لقصف شيء، بل علينا أن نكون أذكياء كفاية، لإظهار قدراتنا العسكرية أمامه”.
(العربي الجديد)