لغة الحرب وسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط

لغة الحرب وسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط

“اللغة السياسية… صُممت لجعل الأكاذيب تبدو صادقة والقتل محترماً، ولإعطاء مظهر الصلابة للهواء البحت”.
-جورج أورويل، 1946
* * *
كما هو متوقع، لم يكن ثمة فحص حقيقي لكيفية استخدام المصطلح وللظروف الحالية التي سمحت للولايات المتحدة بتولي الدور الفريد والمفرد لمحكَّم الإرهاب، حيث تحدد مَن وما الذي يشكل تهديداً للعالم. كما لم يكن هناك الكثير من التفكير في الكيفية التي تسببت بها السياسات الأميركية في إحداث غضب وألم هائلين في الشرق الأوسط.
بنى الرئيس جورج دبليو بوش حربه على الإرهاب على أكاذيب لم يتم تفكيكها بعد. وقد استخدم هو وآخرون في مؤسسة السياسة الخارجية لواشنطن كلمة “الإرهاب” لإذكاء الخوف والإسكات، وإخفاء السياسات الفاشلة.
وما تزال رواية بوش الخيالية عن تعرض الولايات المتحدة للهجوم في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) لأنهم “يكرهون حرياتنا” قائمة، لأن التشكيك في هذا الفكرة السخيفة أصبح معادلاً للنقص في الوطنية.
كانت المهمات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق دائمًا تدور حول الحفاظ على الهيمنة في آسيا الوسطى وحماية مصالح الشركات متعددة الجنسيات ومصنِّعي الأسلحة والجيش المخصخص ودولة إسرائيل. لم تكن، كما زُعم، معنية بالدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان. ومثل بوش، لم يكن الرؤساء الأميركيون المتعاقبون صادقين أبداً مع الأميركيين العاديين بشأن دوافعهم الحقيقية وحول ما ستكون عليه تكلفة الحرب.
في العام 2004، تم إنشاء لجنة استشارية فيدرالية مستقلة، هي فريق العمل المعني بالاتصالات الاستراتيجية التابع لمجلس علوم الدفاع، لتقديم المشورة لوزير الدفاع بشأن التحول عن الأعمال العدائية. وخلصت اللجنة في تقريرها الصادر في أيلول (سبتمبر) إلى أن: “المسلمون لا ‘يكرهون حريتنا’ وإنما يكرهون سياساتنا. وقد عبرت الغالبية العظمى منهم عن اعتراضها على ما تعتبره دعمًا من جانب واحد لصالح إسرائيل وضد حقوق الفلسطينيين، والدعم طويل الأمد، بل والمتزايد باطراد، لما يعتبره المسلمون بشكل جماعي أنظمة استبدادية، (في دول عربية) وفي باكستان وغيرها”.
كما وجد التقرير أيضاً أن غالبية المسلمين يرون أن سياسات الولايات المتحدة وأفعالها تشكل تهديدًا لبقاء الإسلام نفسه، وأن هدف أميركا هو إضعاف العالم الإسلامي والسيطرة عليه.
استمرت أسطورة الحرب “الخيِّرة” في أفغانستان، على الرغم من حقيقة أن الولايات المتحدة اختارت إظهار قوتها العسكرية بدلاً من السعي إلى متابعة البدائل الدبلوماسية التي اقترحتها حكومة طالبان في العام 2001.
وقد تم رفض فرص إنهاء الحرب في مناسبتين، حتى بعد أن دمرت الطائرات الحربية الأميركية جميع الأهداف الموضوعة. خلال الأسبوع الثاني من القصف الأميركي لأفغانستان في تشرين الأول (أكتوبر)، عرضت طالبان تسليم أسامة بن لادن إلى دولة محايدة بمجرد إعطائها أدلة على تورطه في أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وبعد أن تنهي أميركا حملة قصفها. وفي الخامس من كانون الأول (ديسمبر) 2001، عرضت طالبان تسليم قندهار، وحل نفسها ونزع سلاحها وعودة مقاتليها إلى قراهم. وقد رفض بوش كلتا المبادرتين واستمر العنف العسكري الأميركي في ذلك البلد لمدة 20 عامًا أخرى.
لم يكن هناك أي نقاش تأملي للحرب في أفغانستان في مناسبة إحياء الذكرى العشرين لأحداث 11 أيلول (سبتمبر)، أو فحص لحقيقة أن أقوى جيش في العالم قد هزم على يد رجال يرتدون الصنادل في بلد فقير للغاية بمساحة تكساس.
مثل أوقيانوسيا في رواية جورج أورويل النابضة بالحياة دائماً، “1984”، كانت الحرب خلفية الحياة اليومية في أميركا لسنوات. وقد حلت “الحرب العالمية على الإرهاب” محل الحرب الباردة لتكون رواية الأمن القومي لأميركا. وفي الوقت نفسه، تم إغفال الانتباه العام وإرساله إلى ثقب النسيان إلى حد كبير.
أدت حالة الحرب الدائمة إلى انحراف أولويات أميركا عن مسارها، وإلى خلق نوع من التفاني غير نقدي والإخلاص لكل ما هو عسكري. وأدت اللغة الشوفينية، إضافة إلى اللامبالاة العامة، إلى حالة أمنية عسكرية تتوسع باستمرار، حيث انتشرت عمليات مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم -كل ذلك مع القليل من النقاش العام والتدقيق من قبل الكونغرس.
برنامج الطائرات بلا طيار للقتل المستهدف ما يزال مستمراً
على الرغم من سحب القوات الأميركية، صرح الرئيس جو بايدن عن نيته مواصلة “الحرب على الإرهاب” في أفغانستان. وبعد حرمانها من قاعدتها الأفغانية في آسيا الوسطى، تحولت الإدارة الأميركية إلى ما تصفه بأنه إستراتيجيتها لمكافحة الإرهاب “من فوق الأفق”. وتتمثل هذه السياسة في تحديد الأهداف وضربها بالطائرات من دون طيار التي تُطلق صواريخها من خارج أفغانستان.
يبدو أن بايدن، مثل أسلافه، لا يعتقد أن ضربات الطائرات من دون طيار تمثل تحديًا كبيرًا لسيادة القانون الدولي أو للنظام الدولي القائم على القواعد الذي يروج له. ويبدو أنه غير مهتم بميثاق الأمم المتحدة، الذي يحظر استخدام القوة من قبل دولة داخل حدود دولة أخرى؛ ولا بالقانون الدولي، الذي يحظر استخدام القوة المميتة خارج مناطق النزاع المسلح ما لم يتم استخدامها كملاذ أخير لتلافي الضرر الجسيم.
في الآونة الأخيرة، اعترف الجيش الأميركي بأن هجومه بطائرة من دون طيار في كابول في 29 آب (أغسطس) 2021 والذي استهدف نشطاء إرهابيين كان خطأً مأساوياً. وعلى عكس أعمال العنف والوفيات التي لم يشهدها الأميركيون، فإن مقتل عشرة مدنيين أفغان أبرياء، من بينهم سبعة أطفال، لفت انتباه الرأي العام. ووفقًا لتقدير “مشروع تكاليف الحرب” بجامعة براون، فقد قُتل أكثر من 363 ألف مدني في الحرب على الإرهاب.
كانت هناك مراجعات قليلة وصغيرة للمعايير القانونية التي تحكم العمليات العسكرية الأميركية في الخارج. وقد خرقت الإدارات الأميركية والتفّت على قواعد النظام الدولي لعقود.
وحتى الآن، لم تتم إذاعة أي بث علني يشرح برنامج واشنطن لـ”القتل المستهدف بالطائرات من دون طيار”. وما تزال التفاصيل حول برنامج الفرع التنفيذي سرية. وبالنظر إلى أن إدارة هذا البرنامج تتم من دون إشراف أو رقابة يعتد بها، لا يُعرف سوى القليل عن مقدار الأدلة المطلوبة قبل أن يتم تحديد شخص ما على أنه إرهابي ووضعه على قائمة الجيش للقتل المستهدف.
كان الرئيس باراك أوباما هو الذي تبنى برنامج الطائرات من دون طيار وقام بتطبيع استخدام الطائرات المسلحة من دون طيار في أماكن ليست ساحات معارك، في اليمن وباكستان والصومال. وقام الرئيس دونالد ترامب بتوسيع برنامج القتل المستهدف بشكل كبير وتخلص من المساءلة. وقد قتلت الغارات بهذه الطائرات وجرحت آلاف المدنيين.
والآن، تؤكد استراتيجية بايدن لمكافحة الإرهاب استنتاجًا آخر ورد في تقرير مجلس علوم الدفاع المذكور أعلاه، وهو أن “مشكلة صورة أميركا… مرتبطة بالتصورات عن الولايات المتحدة باعتبار أنها متعجرفة، ومنافقة، ومنغمسة في ذاتها”.
وينعكس هذا التصور في أسلوب “اللانداي” الشعري (وهو شكل قديم من شعر البشتون المنطوق المشهور بين النساء) والذي يتحدث عن مشاعر العديد من الأفغان -“عسى الله أن يدمر البيت الأبيض ويقتل الرجل الذي أرسل صواريخ كروز الأميركية لتحرق وطني”.
الآن، انتهى وجود القوات الأميركية في أفغانستان، لكن البنية التحتية العسكرية والاستخبارية والمعلوماتية الهائلة المصممة لخوض الحرب على الإرهاب ما تزال راسخة كما هي. وبشكل ملحوظ، تستمر العقلية والدعاية التي خلقتها في الترسخ بقوة. ومن المشكوك فيه أن تفعل الولايات المتحدة الشيء الصحيح في أي وقت على الإطلاق ما لم تقم بتطوير ذاكرة تاريخية حول دورها في الشرق الأوسط وتبدأ في تغييره.
فهم أصول الإرهاب
لقد اضطرت أجيال من المسلمين إلى التعايش مع الإرهاب الأميركي. لم تبدأ الحرب التي لا تنتهي في الشرق الأوسط منذ عشرين أيلولاً فحسب. لقد بدأ الصراع الدائم في المنطقة مع الاستيراد القسري للأيديولوجية الصهيونية الأوروبية إلى الشرق الأوسط، مصحوبة بالسرقة الصهيونية للأراضي الفلسطينية ودعم واشنطن العسكري والمالي المستمر لدولة إسرائيل. وأدت هجمات الطائرات من دون طيار والقصف والتعذيب والإذلال اليومي التي يمارسها المحتلون الأميركيون والإسرائيليون إلى تغذية مشاهر الكراهية وأضافت إلى صفوف الإرهابيين فحسب.
كان تطوير الثقافة المدنية والنضج السياسي في معظم البلدان الإسلامية مستحيلًا تقريبًا بسبب الوجود الخبيث للقوى الأجنبية والانقسام الذي أذكته هذه القوى. وقامت الولايات المتحدة وإسرائيل بتنمية بيئة من التبعية وانعدام الثقة والصراع بين الجيران الإقليميين. وأنفقت دول المنطقة المليارات على الدفاع ضد بعضها بعضا بدلاً من معالجة مشاكل الفقر والجفاف وتغير المناخ والصحة الإقليمية التي ابتليت بها منطقة الشرق الأوسط.
الآن، بعد 20 عامًا من بدء حربها هناك، تركت الولايات المتحدة أفغانستان مع شبكة إرهابية نشطة واقتصاد منهار. ويواجه ذلك البلد أزمات إنسانية، بما في ذلك نقص الغذاء والجفاف و”كوفيد -19″ والتدهور الاقتصادي والبيئي. وهناك الآن 14 مليون أفغاني معرضون لخطر المجاعة، و3.1 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون سوء التغذية الحاد.
كما أضافت واشنطن إلى معاناة البلد بتجميد 9.5 مليار دولار مملوكة للبنك المركزي الأفغاني. وبعد قصف أفغانستان وإعادتها إلى العصر الحجري تقريباً، تعرب واشنطن الآن عن قلقها بشأن حقوق الإنسان واستحقاق المرأة الأفغانية.
لأكثر من عقدين، حاولت الولايات المتحدة حل مشكلة الإرهاب من خلال القوة العسكرية، لكنها بدلاً من ذلك ولدت المزيد من الإرهابيين. ولا تكمن الإجابة عن إنهاء الإرهاب في صواريخ هيلفاير، بل في فهم أصول هذا الإرهاب، ثم العمل على تغيير الأسباب التي منحته الحياة.
كشفت جلسات الاستماع التي عُقدت في أيلول (سبتمبر) في الكونغرس الأميركي، والمخصصة لتحليل خروج أميركا الفوضوي من أفغانستان، عن عدم استعداد أعضائه للنظر في تواطؤ أميركا في تحفيز الإرهاب. وكان واضحًا من شهادة أمراء الحرب الأميركيين -كبار مسؤولي الدفاع والجنرالات- أنهم غارقون في ثقافة لا يعرفون شيئًا عنها وفي حرب لا تفسير لها.
بعد رحيل الأميركيين، كُتبت هذه الكلمات على جدار السفارة الأميركية المهجورة في كابول، “أيها المواطنون، مبروك عليكم استقلالكم الجديد”. ويجب أن تكون جميع دول الشرق الأوسط مستقلة ومتحررة من النفوذ والهيمنة والإرهاب الأميركي الإسرائيلي. ولكي يحدث ذلك، يحتاج الشعب الأميركي إلى التحرر من القصص الخيالية -مظهر الصلابة للهواء الصرف- التي دعمت “الحرب العالمية على الإرهاب”.

الغد