لم تُدون موسوعات العلوم السياسية وأدبياتها حتى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين أية إشارات لمفهوم الشراكة وتجلياته في العلاقات الدولية، ومع ذلك أضحى مفهوم الشراكة في غضون العقود الثلاثة الأخيرة أحد أهم المفاهيم المسيطرة على حقل العلوم السياسية بصفة عامة، والعلاقات الدولية بصفة خاصة. وعليه، يستعرض الباحث نشأة المفهوم وتطوره وملامحه التي تراكمت في الفكر والممارسة، وأخيراً مستجداته الراهنة.
لغةً، يعود أصلها لمادة “شرك”، ومنها لفظة شركة، والتي تعني أنصبة مجمعة مشتركة، وأن لكل منهما نصيب فيها، وفاعله هو “شريك”، ومنها “أشركة” في أمره أي أدخله فيه. وعليه، فالشراكة لغةً تُشير إلى وجود فاعلين أو أكثر لهما أنصبة ليست عادلة بالضرورة وإن كانت لها دلالة لغوية تُوحي بالتكافؤ، وإنما المحدد الرئيسي لهذه الأنصبة أنها مُتفق عليها مسبقاً، ولعل معناها اللغوي المذكور أحد المحددات الرئيسية لمفهوم الشراكة في العلاقات الدولية.
اصطلاحاً لم يكن المفهوم محل نظر وممارسة في حقول العلوم الاجتماعية حتى النصف الثاني من عقد الثمانينيات، عندما ظهر في القواميس المعنية عام ١٩٨٧م تعريف إياه بأنه “نظام يجمع المتعاملين الاقتصاديين والاجتماعيين”، ليظهر بعدها في حقل العلاقات الدولية عندما تم رصده وتداوله في محاضر اجتماعات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” في نهاية الثمانينيات. وعليه، يمكن تسجيل بعض الملاحظات على مفهوم الشراكة، أولاها أن المفهوم حديث نسبياً في حقل العلوم السياسية. ثانيها أن المفهوم لديه دلاله اقتصادية واضحة، سواء لغةً أو اصطلاحاً، أي أن البُعد الاقتصادي يعد بُعداً محورياً في المفهوم. ثالثها أن المفهوم بزغ وتطور في الأساس في أروقة الترتيبات الأممية ذات البُعد الاقتصادي، خاصة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وذلك كغيره من المفاهيم التي لعبت تلك المنظمات وأقرانها دوراً معتبراً فيها كمفهوم الدولة الفاشلة والهشاشة. رابعها أن المفهوم يتصف بالسيولة النسبية لصعوبة الوقوف على محددات دقيقة له من ناحية، وصعوبة التمييز بينه وبين مفاهيم أخرى متداخله معه كمفاهيم التحالف والاندماج، وذلك كدأب المفاهيم التي تتبلور في إطار المنظمات الدولية خاصة الأممية من ناحية أما الملاحظة الخامسة والأخيرة فهي أن المفهوم بدأت تنمو فيه الأبعاد السياسية والأمنية في السنوات الأخيرة كما سيبدو لاحقاً.
ويمكن رصد عدة تعريفات لمفهوم الشراكة، منها أنها “ترتيب رسمي بين طرفين أو أكثر لإدارة وتشغيل مشروع ما، وتقاسم عوائده”، ويركز هذا التعريف الذي تطور في حقل إدارة الأعمال في الأساس على موضوع الشراكة، والذي عادة ما يكون تجارياً، وذات عوائد تقتصر على العوائد المادية ممثلة في الأرباح في الأساس دون غيرها من العوائد.
ومن تعريفاتها أيضاً أنها “كل أشكال التعاون ما بين مؤسسات أو منظمات لمدة معينة تهدف إلى تقوية فعالية المتعاملين من أجل تحقيق الأهداف التي تم تحديدها”. ولعل التعريف السابق يركز على المنظمة أو المؤسسة فقط دون غيرها من الهياكل والكيانات، ويركز على الأهداف المنظورة. وعليه، فإن التعريف السالف تطور في الأساس في حقل إدارة الأعمال. ومن تلك التعريفات أيضاً هو “عقد أو اتفاق بين طرفين أو أكثر قائم على التعاون فيما بينها في مجال بعينه على أساس ثابت ودائم وملكية مشتركة، ينتج عنه تقاسم الأطراف المنافع والعوائد المحققة منه طبقاً لمدى مساهمة كل منهما”.
وإن أشار التعريف السابق للأبعاد الاقتصادية والتجارية أيضاً إلا أنه يركز على محددات مغايرة عن التعريف الذي سبقه، حيث يركز على تعدد الأطراف، فقد يكون طرفين أو أكثر، كما أن الأطراف هنا تتسع لتشمل مختلف الكيانات والهياكل وعليه صلاحية قيام الشراكة بين هذه الأطراف. وثالث تلك المحددات هي الاستقرار النسبي في المدى المتوسط للشراكة كمتطلب إجرائي من ناحية، وضرورة استفادة جميع الأطراف من العوائد المادية وغير المادية على أسس مُتفق عليها من ناحية أخرى. ورابع تلك المحددات التي يمكن استخلاصها من هذا التعريف هو اتساع موضوع الشراكة متجاوزاً بُعده الاقتصادي ليشمل الأبعاد السياسية والأمنية والثقافية والاستراتيجية.
وعليه، يمكن للباحث تعريف الشراكة في حقل العلاقات الدولية باعتبارها ذلك المفهوم الذي يُشير إلى “ترتيبات ثنائية أو متعددة الأطراف في مجال أو أكثر على مدى زمني متوسط، يستند إلى التكافؤ في مساهمات أطرافه من ناحية، والفرص المتاحة من ناحية ثانية، والعوائد المتحققة من ناحية ثالثة”.
ومن التعريف السابق يمكن استخلاص مجموعة من السمات للشراكة في العلاقات الدولية، أولها أن الشراكة يجب أن تتم بين فواعل دولية متكافئة، بحيث لا تتضمن فجوة بيّنة بين أطرافها. ثاني تلك السمات أنها لا تهدف لتوحيد أهداف وأجندات أطرافها، فهي لا تغفل المصالح العليا المتمايزة لأطرافها، وإنما تهدف في الأساس إلى توسعة المساحات المشتركة بينهما فقط. وثالث تلك السمات أنها ترتيب في المدى الزمني المتوسط في الأساس. ورابع تلك السمات أنها لا تهدف للمناصفة في العوائد بقدر ما تهدف لكفاية تلك العوائد لأهداف ومتطلبات أطراف الشراكة منها. وخامس تلك السمات أنها لا تتطلب أساس جغرافي أو ثقافي أو تاريخي لها فحسب بقدر كونها تتطلب أهداف حيوية مشتركة ومستقرة نسبياً.
أنتجت المساهمات النظرية في الممارسة الدولية في عقد التسعينات تحولاً نوعياً جديداً في مفهوم الشراكة في العلاقات الدولية، إلا أنه يمكن القول باطمئنان أنه لا يوجد إجماع في أدبيات العلاقات الدولية حول المحددات المشكلة لفكرة “الشراكة الاستراتيجية”. ونتج عن ذلك بطبيعة الحال صعوبة الوقوف على أول شراكة استراتيجية في العلاقات الدولية، إلا أنه يمكن رصد أوائل تلك الشراكات وأهمها، وإن لم تُوصف حينها بهذا الاسم، وهي الاتفاقية الموقعة بين الرئيس الأمريكي حينها بيل كلينتون، والرئيس الروسي في ذلك الوقت بوريس يلتسين في عام ١٩٩٤م، والتي مهدت لـ”مرحلة جديدة من الشراكة الاستراتيجية الناضجة القائمة على المساواة والمنفعة المتبادلة، والاعتراف بالمصالح الوطنية لبعضهما بعضا” حسبما جاء في إعلان موسكو ١٩٩٤.
ويرى آخرون أن أول تلك الشراكات والتي استخدمت هذا المصطلح صراحةً هو ما يعود لما عُرف في مطلع الألفية وتحديداً عام ٢٠٠٣ باسم “الشراكة الاستراتيجية”، عندما أوصت”استراتيجية الأمن الأوروبية” المعروفة اختصاراً باسم “ESS” بضرورة “استكمال العلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا، من خلال تطوير “شراكات استراتيجية” مع اليابان والصين وكندا والهند، وكذلك مع أولئك الذين يشاركونهم أهدافهم وقيمهم ولديهم الاستعداد للعمل على دعمهم”. وكان يُقصد حينها الارتقاء في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والقوى الدولية الصاعدة لمجابهة التحديات الجيواستراتيجية الجديدة عالمياً من ناحية، واتجاه النظام العالمي نحو التعددية من ناحية أخرى.
مستقبل الشراكات الاستراتيجية في المستقبل المنظور:
بحلول عام ٢٠١٤ أقامت الصين ما يقرب من ٧٠ شراكة استراتيجية مع كل من القوى الكبرى والناشئة، وكذلك المنظمات الدولية في جميع أنحاء العالم، فمن بين الشركاء الاستراتيجيين للصين من المنظمات الدولية كلاً من “رابطة دول جنوب شرق آسيا- آسيان”، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والجامعة العربية، ومجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، كما أن الهند أقامت في ذات الفترة نحو ٢٠ شراكة استراتيجية مع شركاء أهمهم الاتحاد الأوروبي، كما أقامت اليابان نحو ١٠ شراكات استراتيجية في ذات الفترة، كما يمكن القول إن حلف شمال الأطلسي- الناتو، من أوائل المنظمات الدولية التي اتجهت نحو عقد شراكات استراتيجية – وإن لم تستخدم المفهوم صراحة- مع الدول غير الأعضاء منذ مطلع التسعينيات ولكن تحت اسم “الشراكة من أجل السلام الشامل”، ووصل عدد شركائه ٢١ شريكا حول العالم، أما الاتحاد الأوروبي فأقام نحو عشر شراكات استراتيجية مع دول هي الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، المكسيك، كوريا الجنوبية، جنوب إفريقيا، اليابان، البرازيل، الهند، الصين، وروسيا، كما له أربع شراكات مؤسسية مع منظمات إقليمية أخرى مع حلف شمال الأطلسي، ورابطة أمم جنوب شرق آسيا، والاتحاد الإفريقي، ومجموعة دول أمريكا اللاتينية، ومنطقة بحر الكاريبي.
بيد أنه في ضوء ما تلاحظ من كثافة الشراكات الاستراتيجية في العلاقات الدولية في العقدين السابقين وما توفره من مرونة معتبرة للأطراف الدولية تتجاوز الاعتبارات المؤسسية الجامدة أو الثقافية والتاريخية والجغرافية الميسرة، يبدو جلياً أن الشراكات الاستراتيجية أضحت البديل الأيسر من الناحية المؤسسية، والأسرع من ناحية الاستجابة العاجلة للمتغيرات الجيواستراتيجية على الساحة الدولية، لتمثل استجابة عملية لنشوء أهداف مشتركة متسارعة بين طرفين أو أكثر. إلا أنه في ظل تمدد الشراكات بين الدول وما تحمله في طياتها من مساحات معتبرة من تضارب مصالح محتملة بين الشركاء الاستراتيجيين وبعضهم بعضًا، يظل اختبار صحة هذه الشراكات من عدمها رهنًا بإختبارات الساحة الدولية لها في العقد الراهن.
مجلة السياسة الدولية