تمر منطقة الشرق الاوسط بتحولات هيكلية ومفصلية ستلقي بتأثيرها الحقيقية فى نمط وتوجهات علاقات دولها مع الخارج، خاصة في المنظومة الدولية بل في نمط ارتباطاتها الحالية والمستقبلية، حيث يشير الواقع الراهن إلي جملة من التطورات.
تحولات فاصلة:
التحول الأول : أن هذه التحولات الجيوسياسية ليست تحولات شكلية أو هامشية، بل هي جوهرية ، وستشمل أغلب دول الإقليم، ولن تتوقف عند دولة أو منطقة واحدة، مثلما جري في مراحل تطور النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وأدت الي وجود مناطق نفوذ وتأثير ممتد، وتحالفات واستقطابات ثنائية ومتعددة الأطراف، إضافة لنشأة التحالفات عبر منظمات عسكرية وسياسية واقتصادية. أما في الوقت الراهن، فإن هذه التحولات السياسية قد تؤدي لفك وتركيب التحالفات علي مستويات متعددة ومغايرة لما كان، ووفقا لحسابات سياسية واستراتيجية واقتصادية مستجدة.
ولعل هذا يفسر المطالبات الأكاديمية بضرورة إعادة النظر في أنماط التحالفات الراهنة، وبناء تحالفات أكثر جدية، وحسب ما يمكن تسميته الواقعية السياسية، والتي ستعلن عن نفسها في اطار النظم الاقليمية الرئيسية، والنظم الفرعية داخل الأقاليم المختلفة. ولعل هذا الامر سيبرز خلال الفترة المقبلة، خاصة أن العلاقات الدولية في عالم ما بعد أزمة كورونا ستختلف تماما عما كان قبلها برغم التاكيد بأنه لن تجري تغييرات هيكلية في الوقت الراهن، وسيتم الاكتفاء بما هو قائم من تحالفات، وارتباطات، حيث لا توجد أولويات ملحة في هذا الاطار ما دامت الأزمات الحالية لا تزال قائمة وتمر بحالة من السيولة، وهذا غير صحيح، خاصة أن العلاقات الراهنة اقتصاديا وسياسيا داخل التجمعات الاقتصادية، علي سبيل المثال، بدأت في التأثر بالنسبة لسياسات المنح والمساعدات المقدمة لبعض الدول المستحقة من الدول الكبري، ومنها اليابان والصين والولايات المتحدة .
التحول الثاني: ترتبط التحولات الراهنة في الشرق الاوسط بتقسيم الاقليم الي دول مستقرة بين جمهوريات، مثل مصر والجزائر، وملكيات، مثل المغرب والإمارات ودول غير مستقرة ودول انهارت ودخلت في اطار الدول الفاشلة التي لا يمكن التوقع فعليا بما ستؤدي إليه الأوضاع في المديين المتوسط والطويل.
وبالتالي، فإن أخطر ما يمكن الاشارة إليه في هذه التحولات الجارية عدم استقرارها علي نمط محدد، حيث لا تزال المنطقة في حالة من السيولة السياسية والاستراتيجية ولن تستقر، خاصة أن كل التسويات المطروحة في أغلب دول الإقليم في الحالات الليبية، والسورية، واليمنية تسويات منقوصة ومرحلية، وغير حاسمة، وبالتالي فإن التحولات الجيوسياسية ستستمر فى التعبير عن وجودها في ظل ما يجري في الإقليم.
كما يطرح تحولات جديدة في اطارها، مثل مرحلة ما بعد التنظيمات الإرهابية خاصة تنظيمي القاعدة و”داعش” واحتمالات أن تشهد المنطقة العربية، وإقليم الشرق الأوسط موجة جديدة من الصراعات، وعمليات إرهابية من نوع جديد، وهو ما قد يؤدي لمزيد من حالة عدم الاستقرار، بل وسيؤدي لمزيد من العنف المقابل، وتنامي ظواهر سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة لم يشهدها الإقليم من قبل.
التحول الثالث: سيكون إقليم الشرق الأوسط طرفا فاعلا في توجيه أنماط العلاقات وتفاعلاتها الاقليمية والدولية بصورة وأضحة وليس فقط متلق أو مراكز للتأثير التابعة، خاصة وأن حسابات القوة الشاملة وإمكانيات الإقليم بدوله – بصرف النظر عن تباينها من دولة لأخري – مهم في التوجه والتحرك، خاصة وأن العلاقات العربية والاقليمية، والشرق أوسطية مع المنظومة الدولية معقد وليس سهلا في ظل ارتباطات هيكلية ليس من السهولة كما متوقع أن يتغير أو سيعاد النظر فيه لمجرد تغيير إدارة أمريكية أو حدوث تحولات في الاتحادات الدولية المعنية، والتي لها التأثير الاكبر في رسم وتحديد سياستها المباشرة، وهو الأمر الذي سيؤدي لارتدادات حقيقية في أنماط التفاعلات الراهنة، وعلي مستويات مختلفة.
انعكاسات حقيقية:
إن التحولات الجيوسياسية الجارية والمتوقع حدوثها في المديين القصير والمتوسط الاجل سيكون لها تأثيرات حقيقية علي بنية التفاعلات الإقليمية والدولية، ومنظومة العلاقات الدولية ككل بدليل أن إعادة تدوير حسابات بعض الدول في الإقليم سيكون لها تأثيرها الحقيقي بدليل أن الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الاوروبي لا تزال تتبني رؤية أكثر ارتباطا بدول الإقليم الرئيسية برغم ما جري قبل وبعد أزمة كورونا، واستمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وهو ما يؤكده جملة الاضطرابات والفوضى المتزايدة كل يوم وأشكال وأنماط الصراعات ومسارات السلطة، وطموحات النفوذ والهيمنة بين الدول الكبري المتحكمة في مسارات العلاقات الدولية.
هذا الأمر سيرتب خيارات وسيناريوهات متعددة، منها علي سبيل المثال ارتباط فكرة الأمن القومي العربي والحرص علي مؤسسات العمل العربي المشترك بما يطرح بنظام الشرق الأوسط الذي بدأ يعلن عن نفسه بعد إبرام سلسلة الاتفاقيات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، كما أن الولايات المتحدة ستتحرك في اتجاهات ومسارات متعلقة بترتيب حساباتها في العالم وإعادة الانخراط في قضايا العالم، ووفق استراتيجية حركة محددة تتجاوز النمط التقليدي الذي اتبعه الرئيس الأسبق باراك أوباما، كما تتحرك روسيا علي سبيل المثال وفقا لاستراتيجية تدريجية ومنهج عمل واقعي في ملفات محددة في سوريا وليبيا، كما ستوجد الصين في مراكز تأثير ونفوذ عربية وإقليمية انطلاقا من حسابات محددة، وليس مجرد مبادرات اقتصادية أو استراتيجية فقط.
بالتالي فإن التحولات الجيوسياسية التي عبرت عن نفسها في الإقليم ستغير من نمط العلاقات الدولية في عدة أسس، منها علي سبيل المثال بناء تحالفات أكثر واقعية مع التأكيد علي أن ضوابط التحرك ستختلف في مرحلة ما بعد أزمة كورونا، وقدوم إدارة أمريكية جديدة، واحتمالات ظهور تنظيمات إرهابية جديدة تعبر عن حضورها في الإقليم، أو اندلاع موجات أكثر خطورة من قبل تنظيم “داعش” علي سبيل المثال خاصة وأن الفواعل من غير الدول ترتب لمرحلة أكثر مواجهة، وخيارات أكثر تصادمية، وهو الأمر الذي يحتل مساحة كبيرة في تقديرات وتقييمات أجهزة المخابرات في العالم خاصة أن العلاقات الدولية ستستمر تحكمها معايير وضوابط محددة ( لن تخرج كثيرا عما كان وسيظل مطروحا).
ولكن الإشكالية الحقيقية في أن التحولات السياسية والاستراتيجية ستؤدي لأنماط جديدة في التعاملات، خاصة علي مستوي العلاقات / المنظمات الاقليمية / المنظمات المتخصصة، وستكون هناك مراجعات لما هو قائم. فعلي سبيل المثال سيظل النظر إلي بعض المنظمات، خاصة العسكرية علي أنها يؤدي دورها في إطار من المعطيات الراهنة مع عدم الممانعة في طرح صيغ جديدة لتحالفات مختلفة، ومنها ايجاد مشتركات في التعامل. فالعلاقات الدولية، سواء علي مستوي الدول الكبري أو الصغرى تدار عبر شبكات من المصالح المتعارف عليها، والتي لن تتغير، لكن الشرق الاوسط بكل تحولاته الجذرية الراهنة سيتجه إلي مرحلة جديدة في تفاعلات علاقاته المستقبلية .
إن منطقة الشرق الأوسط تشكل المنطقة المحورية الدولية الأكثر تأثيرا واضطرابا في السياسة الدولية المعاصرة والنظام الدولي القائم. ومن جملة ما أشارت اليه تلك التوجهات السياسية الكبرى في الشرق الأوسط ظهور ما يمكن أن يطلق عليه صراع المحاور الجيوبوليتيكية في مواجهة القوى الاقليمية التي يطلق عليها اللاعبين والفواعل الجيواستراتيجيين في المنظومة الدولية المتحكمة في توجيه العلاقات الدولية الراهنة.
إن اعادة ترتيب أولويات النظام الدولي وجدول أعماله سيكون مطروحا بقوة في الفترة المقبلة، وخلال خمس سنوات في أكثر التقديرات تفاؤلا، ويمكن التأكيد علي أن أسس ومنطلقات العلاقات الدولية ستدخل مرحلة جديدة من المقاربات المختلفة، والتي بدت بوضوح بعد أزمة كورونا والمتوقع أن تستمر ولن تقتصر علي دول الشرق الاوسط فقط ومنطقته، بل ستمتد إلي أقاليم أخري. فحجم التحولات السياسية الجارية في الشرق الأوسط والمحتمل أن تتطور سيكون لها تأثيراتها الحقيقية في أنماط التعامل في العلاقات الدولية، وبين مختلف القوي الكبري والصغري كما سيمتد إلي التنظيم الدولي بأكمله، ولن يقتصر علي منطقة إقليمية واحدة أو محددة.
أخيراً، يمكن القول إن منطقة الشرق الاوسط تحتل مكانة استراتيجية مهمة في منظومة العلاقات الدولية، ومن هنا سيبرز البعد الجيوسياسي للمنطقة، والتي ستشهد تحولات عميقة في بنية النظام الإقليمي، وانتقال موقع الثقل في العالم العربي من دول مركزية ورئيسية إلي فواعل أخري، خاصة مع استمرار حالة عدم الاستقرار في الإقليم بأكمله، وسيظل الصراع ممتدا والتنافس بين القطبين الامريكي والصيني، اضافة للطرف الروسي، كما تبرز في الخريطة الجيو سياسية أهمية الدور التدخلي الإيراني والتركي والإسرائيلي.
كما سيحاول اللاعبون الدوليون عدم التدخُّل فالولايات المتحدة، الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، وكذلك روسيا والصين والدول الأخرى ستستمر في سعيها إلى الحفاظ على مصالحها الرئيسية في المنطقة، وستدعم شركاءها أو ستعمل على تقويتهم، وستحاول – حيثما كان ذلك ممكنًا – حلّ النزاعات بين ومع الشركاء الإقليميين، كما ستعد التحالفات والصراعات، سمة ممیزة للمشھد الجیوسیاسي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى بعض الخصائص الأساسیة التي تشكل واقع الشرق الأوسط في الوقت الحاضر سيكون لها دور مركزي، بل ورئيسي في التفاعلات الراهنة والمستقبلية في منظومة العلاقات الدولية بأكملها.
السياسة الدولية