نفوذ الولايات المتحدة يتراجع في أزمات أوروبا

نفوذ الولايات المتحدة يتراجع في أزمات أوروبا

بينما ينظر البعض إلى أزمة المهاجرين العالقين على الحدود بين بلاروسيا وبولندا وينتظرون مآلات هذه الأزمة الإنسانية، يرى خبراء وباحثون أنها تكشف مدى تراجع نفوذ الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يبدو عاجزا عن المساعدة وتقديم حلول للأزمة المتفاقمة شرق أوروبا، عدا عن تأخره في تعيين سفراء لبلاده في دول أوروبية رئيسية، مما يقلص قدرة واشنطن على الحفاظ على اتصالات رفيعة المستوى مع حلفائها في المنطقة، في مقابل تزايد نفوذ الصين وروسيا، منافستي الولايات المتحدة الشرستين.

واشنطن – تزداد حدة أزمة المهاجرين التي عجزت بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي عن التوافق بشأنها، حيث يواجه المئات من الأشخاص، بمن فيهم عائلات لديها أطفال، مصيرا مجهولا في مركز النقل والخدمات اللوجستية على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، وسط غياب الحلول ورفض البلدين التنازل واستقبالهم على أراضيهما.

ويتهم الاتحاد الأوروبي بيلاروسيا بتأجيج الأزمة عبر إعطاء تأشيرات لمهاجرين عالقين عند حدود ليتوانيا ولاتفيا وبولندا، ودفعهم إلى محاولة دخول الاتحاد الأوروبي، ردّا على العقوبات التي فرضها الاتحاد على مينسك بعد حملة قمع استهدفت المعارضة العام الماضي.

ويرى محللون أن هذه الأزمة جاءت لتؤكد مجددا تراجع دور واشنطن وضعف إدارة الرئيس جو بايدن في اتخاذ موقف حاسم لدعم أوروبا، أهم حلفائه، بالتزامن مع تراجع الدور الأميركي على الصعيد العالمي في أكثر من قضية من بينها أزمات الشرق الأوسط وأزمة أفغانستان.

وقال كون كوفلين أحد كبار الزملاء بمعهد جيتستون الأميركي ومحرر الشؤون العسكرية والخارجية بصحيفة “ديلي تليغراف” في تقرير نشره المعهد، إنه لا شيء يوضح قدرة الدول المارقة على الاستفادة من قيادة جو بايدن الضعيفة بشكل مثير للشفقة أكثر من الدور الذي قام به الرئيس البيلاروسي المستبد ألكسندر لوكاشينكو في خلق أزمة مهاجرين في قلب أوروبا.

كما أظهر أداء بايدن المتواضع خلال قمة عبر الفيديو عقدها مؤخرا مع الرئيس الصيني شي جين بينج، أن الرئيس الأميركي يبدو بشكل متزايد بعيدا عن عمقه على المسرح العالمي، إلى درجة أن خصوم واشنطن يرون أن ضعف بايدن يصب في مصلحتهم.

ويرى كوفلين أن ثقة الرئيس شي في أنه ليس لديه ما يخشاه من بايدن انعكست بوضوح في اللهجة المتعالية التي تعامل بها مع الرئيس الأميركي منذ بداية قمتهما التي استمرت ثلاث ساعات ونصف الساعة، حيث أشار إلى الرئيس بايدن على أنه “صديقه القديم”، على الرغم من أنه من الواضح ليس كذلك.

وبالإضافة إلى ذلك، أظهر الرئيس الصيني شعوره الواضح بالتفوق على منافسه الأميركي من خلال تحذيره من أنه “يلعب بالنار” بشأن قضية تايوان.

ووفقا لبيان بكين، قال شي “يعتزم بعض الأشخاص في الولايات المتحدة استخدام تايوان للسيطرة على الصين. هذا الاتجاه خطير ويشبه اللعب بالنار، ومن يلعبون بالنار سيحترقون”.

وعلى العكس، أثبت بايدن عدم استعداده لإثارة أي قضايا قد تكون غير مريحة للزعيم الصيني، مثل دور بكين في التسبب في جائحة كوفيد – 19 التي نشرت الخراب والدمار في جميع أنحاء العالم.

وليست الصين الدولة المارقة الوحيدة التي تعتقد أن ضعف إدارة بايدن يمنحها تفويضا مطلقا بأن تلحق الأضرار في أنحاء أخرى من العالم.

وهناك مثال آخر على استغلال القادة المارقين بشكل كامل القيادة العاجزة لبايدن، وهو أزمة المهاجرين المتفاقمة في شرق أوروبا، حيث تم توجيه اتهامات للرئيس لوكاشينكو بإثارة القلاقل عمدا على الحدود البولندية والليتوانية من خلال تشجيع الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين على محاولة طلب اللجوء في الاتحاد الأوروبي.

ويعتقد مسؤولو الاتحاد الأوروبي أن لوكاشينكو، وهو حليف مقرب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مسؤول شخصيا عن إثارة الأزمة، واتهموا الزعيم البيلاروسي بتبني “نهج غير إنساني يشبه نهج العصابات”.

وأشار كوفلين إلى أن لوكاشينكو يسعى إلى إثارة الأزمة بهدف ابتزاز الاتحاد الأوروبي لرفع العقوبات التي فرضها عليه، بعد أن شن نظامه حملة قمع وحشية ضد نشطاء المعارضة في أعقاب الانتخابات الرئاسية في البلاد التي جرت العام 2020، والتي قوبلت بإدانة واسعة النطاق باعتبارها انتخابات صورية.

كما تم فرض عقوبات إضافية بعدما أمر لوكاشينكو الجيش البيلاروسي باعتراض طائرة تابعة لشركة “رايان أير” في مايو، وتحويل مسارها إلى مينسك لكي تتمكن السلطات من اعتقال ناشطين اثنين كانا يسافران على متن الطائرة.

وبينما يتركز دافع لوكاشينكو الرئيسي في إثارة الأزمة على رفع العقوبات، من الواضح للغاية أيضا أن بوتين حريص على استغلال الأزمة كفرصة لبث الانقسام والخلاف داخل التحالف الغربي.

واعتبر كوفلين أن الرئيس الروسي يدرك جيدا وضع بايدن الضعيف نتيجة القمة التي استمرت ثلاث ساعات وحضرها الرئيسان في جنيف في يونيو الماضي، وكانت النتيجة الأبرز هي استسلام الرئيس الأميركي التام لموسكو بشأن مطالب الحدّ من التسلح المستمرة منذ مدة طويلة.

ومنذ ذلك الحين، أوضح بوتين عدم رغبته في تناول أي قضايا ترتبط بنزع السلاح بشكل جدي من خلال القيام بعدد من الأفعال الاستفزازية، مثل إظهار قدرة روسيا مؤخرا على تدمير قمر اصطناعي بصاروخ تم تطويره حديثا.

ويبحث بوتين دائما عن عذر لإضعاف التحالف الغربي، ولذلك فقد قدمت له أزمة المهاجرين الأخيرة في أوروبا فرصة مثالية للتسبب في الأزمة.

وأصدر الكرملين نفيه المعتاد بأن يكون مسؤولا بأي شكل من الأشكال عن هذه الأزمة، إلا أن هذا النفي رفضته دول مثل بولندا، التي اتهمت روسيا باستخدام المهاجرين كأدوات في محاولة لزيادة زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي.

وقال كوفلين إنه إذا ما تم الحكم على أساس الانتقادات التي تزداد حدة بين القادة الأوروبيين، سنجد أن أزمة المهاجرين تحقق التأثير المستهدف وهو إحداث الانقسام بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وقد أثار قرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، على سبيل المثال، تحديد موعد لاتصال هاتفي مع لوكاشينكو، وهو أول اتصال له مع أحد القادة الغربيين منذ انتخابات العام الماضي، انتقادات لاذعة من عدد من دول شرق أوروبا.

على الرغم من أن أوروبا واحدة من أقرب حلفاء واشنطن، لم يتمكن البيت الأبيض حتى الآن من تعيين سفراء جدد إلى دول أوروبية رئيسية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبولندا

واشتكت بولندا، التي تقع على خط المواجهة في الأزمة، بأنه تم استبعادها من المناقشات المتعلقة بحدودها، بينما اتهمت ليتوانيا، التي أعلنت حالة الطوارئ، ميركل بتحقيق رغبات لوكاشينكو من خلال منحه الاعتراف الذي يتوق إليه.

وعلى الرغم من التوترات بين الدول الأعضاء، يحاول الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف صارم من خلال مقاومة الضغوط لتخفيف العقوبات المفروضة على مينسك.

وبالإضافة إلى ذلك، فإنه في الظروف العادية، يتوقع الاتحاد الأوروبي الحصول على دعم من الولايات المتحدة في أزمته مع روسيا.

ورأى كوفلين أنه في هذه المناسبة، كان عجز بايدن عن تقديم أي شيء يقترب من القيادة الواضحة والفعالة يعني أن الولايات المتحدة أصبحت مطالبة بالجلوس في المقعد الخلفي، وهي حالة مؤسفة لن يضيعها بوتين، فضلا عن الخصوم الآخرين، مثل الرئيس الصيني شي.

ويعد هذا الوضع مقياسا لعجز إدارة بايدن وهو أنه على الرغم من أن أوروبا واحدة من أقرب حلفاء واشنطن، لم يتمكن البيت الأبيض حتى الآن من تعيين سفراء جدد إلى دول أوروبية رئيسية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبولندا، الأمر الذي يقلص بشدة قدرة واشنطن على الحفاظ على اتصالات رفيعة المستوى مع حلفائها.

ويرجح كوفلين أن يكون الفائزان الوحيدان من أزمة المهاجرين الأخيرة في أوروبا هما بوتين وحليفه البيلاروسي لوكاشينكو، بينما بالنسبة إلى بايدن، فإنها ليست سوى دليل إضافي على أنه، مع احتمال بقائه في منصبه، فإنه لا يملك أي سلطة على الإطلاق في ما يتعلق بممارسة التأثير في الشؤون العالمية.

العرب