المتغير “أوميكرون”.. لأن معركتنا مع “كوفيد-19” قد لا تنتهي أبدا!

المتغير “أوميكرون”.. لأن معركتنا مع “كوفيد-19” قد لا تنتهي أبدا!

خلال عام مضى، عانت دولة جنوب أفريقيا من ثلاث قفزات شاهقة غير مفهومة في أعداد الحالات المصابة بـ “كوفيد-19″، آخرها في الصيف الماضي حين وصلت الإصابات إلى حدود 30 ألفا يوميا، وكانت هذه الموجة مُتعلِّقة بالسلالة “دلتا” من كورونا المستجد التي تُعَدُّ الآن السلالة الرئيسية في العالم كله. لكن مؤخرا، وبداية من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عادت موجة أخرى للارتفاع تزامنت مع الإعلان عن متغير جديد أطلقت منظمة الصحة العالمية(1) عليه اسم “أوميكرون”، ويُعتقد أن هذه الموجة الجديدة ليست إلا تمظهرا للمتغير الجديد وهو يُعلن عن وجوده!

الطفرات.. لماذا يتحور كورونا؟
يشبه الأمر أن يُطلب إليك أن تنقل رسالة مكوَّنة من عدة آلاف من الحروف الإنجليزية من إحدى الكرّاسات إلى حاسوبك، عادة ما يحدث أن تنقل حرفا أو أكثر خطأ، هذا هو ما يحدث في حالة كورونا المستجد، فهو يتركَّب من غلاف بروتيني يُحيط جزءا من الحمض النووي الذي يمتلك صفة أساسية، وهي قدرته على نسخ نفسه بشكل متكرر، لكنه لا يستطيع فعل ذلك بمفرده، يجب أولا أن يدخل إلى خلية حية، ثم يُجبرها على تصنيع حمضه النووي وكأنه حمضها النووي الخاص.

لكن في أثناء عملية النسخ لنحو 30 ألف حرف، هذه المرة ليست حروفا بالمعنى المفهوم، لكنها وحدات كيميائية تتتابع على شريط الحمض النووي تتابُع المَشاهد على شريط فيلم سينمائي، يحدث بشكل طبيعي(2) أن يُحذف أحد تلك الحروف، أو يتغير إلى حرف آخر، أو يُضاف حرف جديد إلى التتابع، تلك هي الطفرة، وعادة ما تكون حميدة، لا تؤثر في شيء، بل إنها ربما تتسبَّب في إتلاف الفيروس وإضعاف أثره تماما.

لكن في بعض الحالات النادرة قد تكون تلك الطفرة مفيدة للفيروس، فتُحسِّن فرصه في البقاء مقارنة بحالته قبل الطفرة، فينتشر بشكل أكبر، أو يصبح أكثر فتكا. في الواقع فإن الطفرات هي سبب انتقال الفيروسات مثل كورونا المستجد من عالم الحيوان إلى عالم البشر، حيث تدخل آلاف الفيروسات أجسامنا طوال الوقت، لكنها تمر بسلام لأن خلايا أجسامنا لا تتمكَّن من التعرف عليها، لكن إحدى الطفرات يمكن أن تُمكِّن الفيروس من التعرُّف على الخلايا البشرية ونسخ نفسها داخلها، وهنا تبدأ الأوبئة والجوائح. الشيء نفسه يحدث في أثناء انتشار الفيروس بين البشر، حيث يتغير عبر الطفرات ليتحسَّن انتشاره (أو العكس).

ما الذي تسبَّب في ظهور هذه السلالة؟

حسنا، السلالة الجديدة من فيروس كورونا سُميت “B.1.1.529″، وفي الحقيقة لا نعرف كيف حدثت، لكن هناك ملاحظة أساسية حولها وهي أن عدد طفراتها أكبر من المتوقَّع بفارق جوهري، حيث عادة ما تتراكم الطفرات في الفيروس بمعدلات أقل من ذلك مع الزمن. وهذا بالأساس هو ما أقلق العلماء، لأن عدد طفرات كبيرا يعني أن خصائص الفيروس الأساسية يمكن أن تتغير بشكل كبير أيضا.

لأغراض المقارنة، دعونا نذكر أن السلالة البريطانية التي نعرفها الآن باسم “دلتا”، وهي المسيطرة على العالم الآن بالفعل، حصلت على 17 طفرة إضافية، ما لفت انتباه العلماء، وتحقَّقت مخاوفهم بالفعل حين ساعدت تلك الطفرات الفيروس ليصبح أسرع انتشارا، أما المتغير الجديد “أوميكرون” (3) فقد شهد حدوث أكثر من 50 طفرة في آنٍ واحد، منها نحو 30 طفرة في بروتين الحسكة (Spike Protein)، الموجود في البروزات الموجودة على سطح فيروس كورونا.

وظيفة هذا البروتين أن يرتبط مع أنواع محددة من المستقبلات على الخلايا البشرية بطريقة تشبه القفل والمفتاح، ثم تَسحبُه تلك المستقبلات إلى داخل الخلية حيث يبدأ التكاثر. بالتالي، فإن أي تغيرات بتلك البروزات قد تُحسِّن من قدرتها على التوافق مع المُستقبلات في الخلايا البشرية، على جانب آخر فإن هذه الطفرات قد تساعد الفيروس على أن يتخفَّى بشكل أفضل من جهاز المناعة البشري، أضف إلى ذلك أن هناك فرصة أن يتهرَّب الفيروس صاحب الطفرة من اللقاحات التي تعتمد على استهداف بروتين الحسكة.

عادة ما يكون السبب في حدوث هذا النوع من القفزات الجينية هو حالة إصابة بقيت لفترة طويلة مع مريض واحد ذي قدرات مناعية أضعف من المتوسط (مصاب بالإيدز مثلا)، ما منح الفيروس الفرصة للتحوُّر مرات عدة، أو ربما انتقل الفيروس من أحد الحيوانات إلى البشر بعد أن أصابه لفترة من إنسان آخر، فتحوَّر الفيروس داخله، وعادة ما تحمل تلك التحوُّرات التي تتنقل بين كائنين حيين من نوعين مختلفين عددا أكبر من الطفرات، كما يمكن أن تُكشف الطفرات المفاجئة أيضا بسبب غياب الرصد من قِبَل العلماء لتحوُّرات فيروس ما لزمن طويل.

في كل الأحوال، نحن نعرف أن جنوب أفريقيا طعَّمت 24% من سكانها فقط، ما يعني أن المرض لا يزال ينتشر فيها، وما دام المرض ينتشر في أية بقعة على سطح الأرض، فإن هناك فرصة للتحوُّر (يُشير ذلك إلى نقطة مهمة تتعلَّق بأن المشكلة ليست أن تُنقذ دولة ما سكانها عبر تطعيمهم، بل أن ينجح التحكُّم في المرض بكل العالم، وهو أمر يتطلَّب نوعا من التكاتف لم نرَه يحدث منذ لحظة ظهور الجائحة).

هل هي أول طفرة نشهدها؟

في الواقع لا يعرف الكثيرون أن هناك(4) أكثر من 12 ألف تنوع (Variant) من كورونا المستجد، ظهرت بسبب عشرات الآلاف من الطفرات التي حدثت للفيروس منذ تسجيل أول حالة إصابة معلنة في الصين في ديسمبر/كانون الأول 2019، التي سنفترض أنها أول انتقال للفيروس من الحيوان إلى الإنسان.

من بين كل تلك التنوعات، كان هناك عدد محدود فقط منها هو الذي أثار انتباه الباحثين والعامة حول العالم، على رأسها بالطبع السلالة دلتا التي تحدَّثنا عنها قبل قليل، منها كذلك ما حدث حينما أقدمت الحكومة في دولة الدانمارك على قتل(5) نحو 15 مليون من حيوانات المنك في البلاد لأن فيروس كورونا المستجد انتقل إليه من البشر، ثم تحوَّر داخله إلى خمسة أنواع جديدة، أحدها كان من المحتمل أن يكون مقاوما للقاحات كليا أو جزئيا، وكان بالفعل قد انتقل إلى نحو 400 مواطن دانماركي. وهناك طفرة شهيرة(6) سُميت “D614G”، ومع انتشارها في أوروبا اعتقد فريق العلماء وقتها أنها أكثر قدرة على الانتشار بفارق عشرة أضعاف من الطبيعي، قبل أن تُحتوى في الوقت المناسب على ما يبدو.

حسنا، لنكن واضحين، نحن لا نعرف الكثير عن “أوميكرون” إلى الآن، ولكن في العادة، حينما تظهر سلالة جديدة من الفيروس فإن ما يُقلق العلماء هو الإجابة عن ثلاثة أسئلة رئيسية، ستؤثِّر جوهريا في خط تعاملنا الطبي وغير الطبي معه: هل السلالة الجديدة أسرع انتشارا؟ هل هي أكثر خطورة؟ هل ستؤثر على فاعلية اللقاحات؟ والإجابة الرئيسية عن هذه الأسئلة الثلاثة هي: “لا نعرف بعد”، لكن هناك نذير خطر. كما قلنا، فعدد الطفرات الكبير يجعل هذه السلالة هي الأكثر لفتا للانتباه واحتمالا للخطورة، كما أن الأسابيع الأخيرة شهدت بالفعل ارتفاعا حادا في الإصابات بجنوب أفريقيا تزامنا مع اكتشاف أوميكرون، وخاصة كانت الإصابات متركزة في صفوف طلاب المدارس والجامعات وبين الشباب عموما.

بسبب ذلك، حدَّدت منظمة الصحة العالمية المتغير الجديد على أنه مثير للقلق (Variant of concern)، ويعني ذلك(7) أنه يمتلك قابلية لأن يصبح أسرع في الانتقال أو أشد في الضراوة، أو قد يؤثر على فعالية تدابير الصحة العامة أو التشخيصات واللقاحات والعلاجات المتاحة.

لكن تظل الإجابة أننا لا نمتلك إلى الآن إلا احتمالات، ولا يزال البحث العلمي يسابق الزمن للإجابة عن الأسئلة الثلاثة السابقة. الأمر الوحيد المُطمئِن هنا أنّنا شهدنا العديد من الأمثلة على المتغيرات التي بدت مُخيفة للوهلة الأولى لكن مرَّ الأمر بسلام، منها مثلا المتغير “بيتا” الذي كان الأفضل في الهروب من جهاز المناعة البشري، لكن في النهاية كانت السلالة دلتا الأسرع انتشارا هي التي سيطرت على العالم.

هل يمكن منعه من الانتشار؟

مع قيام بعض الدول(8) مثل الولايات المتحدة واليابان وكندا وبعض دول الاتحاد الأوروبي وحتى الدول العربية بمنع الرحلات من وإلى الدول المُصابة بالمتغير الجديد، من المرجَّح أن إجراءات الإغلاق المبكرة نسبيا ستُبطِّئ من انتشار تلك السلالة بين دول العالم، لكنها لن تمنع انتشارها كليا، ببساطة لأن أول حالة تُكتشف بالطبع ليست أول حالة تُصاب، ولأن السلالة يبدو -مبدئيا- أنها تتمتع بقدرة كبيرة على الانتشار. بينما نتحدَّث، وصلت السلالة الجديدة بالفعل إلى جنوب أفريقيا، وهونغ كونغ، وبوتسوانا، ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وبلجيكا، وبريطانيا، وإيطاليا، وألمانيا، والتشيك.(9)

في كل الأحوال، نحن نعرف أن كورونا المستجد سيستمر في التحوُّر، وستظهر منه -يوما ما- سلالات جديدة تتطلَّب تغيير اللقاحات، وهذا أمر طبيعي ومن المؤكَّد أن الشركات الكبرى تتوقَّعه وتستعد له، لكن من حُسن حظنا أن هذا الفيروس يمتلك آليات تصحيح جزيئية تمنعه من التحور بمعدلات كبيرة، بل إن معدلات تحوره تساوي تقريبا نصف معدلات الإنفلونزا الموسمية، الأمر الذي يعطي بعض الاطمئنان بالنسبة لعمليات التلقيح والعلاج، لكنه اطمئنان لن يستمر إلى الأبد!

الجزيرة