عكست قرارات الولايات المتحدة حيال المستجدات في أفغانستان عدم تعلمها الدروس الصحيحة من إخفاقاتها، وإغفال التزاماتها التي توجب عليها مسؤولية كبيرة تتحملها بجانب الأطراف الداخلية في البلاد عما وصل إليه الحال من تدهور ينذر بما هو أشد وعورة.
وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز” أخيرا اختفاء الملايين من الدولارات من المساعدات التي كانت تدعم الحكومة الأفغانية السابقة وتجميد مليارات من الدولارات من أصول البنك المركزي الأفغاني، ووقف البنك وصندوق النقد الدوليين تمويلهما لأفغانستان ما أدى إلى عزل حكومة طالبان عن النظام المصرفي العالمي.
وتسهم تلك العقوبات في مفاقمة تداعيات واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم نتيجة نقص السيولة وشل البنوك والشركات وارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، ما يتسبب في أزمة جوع قاسية، حيث بات أكثر من نصف سكان أفغانستان البالغ عددهم 39 مليون شخص لا يملكون ما يكفي من الطعام، وتوقف دفع رواتب الموظفين، وحذرت الأمم المتحدة من أزمة محتدمة، فمع حلول العام المقبل قد يكون 95 في المئة من المواطنين سقطوا في براثن الفقر المدقع.
ولم تنتهِ قصة أفغانستان بالنسبة إلى الولايات المتحدة بمجرد الانسحاب العسكري فلها بقية قد تكون مرعبة إذا واصلت التعاطي غير المدروس مع الأوضاع، إذ تهدد الأزمات التي تمر بها البلاد حاليًا بتفاقم نفس المشكلات التي تدخلت واشنطن سابقًا في التعامل معها، وهي لن تصيب الداخل الأفغاني وحده ولن لا تكون طالبان ولا الشعب الأفغاني من يدفع الثمن وحده.
وعود تحت الضغوط
لا أحد يبالي بنا
لا أحد يبالي بنا
لن تستطيع حركة طالبان تقديم ما وعدت به تحت الضغوط الغربية الشديدة، حيث تمس الشروط الأميركية قلب الشرعية التي تتعكز عليها الحركة العرجاء في مواجهة مزايدات الحركات الأكثر تشددًا، في مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية فرع خراسان الذي يتهم طالبان بالتساهل في تطبيق التصور الصارم للشريعة.
ما يشترطه الأميركيون بشأن تشكيل حكومة شاملة تضم كافة الفئات والانتماءات ومنح النساء والفتيات حقوقهن في التعليم والعمل وضمان حقوق الإنسان يصفه داعش – خراسان بالعلمانية الكافرة المعادية للدين، لتقع طالبان بين كفي كماشة لأنها لو أبدت تنازلًا في تلك الملفات للحصول على الدعم ورفع العقوبات خسرت الكثير في سياق حربها العقائدية وصراعها النفسي والدعائي في مواجهة داعش.
ما كان يجب فعله أثناء حكومة أشرف غني يجب القيام به في عهد طالبان، فكلاهما فاسدان ولا يكترثان لمعاناة الشعب
تركيز طالبان على معركتها الشرسة ضد داعش – خراسان يجعلها لا تقدم سوى أقل القليل في ملف احتياجات الناس ومعاناتهم حتى لو غيرت واشنطن طريقة تعاملها ومدت جسور الدعم المالي، ما يعني أن الوضع مرشح للمزيد من التدهور على المستوى الإنساني، وهو ما ستحاول طالبان الالتفاف حوله للتملص من مسؤولية إلقائها على عاتق الولايات المتحدة.
يعني ذلك دوران عجلة الإرهاب الدولي انطلاقًا من أفغانستان وتواصل إخفاقات السياسات الغربية في هذا البلد في مختلف المراحل وصولًا إلى ما بعد الانسحاب، فطالبان تستطيع الزعم بأنها في حالة حرب ضد أعداء في الداخل وأن الكارثة الإنسانية سببها لامبالاة الغرب الذي يعاقب البلاد ويمنع عنها المعونات ويحرم الحكومة من التعاطي مع المؤسسات الاقتصادية الدولية ويفرض عقوبات قاسية، مؤججة مشاعر الكراهية والحقد ضد الولايات المتحدة ودول أوروبا، ما ينذر بتشكل نموذج شعبوي سني مناهض للغرب وواشنطن بجوار النموذج الشيعي في إيران.
كان من المفترض أن يكون العنوان الرئيسي للاستراتيجية الغربية بعد الانسحاب لتلافي تداعيات الأسلوب الخاطئ الذي نُفذت به السياسات السابقة – وإن كان جوهرها صحيحًا – هو مساعدة الأفغان أنفسهم للتحرر من حكم طالبان ومنعها من إعادة تأسيس حكم ديني وحشي في البلاد، ليس بإعادة الانخراط العسكري المباشر لكن أيضًا ليس بمعاقبة الشعب الأفغاني بإيصاله إلى حافة الجوع المدمر تحت زعم الضغط على طالبان لتنفيذ الشروط المتعلقة بحقوق الإنسان والتعددية السياسية وعمل وتعليم المرأة.
قرار صحيح وتنفيذ خاطئ
Thumbnail
منذ البداية وصولًا إلى سياسات ما بعد الانسحاب حجبت العناوين والقرارات الأميركية والغربية الصحيحة خلفها الكثير من العوار والخلل عند تنفيذها، فربما كان قرار واشنطن في العام 2001 بشأن إزاحة طالبان من السلطة صائبًا والبقاء لفترة وجيزة للمساعدة وصولًا إلى قرار المغادرة الصائب، لكن جميعها قرارات نُفذت بشكل كارثي.
مكثت الولايات المتحدة فترة طويلة لتحقيق هدف وهمي متعلق بنقل النموذج الديمقراطي إلى مجتمع قبلي منقسم على أسس عرقية وطائفية وبلد عانى منذ الحقبة الشيوعية من تغيّر الحكام والأنظمة بطرق وحشية، ما يفسر الفشل في تحقيق ما وضعته واشنطن كأولوية بأفغانستان بشأن مساعي إقامة مؤسسات ديمقراطية في دولة منقسمة على أساس ديني ومعدومة الخبرات في مجال الحكم الديمقراطي.
عاد هذا الإخفاق الرئيسي بالضرر على مصداقية الديمقراطيات الغربية، وأسهم في ذلك بث الجماعات المتطرفة، في مقدمتها طالبان، دعايات سوداء تخصم من نقاء قيمة الديمقراطية ومبادئها المعلنة بالحديث عن منفى غوانتانامو وسجن أبوغريب والانتخابات المزورة في أفغانستان، علاوة على تحشيد الجماهير من منطلق مواجهة التدخل الخارجي ورفض الهيمنة الأجنبية، وربط ما يجري في كل من أفغانستان والعراق بالواقع الفلسطيني لتغذية مشاعر رفض التدخلات الغربية وصبغ القداسة على مسارات وخطط مقاومتها.
تركيز طالبان على معركتها الشرسة ضد داعش – خراسان يجعلها لا تقدم سوى أقل القليل في ملف احتياجات الناس ومعاناتهم
وضاعف من خسائر الولايات المتحدة في هذا السياق رغم ما وضعت لبنته من توجهات حداثية ومجتمع مدني يعتنق قدرًا جيدًا من الانفتاح اعتمادُها على حكومات فاشلة وغارقة في الفساد الإداري والمالي، فكان كل طلب رشوة وكل عملية اختلاس وعدم عدالة يدفع إلى تنفير قطاع من السكان والشباب من الولايات المتحدة والنظام المدعوم منها، باحثًا عن طريق الانضواء تحت راية أحد التنظيمات التكفيرية الناشطة في البلاد.
راكمت واشنطن سلسلة القرارات الصحيحة بتنفيذها بأسلوب خاطئ بالنظر إلى توقيت المغادرة ومنهجيتها والانسحاب المضطرب، وإلى قرارات تجميد الأصول الأفغانية في المصارف الأميركية مؤخرًا.
وتؤثر تلك السياسات على ما يقرب من أربعين مليون أفغاني وهو عقاب جماعي للمواطنين تحت ستار الضغط على طالبان لتنفيذ الشروط الغربية.
ليس الدرس الرئيسي من التجربة الأفغانية القاسية هو تجنب قتال المتمردين في الأراضي البعيدة أو بناء ديمقراطيات في أرض غير ممهدة بالعسكرة المفرطة خلال مدى زمني طويل، إنما الدرس الرئيسي – وهو ما يغفل عنه الأميركيون – هو تعلم تحقيق الأهداف الصعبة والمعقدة بجهود سكان محليين ودفعهم إلى التحرر من الاستبداد الديني تمهيدًا للسير في طريق طويل لتطوير مجتمعاتهم سياسيًا واقتصاديًا، وهذا لا يتحقق بالدرجة الأولى بحمل السلاح ولا بفرض حكومة موالية إنما بكسب قلوب وعقول السكان المحليين.
ورغم كل الإخفاقات الأميركية في الساحة الأفغانية والتي كبدتها خسائر فادحة وأحرجت واشنطن على المستويين الإقليمي والدولي، إلا أن هناك حَسَنَة وحيدة بقيت بأفغانستان ثمرة جهود الولايات المتحدة طوال عشرين عامًا، لكنها مهددة بالضياع إذا واصلت واشنطن سياسة الأرض المحروقة والإصرار على سياسات تجويع الشعب الأفغاني وإغراقه في مأساة إنسانية هائلة، حتى لو جرى تبريرها بممارسة الضغوط على حكومة طالبان.
تتمثل هذه الحَسَنَة في ما تحقق من ارتفاع معدلات محو الأمية في أفغانستان من أقل من عشرين في المئة منذ عقدين وحتى الآن، ما يعني أن ثلثي الأفغان تحت سن الخامسة والعشرين بمقدورهم القراءة
والكتابة، فضلًا عن ازدياد الوعي لدى قطاع من النساء بحقوقهن وما تحقق من تقدم في مجال الثقافة والصحة والخدمات العامة.
مسؤولية أميركية
لا بدّ من حركة تحرر اجتماعية
لا بدّ من حركة تحرر اجتماعية
يمكن البناء على هذه المكاسب الإيجابية المحدودة ليس فحسب لتكفر الولايات المتحدة عن ذنب شراكتها في المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في أفغانستان، إنما لحماية الغرب على المدى المنظور من تداعيات كارثة إنسانية تلوح في الأفق في ما يتعلق بالعنف وفتح ساحة الفوضى لجماعات الإرهاب الدولي التي تقتات من هشاشة الدولة والتفكك المجتمعي وفشل طالبان، أو في ما يتعلق بتشريد الملايين، ما يعني فرارا واسعا إلى أوروبا.
لا يتصل الأمر هنا بمنح طالبان فرصة للنجاح أو منحها شرعية الحكم؛ فالحركة لن تنجح في السلطة بالنظر إلى انقساماتها الداخلية وصراع الجهاديين ضد بعضهم على السلطة الذي يعقب دائمًا خروج الطرف الأجنبي، وقد سئم السكان المحليون من الحروب والاقتتال.
وفيما تقدر الولايات المتحدة على كسب غالبية الشعب الأفغاني بإنقاذه مما يعانيه من فقر وجوع ومرض بعيدًا عن عنتريات نقل الديمقراطية إلى أماكن أخرى بالقوة العسكرية ودعم حكومات فاسدة، ها هي تواصل التعاطي السلبي وتنفيذ القرارات الصحيحة بطريقة خاطئة.
ضغوط واشنطن على طالبان يدفع ثمنها الأفغان ولن يستغرق هذا الضغط وقتا طويلًا حتى انهيار هذه الدولة الهشة
القرار الصحيح هنا هو الضغط على طالبان، أما طريقة تنفيذه فالضغط من خلال تيار شعبي عريض واع ناقم ومتماسك ولديه إمكانية إعلان رفضه وتمرده على الحكم الديني الاستبدادي وعلى صراعات الجهاديين التي لا تنتهي، أما ما تفعله واشنطن من ضغوط على طالبان عبر عقوبات اقتصادية مؤلمة فيدفع ثمنها ويعاني من آثارها غالبية الأفغان ولن يستغرق هذا الضغط وقتا طويلًا لجعل هذه الدولة الهشة تنهار.
وتتحمل الولايات المتحدة مسؤولية واضحة عن مساعدة الشعب ويجب عدم إغراق هذه المسؤولية في جدل الحكم الوحشي لطالبان وإضفاء الشرعية عليها، لأن واشنطن تفاوضت مع الحركة وتوصلت إلى اتفاق معها وهي تعلم طبيعة أفكارها ومناهجها، في الوقت الذي يمكن إنقاذ الأفغان ممن هم على حافة الهاوية دون أن تحصل طالبان على إعلان شرعية صريح.
ما كان يجب فعله أثناء حكومة أشرف غني يجب القيام به في عهد طالبان، فكلاهما فاسدان ولا يكترثان لمعاناة الشعب، ما يعني ضرورة التقليل من التركيز على خطط الدعم الحكومية، وخلق فرص المبادرات الاقتصادية الشخصية والاستجابة الموسعة للمظالم المحلية بتمكين منظمات وأشخاص يتحملون مسؤولية مستقبلهم الاقتصادي، وتوصيل المساعدات إلى الأكثر فقرًا واحتياجًا ممن هم على استعداد لبيع أبنائهم لتوفير الطعام، وهو النهج الأقل عرضة للفساد ويجعل البلاد بعيدة بعض الشيء عن سيناريوهات كارثية.
صحيفة العرب