بعض المراقبين بدأوا يعتقدون أن إيران لم تعد مهتمة فعلا بالعودة للاتفاق النووي، بقدر ما تسعى لكسب الوقت للتقدم في برنامج التخصيب، الذي سيضعها في نادي الدول النووية. قال خامنئي في إحدى المرات، إنه أصدر فتوى بأن «صنع قنبلة نووية واستخدامها محرم شرعا» لكن بوفاته مستقبلا قد تصبح الفتوى ميتة، لا نملك تقديرا لنوايا إيران إن كانت تنوي بالفعل تصنيع قنبلة نووية، أم أنها تريد الاكتفاء باستثمار الاتفاق النووي للاعتراف بها كقوة إقليمية متفردة، بعد أن صنعت قنبلة شيعية وتحكمت في مواقيت انفجارها.
لفترة طويلة كنا نعتقد أن إيران لا تريد إنتاج قنبلة نووية، ولا نعرف إن كان إصرارها على المطاولة في المفاوضات هو لكسب المزيد من الامتيازات، والعودة للاتفاق الأصلي الذي مزقه ترامب؟ أم للتهرب من الاتفاق برمته، المسألة معقدة كما تبدو في فيينا، ولو اطلعنا على رأي أحد خبراء الملف الإيراني مثل الكاتب علي هاشم لوجدناه يقول في مقال له في أحد المواقع المتخصصة بالشأن الإيراني إن «الظروف والمؤشرات التي تواترت باتت تشير بشكل واضح إلى أن العامل الأساسي في تأخر إيران عن صناعة القنبلة النووية هو عامل سياسي، لا عاملا تقنيا» وإن أحد أهم معوقات المفاوضات هو أن «أمريكا لا تريد تحقيق مطالب إيران برفع العقوبات بشكل كامل ونهائي، ولا طهران تريد اتفاقات صغيرة وتسويات تصنع مساراً لعودة الاتفاق النووي». أما والي نصر الكاتب الأمريكي والأكاديمي من أصل إيراني، فكتب مقالا مطولا قبل أيام، يتحدث في بعض جوانبه عن الخطأ الكبير لترامب الذي ارتكبه بإلغاء الاتفاق النووي، وما سببه من تعزيز التيار المتشدد في النظام الإيراني لقوته، ومحاولة إثبات أن سياستهم الصدامية مع واشنطن هي الناجعة. وأن إيران لن تستطيع تأمين مصالحها إلا من خلال المواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها.
أدى الاعتماد على واشنطن من قبل الدول العربية، التي تريد مواجهة إيران، منذ سقوط بغداد 2003، إلى خلل كبير في الأمن القومي العربي
ويبدو أن إلغاء ترامب للاتفاق النووي منح إيران فرصة لمزيد من التمكن وتحقيق المكاسب يقول نصر «خرجت إيران من عهد ترامب أكثر عدوانية وفتكا، منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، زادت مخزونها من اليورانيوم المخصب، ووسعت بنيتها التحتية النووية، واكتسبت الدراية النووية المهمة، وهي الآن قريبة بشكل خطير من امتلاك ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية». ويضيف نصر «لقد كان قرار إلغاء الاتفاق النووي، وليس قرار التوقيع عليه في المقام الأول، هو ما جعل إيران قوة أكبر في المنطقة، لقد تقدمت طموحات طهران النووية والإقليمية جنبا إلى جنب: يوفر برنامج نووي موثوق به مظلة تحمي وكلاءها في جميع أنحاء المنطقة، ما يعزز بدوره نفوذ إيران بشكل أكبر». بعض الدول العربية السنية والخليجية تحديدا، بدأت على ما يبدو بالانفتاح على أنقرة، وإصلاح الخلافات معها، بوصفها مركزا سنيا تاريخيا يمكنه موازنة دور طهران وحلفائها، لكن هذه الدول نفسها كانت قد اختطت مسارا آخر للبحث عن حلفاء ضد طهران، ووجدوا أنفسهم في طريق يقودهم نحو تل أبيب. لكن ماذا إن تم توقيع الاتفاقية في النهاية؟ وعادت أموال إيران المجمدة؟ والعلاقات الدبلوماسية مع الغرب؟ عندها سيكون على الدول العربية الخليجية التعامل مع شرطي المنطقة الجديد، المستفيد من تضاؤل الدور الأمريكي في المشرق العربي، الذي باتت الكثير من عواصمه منضوية في حلف طهران المناوئ، ولا يبدو أن هناك مجالا أو فرصا موضوعية في الظرف الراهن تتيح عكس عقارب الساعة للوراء بالنسبة لتمدد ايران، يمكن فقط إبطاؤها، وإلى أن تتضح صورة مفاوضات فيينا النووية ونتائجها، سواء بإنجاز الاتفاق أم لا، سيكون علينا التمعن في شكل المنطقة في الحالتين؛ أيكون إيران شرطي المنطقة، أم إيران القنبلة النووية، أم خيارا ثالثا عبثيا سيعود ليصب في إحدى الحالتين وهو ضربات عسكرية لن تسقط النظام، بقدر ما قد تبطئ عقارب الساعة.
لقد ادى الاعتماد على واشنطن من قبل الدول العربية، التي تريد مواجهة إيران، دون بناء قدرة ذاتية أو مشروع يمتلك رؤية لمواجهة حلفاء طهران منذ سقوط بغداد 2003، مشروع يعالج جراحات المسألة الطائفية المحلية، أدى ذلك إلى خلل كبير في الأمن القومي العربي، وكانت هذه الحلقة هي الأخيرة فقط وليست الوحيدة، لقد بدأت الظروف تتهيأ لولوج إيران، منذ أن بدأ جمر النزاعات الأهلية بين السنة وطوائف الشيعة يشتعل دون جهود محلية ناجعة للإطفاء، بدءا من العراق لبنان والعراق وصولا لليمن الذي يواصل فيه الحوثيون اليوم معركتهم الخامسة، بعد نحو ثلاثة عقود من النزاع الداخلي مع السلطة في صنعاء، فكل القضايا التي استثمرتها طهران لدعم حلفائها بدأت بشعور تظلمي محلي للشيعة وفرقهم، مشكلين قنبلة شيعية لم تفكك للآن، بسبب إنكار قطاع واسع من السلطة من بغداد حتى صنعاء، وغالبا ما بدأت تلك الصراعات الكبيرة الإقليمية بنزاعات محلية طائفية، فمدرسة سلفية مثل «دار الحديث» تأسست في دماج بصعدة عام 1979 على يد الشيخ هادي بن مقبل الوادعي، زرعت هذه المدرسة بدعم سعودي قرب معقل الحوثيين وخرّجت مئات السلفيين، أثارت حزازات محلية مع الحوثيين، الذين مالوا للفرقة الجاردوية الشيعية، الأقرب للاثني عشرية، تضخمت لاحقا هذه النزاعات وتدحرجت ككرة الثلج، ففي عام 2019 قتل أحد أبرز القادة العسكريين ضد الحوثيين، السلفي أحمد الزعكري المعروف بأبي مسلم الزعكري، كان هذا السلفي أحد طلاب مدرسة «دار الحديث» وكان ينتمي لقبيلة زيدية تسنن ابناؤها لاحقا كالزعكري، لذلك فإن خطر القنبلة النووية الإيرانية، ما كان ليزعج الدول العربية السنية لو كانت قد حلت مشاكلها المحلية بشيء من العدالة الاجتماعية، وتقبل الآخر وتوزيع السلطة، وفي ذلك يقول الباحث فواز طرابلسي، إن حركة الحوثيّين في صعدة وعمران «تشير إلى نمط المشكلات والأزمات التي تنجم عندما ينجدل التهميش الاقتصادي والتمييز السياسي والحرمان الاجتماعي، مع الخصوصيات والهويات المذهبية والمناطقية، يزيد من حدة الأزمة ضيق قاعدة السلطة وازدياد طابعها الفردي، والتخلي المتزايد للدولة عن دورها في التنمية والخدمة الاجتماعية، وإطلاق العنان لحرية السوق، والاستعاضة عن التوزيع الاجتماعي العادل بشبكات المحسوبية والانتفاع، في إطار ممارسة أهل الحكم والتجارة والمقاولات والتصرف بالموارد ومراكمة الثروات من غير رقيب».
القدس العربي