التقيت في الأسابيع الأخيرة مع عدد لا بأس به من المسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المعنيين بالقضايا الدولية والمتابعين للأوضاع في الشرق الأوسط بشكل خاص، مما سمح لي باستخلاص بعض الاعتبارات المهمة عن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، ورأيت طرح ما انتهيت إليه، بخاصة بعد مرور عام تقريباً على تولى تلك الإدارة المسؤولية.
وأولى تلك الخلاصات هي أن الإدارة تشعر أن الشرق الأوسط أرهق المجتمع الأميركي، ولم يعد يوفر حافزاً كافياً لواشنطن لتبني سياسات مبادِرة ومكلِفة تجاهها، وهي خلاصة أتفق معهم فيها، مع انتهاء الحرب الباردة، وانخفاض اعتماد الولايات المتحدة على مصادر الطاقة من المنطقة. ومن ثم فالإدارة عاقدة العزم على تغيير السياسات الجمهورية والديمقراطية السابقة خلال العقدين الماضيين، أي سياسات إدارات الرؤساء السابقين جورج بوش الابن أو باراك أوباما أو دونالد ترمب، وستعود إلى الدبلوماسية التقليدية وهو في حد ذاته تطور إيجابي.
والخلاصة الثانية هي أن الإدارة الأميركية الحالية لن تعرض جنودها أو مواطنيها للمخاطر في الشرق الأوسط، ولن تنفق كثيراً في تلك المنطقة إلا إذا فرضت عليها الأحداث ذلك، وهو موقف له انعكاسات على الارتباطات الأمنية مع الدول الصديقة والحلفاء، مهما صاحبها من تأكيدات حول الاستمرار والالتزام بحفظ أمن الأصدقاء التقليديين.
والخلاصة الثالثة هي أن الولايات المتحدة تسعى للاستفادة من علاقاتها الشرق أوسطية، وإنما ستتخذ قراراتها وفق مصالحها المباشرة وأولوياتها الآنية، وهي أولويات ومصالح غير ثابتة وتتغير بين حين وآخر، مما يفرض على الدول الإقليمية التدقيق في حساباتها جيداً لتحديد ما يحقق مصلحة مشتركة، وما يجب أن تتوقع حمل المسؤولية فيه وحدها أو مع أطراف إقليمية أخرى لمواجهة تحديات وطنية أو إقليمية أو الاستفادة من فرص متاحة.
والخلاصة الرابعة التي خرجت بها هي أن الإدارة غير طموحة بالنسبة إلى أهدافها في المنطقة على عكس الإدارات السابقة التي سعت إلى تغيير أوضاع الشرق الأوسط وتوازناته وفق الأولويات الأميركية في حين أن ما يهم إدارة بايدن هو الحفاظ على الاستقرار وتجنب انهيار جديد لدول وطنية في المنطقة.
وخرجتُ من محصلة الاتصالات التي أجريتها، بيقين أن الإدارة ما زالت ترتب أولوياتها وتدرس وتبلور مواقفها التفصيلية من القضايا الشرق أوسطية.
وأحد أسباب التريث والبطء في التحرك الأميركي الخارجي هو أن الإدارة الجديدة تواجه مجتمعاً أميركياً منقسماً بين أقصى اليمين واليسار، وبين أجيال شابة وتقدمية وآخرين يفضلون التمسك بالمواقف التقليدية، مما يجعلها تسعى إلى المواءمة بين اعتبارات داخلية وخارجية عدة دون إغضاب أحد، بل ليس من المبالغة القول إنها ما زالت في مرحلة بلورة السياسات والطموحات التفصيلية والبدائل والخطط البديلة إذا لم تتحقق لها أهداف. ولعل تلكؤها في العودة سريعاً إلى الاتفاق النووي، أضاع عليها فرصةً في نهاية ولاية الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، ووضعها في موقف صعب الآن مع إدارة إيرانية أكثر تشدداً. وتطور الحديث للتنويه بالبدائل غير الدبلوماسية لتجنب حصول إيران على الأسلحة النووية، وذلك على الرغم من قناعتي بأن كلاهما يفضل التوصل إلى اتفاق، لذا لم أفقد الأمل في ذلك بعد.
وشملت اتصالاتي شخصيات أميركية عدة تحدثت بصراحة ووضوح، وإنما أُفضل التركيز على تصريحات برت مكغرك، المنسق الأميركي في البيت الأبيض لقضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لأنه كرر الكثير مما ذكره لي في حديث صحافي لجريدة “ذو ناشيونال” “The National” الإماراتية، بما يرفع عني حرج الإشارة إليها دون استئذانه.
يرى مكغرك أن جورج بوش الابن سعى إلى تغيير الخريطة السياسية والمجتمعية في الشرق الأوسط، وهو ما لمسته شخصياً خلال عملي كسفير لمصر في الولايات المتحدة، في عنفوان تيار “المحافظين الجدد”.
واعتبر المسؤول الأميركي أن غزو العراق ونشر الديمقراطية وبناء الدول كان جزءاً من هذا التوجه، واعتبر أن أوباما تجنب التوسع العسكري، وإنما استمر في دعم سياسة تغيير الأنظمة وفقاً للرؤى والمبادئ الأميركية، كما اتخذ ترمب مواقف تصاعدية ضد إيران وأطراف أخرى دون حساب دقيق. وعليه ذكر لي مكغرك، أن الإدارة لن تنغمس في مشروعات كبرى بالمنطقة وستركز على بناء وصيانة وتقوية علاقاتها مع الدول الصديقة، وهو ما جعلني أشدد على ضرورة تقوية القدرات الأمنية والعسكرية للأصدقاء والحلفاء. لذا سعدت عندما أعلن مكغرك في حديثه الصحافي أن بلاده ستدعم القدرات الدفاعية الذاتية للأصدقاء والحلفاء، وأرجو أن يتم ذلك بالفعل.
أشاد المسؤولون الأميركيون بالعلاقات مع الأردن، وإنما لم يتطرقوا كثيراً إلى الأوضاع في السودان أو لبنان، واتخذوا مواقف غير واضحة من اليمن وسوريا، بل أحياناً يبدو عليها قدراً من التناقض، فتجنبت انتقاد الحوثيين. إلا أن مكغرك وصف الحوثيين صراحة بأنهم الطرف المعتدي في اليمن، ومن جانب آخر أشار إلى أن بلاده تتشاور مع السعودية حول الحد من العنف.
وتحدث المسؤولون الأميركيون عن تثبيت الأوضاع على ما هي عليه في سوريا من حيث الحد من العنف والتصدي للمتطرفين والسماح بالدعم الإنساني، دون التطرق إلى سبل إحراز أي تقدم سياسي أو التعامل مع الظروف الإنسانية للمهاجرين أو الضغوط الاقتصادية داخل سوريا. ولم يتناولوا الأوضاع السياسية وضرورة احترام تركيا السيادة السورية مكتفين بالتنويه إلى أهمية تأمين إسرائيل من أي مخاطر إيرانية.
ومن الواضح أن الإدارة الأميركية ترى في العراق اتجاهات إيجابية على الرغم من بعض أحداث العنف الأخيرة، مع التأكيد على أن الدور الأميركي هو التصدي للتطرف.
ومن أكثر ما لفت النظر هو أن المسؤولين الأميركيين تجنبوا الإشارة إلى النزاع العربي – الإسرائيلي أو إحياء المسار الفلسطيني، أقدم القضايا الشرق أوسطية، وهو سكوت له معان كثيرة.
واستخلص من كل ذلك أن الولايات المتحدة ستتبني مواقف براغماتية تطبيقاً لسياسات واقعية، ما يفرض على الدول العربية أخد زمام المبادرة لتحقيق توازنات إقليمية والتحرك بشكل أسرع وأفضل في رسم أو الإسهام في رسم خريطة المستقبل في المنطقة، برؤى وأولويات عربية شرق أوسطية مدعمة من الأصدقاء مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وغيرهم.
اندبندت عربي