واشنطن- رسم الرئيس الأميركي جو بايدن استراتيجية مغايرة لتلك التي اتبعها أسلافه في منطقة الشرق الأوسط الكبير، وهو ما يعكس تغيرا كبيرا في أولويات الولايات المتحدة بناء على التطورات الأمنية والسياسية وانشغالها أكثر بمواجهة النفوذ الصيني والروسي المتنامي بالإضافة إلى إحداث تغيير كبير في مصادر الطاقة ومواكبة السباق المتنامي للتسلح تكنولوجيّا.
وبدأت واشنطن بعد عقدين كاملين من حربها على الإرهاب تتعرض لانتقادات حادة من محللين وخبراء عسكريين يعتبرون أن في انسحاب واشنطن من أفغانستان وحربها ضدّ التنظيمات الإسلامية المتشددة وجهودها لإحياء الاتفاق النووي الإيراني فشلا أو سيرا نحو فشل محتّم.
وانتقد الخبيرالاستراتيجي الأميركي أندريو إس. جيلمور الاستراتيجيات التي اتبعتها الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط طوال العقدين الماضيين، والتي يرى أنها أسفرت عن أوجه فشل كثيرة.
أندريو جيلمور: أي استراتيجية جديدة يجب أن توسع قدرات واشنطن التحليلية
وقال جيلمور، الذي عمل طوال 32 عاما في وكالة المخابرات المركزية قبل تقاعده، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية إن تعزيز المصالح الأميركية من شمال أفريقيا حتى وسط آسيا يشهد تراجعا ملحوظا، وأن عمليات احتلال العراق وأفغانستان المنهكة كانت تنذر بفشل استراتيجي.
ويؤكد أن النفوذ الصيني والروسي يتزايد على نطاق واسع، كما أن هناك “خطة كبيرة” في أفغانستان تحمل خطر التسارع بعد الانسحاب الأميركي، وتواصل القاعدة وداعش رغم سنوات من الضغط الأميركي الصارم والناجح غالبا التآمر والدعوة للقيام بهجمات ضد المصالح الأميركية في العالم. وهناك دول في المنطقة، بما في ذلك دول يفترض أنها حليفة للولايات المتحدة، تتصرف بصورة متزايدة دون خوف أو مراعاة لواشنطن.
ويرى الخبير العسكري الأميركي أن الجهد غريب الأطوار الذي تم بذله طوال سنوات عديدة بهدف كبح الطموحات النووية الإيرانية على حافة الفشل الآن، وأن ما تم بذله من دماء وأموال وعمل دبلوماسي في أنحاء الشرق الأوسط الكبير وأسفر عن هذه النتائج منذ نهاية الحرب الباردة، يصل إلى حد الكارثة بالنسبة إلى استراتيجية الولايات المتحدة في جزء محوري من العالم.
ويضيف أن هذه القائمة الطويلة من الفشل دفعت المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين وصناع السياسات السابقين إلى الدعوة لتبنّي استراتيجية تقليص جديدة تهدف إلى الحد من التكاليف والالتزامات العسكرية والدولية.
وظهر إجماع بأن الولايات المتحدة التزمت أكثر من اللازم تجاه منطقة تعتبر تحدياتها الداخلية بعيدة عن متناول أدوات القوة الأميركية. وأدت مقولات مثل “الشرق الأوسط لم يعد يستحق ما يبذل” و”لم يعد الشرق الأوسط يهم كثيرا” إلى ارتفاع أصوات نخبة غاضبة بالنسبة إلى السياسة الخارجية تتوق إلى أن تركز الاستراتيجية الأميركية على التهديدات الأكثر إلحاحا من جانب روسيا والصين.
من ناحية أخرى، يقول جيلمور إن هذا الإحباط أمر مفهوم إذا ما تم تذكر أن الولايات المتحدة استطاعت بنجاح تأمين الكثير من مصالحها في الشرق الأوسط الكبير طوال فترة الحرب الباردة.
وعندما مررت بريطانيا، التي لجأت إلى سياسة التقليص في وقت مبكر، إلى الولايات المتحدة مزيجا غاضبا من القومية ودول ملكية تقليدية ومصالح طاقة مبعثرة في الشرق الأوسط الكبير، واجهت واشنطن التحدي بدرجة كبيرة في الشرق الأوسط الكبير باستثناء الثورة الإيرانية.
وخلال فترة الحرب الباردة حققت الولايات المتحدة أهدافها في المنطقة من خلال الاستعانة بالنخب المحلية سياسيا واقتصاديا وحشد نفوذها الدبلوماسي، وقد تم احتواء الحروب العربية – الإسرائيلية وإعادة توجيهها إلى عمليات سلام شبه دائمة.
وتحولت مصر من منطقة النفوذ السوفييتي إلى منطقة النفوذ الأميركي، وتم التغلب على عمليات حظر النفط، وواجه تمرد إسلامي تدعمه الولايات المتحدة (المجاهدون) بنجاح الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، وتم مرة أخرى إرسال القوات البرية الأميركية إلى المنطقة. وعلى النقيض من ذلك تبدو فترة ما بعد الحرب الباردة أقل استجابة للقوة الأميركية.
ويشير جيلمور إلى أنه من المفارقات أن الدعوات إلى التقليص تأتي مصحوبة بقائمة طويلة من المصالح الأميركية الدائمة التي يتعين حمايتها.
وعلى سبيل المثال، حدد مستشار الأمن القومي في يناير الماضي التحديات الكامنة التي ينطوي عليها التقليص، حيث قال “إن خفض التواجد الأميركي في الشرق الأوسط يتطلب تحقيق توازن بارع يتمثل في الحد من التواجد العسكري القديم دون خلق حالة جديدة من عدم الأمن، مع الحفاظ على الردع والنفوذ إذا دعت الحاجة إلى حماية تلك المصالح الأميركية الرئيسية الباقية”.
وهناك خبراء كانوا أكثر تفصيلا بالنسبة إلى هذا الأمر، حيث قالوا إن “للولايات المتحدة ثلاث مصالح حيوية تماما في المنطقة هي الحد من الإرهاب، حماية تدفق النفط ومنع إيران من الحصول على أسلحة نووية”.
وبالمثل أكد خبراء آخرون على ضرورة استمرار حماية الولايات المتحدة لحرية الملاحة في الممرات البحرية في المنطقة، واحتواء من يحتمل أن يفرضوا هيمنتهم في المنطقة وغيرهم من العناصر المعادية لواشنطن.
وقال جيلمور إنه لم يتم بعد صياغة استراتيجية جديدة يمكن أن تؤمّن هذه القائمة الطويلة من المصالح الحيوية، وأن أي استراتيجية جديدة تستند إلى “المصالح” بشكل منفصل عن الأطر المعقدة والمتقلبة بصورة متزايدة والتي توجد فيها مثل هذه “المصالح” محكوم عليها بالفشل منذ البداية.
وتعد مراجعة الافتراضات الأميركية السابقة شرطا ضروريا لوضع أي استراتيجية جديدة للمنطقة.
الفشل يدفع واشنطن للدعوة إلى تبني استراتيجية تقليص تحدّ من التكاليف والالتزامات العسكرية والدولية
ويشير نطاق أوجه الفشل الاستراتيجي طوال العقدين الماضيين إلى ضرورة إعادة التحقق من الافتراضات الأساسية للغاية للاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط الكبير. فالتحديات المتزايدة للحكم، والتغييرات في نظام الدول في المنطقة، وتضاؤل اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة من المنطقة، والعراقيل التي تواجه ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تجعل من غير المقبول الحفاظ على الافتراضات التي لم يتم التحقق منها عن الدولة والحكم والمجتمع والنفوذ الأميركي في المنطقة.
وأكد جيلمور أن أي استراتيجية جديدة يجب أن تبدأ بتوسع في قدرات واشنطن التحليلية. وأن هناك حاجة إلى أطر عمل جديدة لتفهم الحيز الجغرافي المتصل للشرق الأوسط الكبير، وإلى قوة ذاكرة تاريخية لصياغة القصد الاستراتيجي للمعنيين لتكون نبراسا لأي استراتيجية أميركية جديدة.
وبالمثل هناك حاجة إلى سبل لتفهّم انتشار الحركات السياسية والثقافية عبر الحدود، وأنماط الحكم الديني، والتفاعلات بين الحضارة الإسلامية والحضارات المجاورة لمساعدة الولايات المتحدة على تحديد مصالحها ومتابعتها بصورة أكثر فعالية.
العرب