ارتفع مستوى التوتر بين موسكو والغرب، إذ تصاعدت الاتهامات الموجهة للكرملين بحشد قواته العسكرية والتحضير لغزو أوكرانيا التي يعتبرها مسألة لم تحسم بعد وتسعى موسكو لإخضاعها إلى سيطرتها. ووجهت الدول الغربية تحذيرات مشددة لروسيا بالتراجع عن نواياها وملوحة بفرض عقوبات اقتصادية لا تبدو قادرة إلى الآن على ردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتمسك بمداواة جراح موسكو وتعويض خساراتها التاريخية على حساب المنطقة بأكملها.
موسكو – أصبحت أوكرانيا بؤرة التوتر الرئيسية في علاقات روسيا مع الغرب بعد أن حشدت موسكو عشرات الآلاف من أفراد جيشها قرب الحدود مع أوكرانيا وأطلق الرئيس فلاديمير بوتين سلسلة من التصريحات شديدة اللهجة تحدد “خطوطه الحمراء”.
وتصاعدت التحذيرات من أن موسكو تعتزم شنّ حرب على كييف إلا أن روسيا تقول إنها لا تعتزم القيام بذلك، وتتهم أوكرانيا بنشر نصف جيشها لمواجهة الانفصاليين الموالين لموسكو في شرق البلاد.
وعلى وقع هذا التوتر المتصاعد والخلاف المستمر بشأن ملف أوكرانيا طالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإجراء محادثات “فورية” مع الناتو والولايات المتحدة بشأن الضمانات التي ستمنح لموسكو حول أمنها على خلفية التوترات حول أوكرانيا.
وجاءت تصريحات بوتين بعد يوم فقط من مطالبته خلال مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون “بوجوب البدء فورا في مفاوضات بهدف الخروج باتفاقيات قانونية دولية واضحة من شأنها أن تمنع المزيد من توسع الناتو شرقا، ونشر أسلحة تهدد روسيا في بلدان مجاورة، وفي أوكرانيا بشكل أساسي”.
وتصاعدت الخلافات خلال الأشهر الماضية بين موسكو والناتو الذي أعلن صراحة وقوفه إلى جانب كييف، ودعمه ضمها إلى عضويته.
لا تراجع عن أوكرانيا
اقرأ أيضاً: الاتحاد الأوروبي يُسابق تحركات روسيا لإنقاذ شراكته شرق القارة العجوز
لطالما كانت القضية الأوكرانية حساسة بالنسبة إلى الكرملين، فخلال الفترة الماضية أبدى امتعاضه من نشر كييف طائرات مسيرة تركية قرب الحدود، كما انتقد مرارا محاولاتها الانضمام إلى حلف الأطلسي.
ويأخذ الرئيس الروسي على الغربيين عدم الوفاء بوعد قطعوه في نهاية الحرب الباردة بعدم توسيع الحلف شرقاً.
وتعود أسباب تركيز الرئيس الروسي إلى هذه الدرجة على أوكرانيا واختياره تصعيد الأزمة إلى ذروتها إلى عقود ماضية. فبانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 فقدت روسيا السيطرة على 14 جمهورية سابقة كانت تهيمن عليها، لكن خسارة أوكرانيا كانت الأكثر مرارة.
وارتبطت الدولتان منذ القرن التاسع الميلادي عندما أصبحت كييف عاصمة لروسيا القديمة. وفي عام 988 أدخل حاكمها الأمير فلاديمير الأول المسيحية الأرثوذكسية إلى روسيا. وفي عام 1654 اتحدت روسيا وأوكرانيا بموجب اتفاقية في ظل حكم قيصر روسيا.
ويتحدث البلدان لغتين متقاربتين وشكلا فيما بعد مع روسيا البيضاء القلب السلافي للاتحاد السوفييتي. ويشعر كثير من الروس بصلة تربطهم بأوكرانيا لا يشعرون بمثلها تجاه جمهوريات سوفييتية سابقة أخرى في البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى.
ولمّح بوتين إلى ذلك في مقال صادر في يونيو الماضي قال فيه إن الروس والأوكرانيين شعب واحد اشترك في “حيّز تاريخي وروحاني واحد” وإن ظهور “جدار” بينهما في السنوات الأخيرة أمر مأساوي. ورفضت كييف حديثه هذا واعتبرته ذا دوافع سياسية وينطوي على تبسيط مخل بالتاريخ.
ومنذ انتهاء الحرب الباردة، توسع حلف شمال الأطلسي شرقا بضم 14 دولة جديدة منها دول كانت أعضاء في حلف وارسو السابق ودول البلطيق الثلاث التي كانت ذات يوم من جمهوريات الاتحاد السوفييتي. واعتبرت روسيا ذلك تعديا خطيرا باتجاه حدودها.
وأوكرانيا ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي لكنها حصلت عام 2008 على وعد بالانضمام إليه. ومنذ الإطاحة برئيسها الموالي لروسيا في عام 2014، اقتربت أوكرانيا أكثر من الغرب وأجرت تدريبات عسكرية مشتركة مع حلف شمال الأطلسي وحصلت على أسلحة منها صواريخ جافلين الأميركية المضادة للدبابات وطائرات تركية مسيّرة.
وتعتبر كييف وواشنطن هذه الخطوات إجراءات مشروعة لتعزيز دفاعات أوكرانيا بعد أن سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم في 2014 وقدمت الدعم لانفصاليين ما زالوا يقاتلون القوات الحكومية في شرق أوكرانيا، بعد أن أدى هذا النزاع المرير منذ سنوات إلى مقتل 13 ألف شخص.
ويقول بوتين إن تنامي روابط أوكرانيا مع حلف الأطلسي قد يجعلها منصة انطلاق لصواريخ للحلف تستهدف روسيا.
ترفض روسيا شكوك أوكرانيا والولايات المتحدة في أنها ربما تحضر لغزو أوكرانيا قائلة إنها تردّ فقط على تهديدات واستفزازات. وهي تريد ضمانات أمنية من الغرب منها التراجع عن وعد الحلف لأوكرانيا بالانضمام إليه.
ولأنه زعيم لا يتغاضى فعليا عن أيّ معارضة في الداخل، يكنّ بوتين كراهية للثورات التي تندلع في الدول المجاورة والتي قد تشجع المحتجين في روسيا. ففي بيلاروسيا قدم بوتين الدعم لزعيمها ألكسندر لوكاشينكو بعد احتجاجات حاشدة العام الماضي.
وفي حالة أوكرانيا لم تكن فكرة إقامة دولة ديمقراطية مزدهرة في الجوار وفي طريقها إلى عضوية محتملة في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي مستساغة بل وربما كانت خطرة بالنسبة إلى بوتين إن هي ألهمت الروس بالسعي لنموذج موال للغرب.
كما أن إبقاء التوتر بشأن أوكرانيا يساعد بوتين على تعزيز رسالة سياسية داخل روسيا مفادها أنه مدافع قوي عن مصالح روسيا في عالم تحاط البلاد فيه بالعداءات والتهديدات.
وكان تركُ الغرب يتكهن بغزو محتمل لأوكرانيا قد وضع روسيا في موقع الصدارة على جدول الأعمال الدولي ودفع الرئيس الأميركي جو بايدن للقاء بوتين مجددا في اتصال عبر الفيديو يوم السابع من ديسمبر الجاري.
ولم يتمخّض اللقاء الافتراضي عن أيّ اتّفاق، أو تهدئة، وإنّما تهديدات من قبل الرئيس بايدن بفرض عُقوبات اقتصاديّة “غير مسبوقة” على روسيا مِثل إخراجها من نظام “سويفت” المالي، وتجميد خط أنابيب غاز “نورد ستريم” إلى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانيّة.
ويحذّر محللون من أن تجميد مشروع خط أنابيب الغاز الروسي المُمتد إلى أوروبا عبر أراضي أوكرانيا سيُؤدّي إلى حُدوث كارثة لدول القارّة العجوز التي تعتمد على الغاز الروسي لمُواجهة الشّتاء البارد، تزامنا مع التذبذب المتواصل هذه الأيام في أسعار الطاقة بسبب شح الإمدادات وزيادة احتِمالات الحرب في أوكرانيا.
وتشير التصريحات العلنية لبوتين إلى أن أفعاله مدفوعة بقناعة شخصية بالإضافة إلى تكتيكات سياسية. وربما يكون يفكر كذلك في إرثه الشخصي، فهو قد يستمر في السلطة لولايتين أخريين كل منهما ست سنوات عندما تنتهي ولايته الحالية في 2024.
ورثى في مقابلة بُثت الأحد الماضي انهيار الاتحاد السوفييتي باعتباره أفولا لنجم “روسيا التاريخية” التي شهدت “فَقْدَ جانب كبير مما بني فيها على مدى ألف عام”. وتدعم مثل هذه التصريحات رأي بعض المحللين بأن بوتين يعتبر أوكرانيا “مسألة لم تنته بعد” ويريد أن يتبع السيطرة على شبه جزيرة القرم -والتي زادت من شعبيته في الداخل- بإجراءات أخرى لإعادة أوكرانيا بالكامل أو جزء منها تحت سيطرة موسكو.
العرب