لم يكن التيار القومي الكردي، الطامح إلى تكوين دولة كردية مستقلة (تضم، في الأقل، كرد كردستان العراق، وليس الكرد الموزعين بين تركيا وايران وسوريا)، حتى بداية التسعينيات، سوى واحد من المسارات التي تبنتها النخب الكردية؛ فقد كانت ثمة تيارات أخرى تعمل ضمن الحراك السياسي العراقي ككل. كما ظل المشترك المذهبي حاضرا بقوة في العلاقات السنية الكردية، وإن كان قد تحول إلى عامل سلبي بعد عام 2003، بسبب المماهاة بين الدولة العراقية بإرثها الطويل (1921 ـ 2003) مع السنة، لاسيما مع تمكن القوميين الكرد من فرض رؤيتهم حيث سيطروا سياسيا وعسكريا على كردستان العراق بعد انسحاب الجيش العراقي منها في النصف الثاني من عام 1991.
حتى بدايات القرن العشرين، كان المذهب السني، قوة وصل، وإن لم يكن قوة دمج، بين العرب والكرد. فالغالبية العظمى من الكرد سنة، يتمذهبون بالمذهب الشافعي. والإسلام، كما هو معروف، كان يعد العقيدة، ودار الإسلام، المعيارين الوحيدين للأمة، ولم تكن الهويات الإثنية والقومية تشكل أي تحد لهذين المعيارين حتى نهايات القرن التاسع عشر عندما بدأ يتصاعد الخطاب القومي، بتأثير النموذج القومي الأوروبي. ولكن ذلك لم يمنع العرب في العراق، فضلا عن الكرد، من الوقوف إلى جانب العثمانيين في وجه الاحتلال البريطاني للعراق أواخر عام 1914، كمسلمين وليس كعرب أو كرد. وقد شكلت لحظة انهيار الدولة العثمانية، بحمولتها الدينية الإسلامية، بداية السؤال حول «الهوية»، الإثنية والطائفية والمناطقية.
كرديا، كانت لحظة الاحتلال البريطاني للعراق هي لحظة التحول بالنسبة لتشكل الهوية القومية الكردية، بعيدا عن العامل الإسلامي. ويمثل محمود الحفيد هذه اللحظة بامتياز، فبين مشاركة الرجل وفرسانه من الكرد القوات العثمانية والمتطوعين الشيعة العرب قتال الجيش البريطاني في معركة الشعيبة في عام 1915، ثم قبوله تولي مسؤولية السليمانية عام 1918 تحت سلطة الباب العالي، إلى تسليم لواء السليمانية إلى القوات البريطانية في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، وتثبيت البريطانيين له حاكمدارا (حاكم) على السليمانية برفقة مستشارين بريطانيين، مرورا بلحظة مقاتلة البريطانيين في أيار/ مايو من عام 1919 ومحاولة فرض سلطته على السليمانية تحت راية كردية بحت، وصولا إلى حلم إنشاء دولة، يكون هو نفسه ملكا عليها بين عامي 1923 و 1924. على أنه لا بد من الانتباه إلى أن من الخطأ محاولة تعميم تطلعات الشيخ محمود الحفيد على أنها لحظة «كردية» جماعية أو عامة. فقد واجه الشيخ الحفيد نفسه معارضة من شيوخ عشائر كردية كبيرة في كردستان العراق، فضلوا الوقوف مع البريطانيين، او مع الدولة العراقية لاحقا، بدلا من مشاركته حلم الدولة القومية الكردية. وهنا يُطرح سؤال جوهري حول مسألة الوعي الذاتي بالأمة، والسرديات المؤسسة لهذه الأمة، ومديات تبنيها. فسؤال الهوية الكردية، وما يترتب على الإجابة عن هذا السؤال، لم يستطع أن يفرض نفسه بشكل كامل إلا في مرحلة متأخرة جدا عن لحظة السؤال. بمعنى أننا لا نستطيع الحديث عن تاريخ خطي للحركة القومية الكردية، بل تاريخ ظل منفعلا بالتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة الأم نفسها، ومحيطها الإقليمي.
لقد تحددت العلاقات السنية والكردية على المستوى السياسي، بشكل أساسي، من خلال مؤسسة الدولة العراقية التي تشكلت في العام 1921، والنخب السنية المهيمنة عليها. ويمكن أن نرد ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسة: هي أولا محاولة اصطناع «الدولة/ الأمة « التي شكلت النموذج السياسي الأبرز بعد الحرب العامية الاولى، والذي اعتمده المؤسسون الاوائل للدولة العراقية، دون أن تواجه باعتراض بريطاني، وثانيا طبيعة السردية أو الذاكرة التاريخية السنية التي هيمنت على الدولة في العراق ( 1921 – 2003)، وثالثا طبيعة «الهوية الوطنية» القسرية ذات الحمولة القومية العربية، والمؤمنة بوحدة التراب الوطني كمقولة متعالية، والتي اريد لها ان تكون «إدماجية» من الأعلى إلى الأسفل، ومن المركز إلى الهامش، التي اصطنعتها هذه الدولة.
وعلى الرغم من أن هذه السياسات قد اصطدمت بتيار قومي كردي مضاد، أخذ يتبلور بشكل واضح بالموازاة مع مشكلة الموصل( 1918 ـ 1926، ثم خفت قليلا، قبل أن يعاود الصعود مرة أخرى، خاصة بعد فشل تجربة «جمهورية مهاباد». على ان هذا الصدام لم يحاول مطلقا المماهاة بين الدولة العراقية والهوية السنية، ولم يُحوِّل الصراع من صراع كردي مع الدولة، إلى صراع سني كردي.
كانت لحظة الاحتلال البريطاني للعراق هي لحظة التحول بالنسبة لتشكل الهوية القومية الكردية، بعيدا عن العامل الإسلامي. ويمثل محمود الحفيد هذه اللحظة بامتياز، فبين مشاركة الرجل وفرسانه من الكرد القوات العثمانية والمتطوعين الشيعة العرب قتال الجيش البريطاني في معركة الشعيبة في عام 1915
لكن مع حراك هذا التيار، كان ثمة تيار كردي آخر يعمل في سياق الحراك السياسي العراقي، بوصفه هوية وطنية. أو في سياق الحراك الإسلامي الأوسع، الذي يبتعد عادة عن مناقشة مسألة الهوية. ويمكن أن نتحدث هنا عن أربعة اتجاهات أساسية له: اثنان منها سياسية، والاثنان الآخران يعبران عن اتجاه ديني/ اجتماعي، بدأ يأخذ شكلا تنظيميا في مرحلة متأخرة، وهذه الاتجاهات هي: الحزب الشيوعي العراقي، والإخوان المسلمون، والسلفيون، والصوفية.
مع التسعينيات، وتشكيل الإدارة الذاتية للكرد في كردستان العراق، هيمن الخطاب القومي الكردي على الساحة السياسية ؛ حيث تبنى الحزب الشيوعي العراقي، في أيلول 1991 ، فكرة تطوير الحكم الذاتي إلى الفيدرالية، والقبول بتحويل منظمة اقليم كردستان الى حزب شيوعي كردستاني، له استقلالية تامة عن الحزب الأم. وهو ما تحقق في عام 1993. وقد تبنى الإخوان المسلمون الكرد أيضا الفكر القومي، وشكلوا في العام 1994 حزبا إسلاميا بعنوان «الاتحاد الإسلامي الكردستاني»، وهو ما عكس طبيعة التحولات الجذرية التي حدثت في فكر هذه التنظيمات بعد تجربة 1991 وما بعدها. والنظر إلى هوياتها الأيديولوجية بوصفها مجرد هويات فرعية تأتي لاحقة بالهوية القومية، في سياق تراتبيات الهوية.
سنحاول في المقال القادم متابعة طبيعة العلاقات السنية الكردي بعد العام 2003، وصولا إلى إمكانية الحديث عن بلورة رؤية مشتركة يمكنها أن تصحح اختلالات مسار بناء الدولة في عراق اليوم.
يحيى الكبيسي
القدس العربي