مع اقتراب موعد انسحاب القوات القتالية الأميركية من العراق في 31 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، تتزايد التساؤلات بشأن الآثار المترتبة على هذا الانسحاب، وما إذا كان سيوفر مساحة للبلاد لإعادة السيطرة الرسمية على المفاصل الأمنية وإنهاء الذرائع التي تتخذها الفصائل المسلحة الموالية لإيران لاستمرار أنشطتها.
وعلى الرغم من حديث الميليشيات المسلحة في العراق عن أن استمرار أنشطتها مرتبط ببقاء القوات الأميركية في البلاد، فإن قرب موعد انسحابها قاد مسؤولين في تلك الفصائل إلى التشكيك بالخطوة أو التأكيد على أن ما يجري مجرد “خدعة” تمارسها تلك القوات.
ويبدو أن حكاية سلاح الميليشيات في العراق مستمرة، حيث يرى مراقبون أن تلك الجماعات ستستمر بإيجاد الذرائع للإبقاء على السلاح الذي يصنع النفوذ الأمني والسياسي.
مخرجات الاتفاق الاستراتيجي
وتحضر القوات الأميركية منذ عام 2020 لانسحاب قواتها القتالية في البلاد تمهيداً لانسحاب كلي نهاية العام الحالي، خلال الأيام القليلة المقبلة.
وفي سبتمبر (أيلول) 2020 أعلنت القيادة الأميركية أن عديد قواتها سينخفض من 5200 إلى 3000 خلال شهر، فيما يوجد نحو 2500 جندي أميركي في العراق في قاعدتين رئيستين هما “عين الأسد” في محافظة الأنبار و”حرير” في أربيل.
وبحسب بيان لخلية الإعلام الأمني العراقي، فإن “لجنة فنية عسكرية عراقية ضمت مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي ونائب قائد العمليات المشتركة عبد الأمير الشمري، ومعاون رئيس أركان الجيش وعدداً من القادة، أجرت زيارة لقاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار، استمراراً لنتائج الحوار الاستراتيجي ولمتابعة تنفيذ الاتفاق العراقي مع قوات التحالف الدولي لسحب القوات القتالية التابعة لقوات التحالف بشكلٍ كامل من البلاد وبدء عمل المستشارين”.
وتابع البيان أن “اللجنة زارت أماكن جمع التجهيزات والدعم اللوجيستي، كما أجرت اللجنة جولة ميدانية على المناطق التي كانت تشغلها قوات التحالف الدولي، واطلعت على بعض النماذج من الآليات والأجهزة الفنية التي بدأ تسليمها إلى الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب وقيادة قوات شرطة حرس الحدود”.
ويقضي الحوار الاستراتيجي بإنهاء الأدوار القتالية وسحب المقاتلين في القوات الأميركية وإيقاف الضربات الجوية للتحالف الدولي ضد مواقع تنظيم “داعش”، وتحويل مهام التحالف إلى الاستشارة والتدريب وتبادل المعلومات الاستخبارية.
وكان المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة، اللواء يحيى رسول، صرح في وقت سابق بأن “ما يتبقى من مستشارين والذين سيعملون ضمن قواعد عسكرية ستحدد أعدادهم من قبل القيادة العسكرية بحسب الاحتياج، أو اللجنة الفنية التي تباحثت ضمن مخرجات الحوار الاستراتيجي”.
وعلى الرغم من استمرار عمليات الانسحاب، يستمر استهداف الأرتال التابعة للتحالف الدولي، حيث أعلن الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول، عن إحباط محاولة استهداف أرتال الدعم اللوجستي بعبوتين ناسفتين في محافظة بابل.
وكانت المنطقة الخضراء، في 19 ديسمبر، تعرضت لقصف بصاروخي كاتيوشا، وقالت خلية الإعلام الأمني، إن منظومة الدفاع الجوي تمكنت من إبعاد أحد الصواريخ، فيما سقط الآخر في ساحة الاحتفالات مسبباً أضراراً لعجلات مدنية.
الفصائل تشكك
وتشكك الفصائل المسلحة الموالية لإيران بالانسحاب الأميركي من البلاد، حيث يشير قادة ميليشيات رئيسة إلى أن الولايات المتحدة تحاول خداعهم لتسليم سلاحهم.
وكان الأمين العام لميليشيات “النجباء” أكرم الكعبي، قد شكك بالانسحاب الأميركي من العراق، حيث قال، في 10 ديسمبر، خلال اجتماع مع قادة عدد من الفصائل المسلحة إنه لا يصدق الوعد الأمیركي بالانسحاب من البلاد بحلول نهاية الشهر الحالي.
وأكد الكعبي أن سلاح الفصائل سيبقى معها “حتى تسليمه لصاحبه الشرعي والرسمي وهو صاحب العصر والزمان” في إشارة إلى المهدي الإمام الثاني عشر لدى المسلمين الشيعة، وهو ما يعني أن الميليشيات لن تسلم سلاحها حتى لو حصل الانسحاب الأميركي.
وكان زعيم التيار الصدري قد دعا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الأحزاب المسلحة إلى “حل الفصائل أجمع، دفعة واحدة، وتسليم سلاحها كمرحلة أولى إلى الحشد الشعبي، عن طريق قائد القوات المسلحة”.
وواجه أنصار تلك الميليشيات دعوة الصدر بالحديث عن أن الأسلحة لن تُسلم إلا إلى “الإمام المهدي الغائب الذي يظهر في نهاية الزمان”، وفق المذهب الشيعي.
وبالتزامن مع دعوة الصدر تلك، كتب المرشد الإيراني علي الخامنئي على حسابه في “تويتر” “العدو يريدكم أن تسلموا وتغفلوا عن أسلحتكم، بما فيها الطائرات المسيرة والصواريخ لكي يهاجمكم”.
ويعتقد مراقبون أن ما يجري في أوساط الميليشيات الموالية لإيران هي محاولات لإيجاد ذرائع لتبرير بقاء سلاحها، وهو الأمر الذي قد يدفعها إلى تبرير استمرار أنشطتها بحجة “مراقبة الانسحاب”.
ويرى الباحث في الشأن السياسي، هشام الموزاني، أن الفصائل المسلحة ستتعامل مع الانسحاب الأميركي على أنه “خديعة”، مشيراً إلى أنها ستركز على فكرة واحدة لضمان استمرار أنشطتها وتبرير نفوذها الأمني بـ”ضرورة البقاء لمراقبة الانسحاب”.
وعلى الرغم من تشكيك الميليشيات الموالية لإيران بشكل مستمر بالانسحاب الأميركي من البلاد، فإنها “ستحاول تصوير هذا الانسحاب على أنه جرى نتيجة الضغط المستمر التي تمارسه الفصائل عليها”، بحسب الموزاني الذي يلفت إلى أن هذا الأمر سيكسبها مساحة للمناورة في الإبقاء على سلاحها لـ”ضمان إتمام الانسحاب والرقابة عليه”.
ويؤكد الموزاني أن الميليشيات في العراق “باتت تخشى من توجيه ضربات داخلية لها أو تحويلها إلى ورقة تفاوض بالنسبة لإيران، ولذلك فإنها ستتمسك بسلاحها في محاولة لإدخالها كطرف في أي تسويات داخلية أو خارجية”.
مبررات
ويشير إلى عدة مسارات ربما تنتهجها الفصائل المسلحة في الفترة المقبلة لإيجاد الحد الأدنى من مبررات استمرار أنشطتها المسلحة من بينها “التشكيك بالانسحاب، فضلاً عن استخدام ذريعة تحركات تنظيم داعش وعودة نشاطه في مساحات معينة”.
ويعتقد الموزاني أن قيادات التيارات المسلحة الشيعية باتت تلعب مرة أخرى بـ”الورقة الطائفية”، من خلال “توجيهها اتهامات إلى دول خليجية بالتدخل في نتائج الانتخابات الأخيرة، فضلاً عن محاولتها تصوير ما يجري من حديث حول الأغلبية السياسية على أنه استهداف للتوافق الشيعي حصراً”.
وإضافة إلى الورقة الطائفية، يبدو أن الأحداث الأمنية الأخيرة في العراق وتحديداً التفجير الذي جرى في محافظة البصرة باتت “مسارات تستغلها التيارات الولائية للحديث عن ضرورة استمرار نشاطها للحفاظ على الأمن، من خلال طرح فكرة أن كل المساحات التي لا ينشط فيها الحشد تحدث فيها خروقات أمنية”.
ويختم أن الفصائل المسلحة لطالما وجدت الذرائع للإبقاء على سلاحها، حيث أنها استغلت حجة “الدفاع عن المقدسات في سوريا” لإدامة زخم وجودها بعد الانسحاب الأميركي عام 2011.
التصعيد الطائفي
وعلى الرغم من أن بعض الميليشيات المسلحة في العراق تشكلت قبل الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 بدعوى مواجهة نظام صدام حسين آنذاك، فإن غالبيتها تشكلت بعد سقوط النظام.
واستمر تشكيل الميليشيات المسلحة بعد عام 2003، حيث تحظى غالبيتها بدعم إيراني، إلا أن حضور تلك الفصائل تضاءل بعد عمليات عسكرية واسعة قامت بها الحكومة العراقية بمساندة القوات الأميركية عام 2008، أو ما أطلق عليه حينها بـ”صولة الفرسان”.
وانحسر وجود الفصائل الموالية لإيران بين عامي 2008-2011، إلا أنها سرعان ما عادت لتنشط خلال الدورة الثانية لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، خصوصاً مع تصاعد التصعيد الطائفي خلال تلك الفترة، وتوفير المالكي ملاذات لتلك الفصائل.
وبعد سنوات من الملاحقات التي طالت ميليشيات “عصائب أهل الحق”، عادت تلك الجماعة إلى النشاط مرة أخرى بعد الانسحاب الأميركي عام 2011 وتوفير المالكي مقرات لها في العاصمة بغداد تم افتتاحها عام 2013.
وعلى الرغم من فقدان الميليشيات المسلحة الموالية لإيران ذريعة “المقاومة” بعد عام 2011، نتيجة الانسحاب الأميركي من البلاد، فإنها باتت تستثمر في مساحات أخرى لتبرير وجود سلاحها من بينها تصاعد حدة الهجمات التي كان يشنها تنظيم “داعش” و تنظيم “القاعدة”، فضلاً عن دفع الشباب للتطوع للقتال في سوريا تحت ذريعة “حماية المقدسات”، إذ نشطت العديد من الفصائل التي باتت منضوية فيما بعد تحت لواء الحشد الشعبي في تجنيد آلاف الشبان العراقيين للتوجه للقتال في سوريا.
وعلى الرغم من هذا النشاط، فإن النشاط الأكبر لتلك الفصائل جرى بعد احتلال تنظيم “داعش” لثلث الأراضي العراقية في يونيو (حزيران) 2014، حيث عززت المعارك مع التنظيم ذرائع الفصائل المسلحة في الإبقاء على سلاحها في الداخل العراقي، فضلاً عن تأطير نشاطاتها بسياق رسمي يتمثل في هيئة الحشد الشعبي التي تشكلت فيما بعد.
واستثمرت الميليشيات الولائية فتوى “الجهاد الكفائي” التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني بشكل كبير، على الرغم من إعلان غالبية الفصائل ولاءها للمرشد الإيراني علي الخامنئي.
نفوذ الفصائل
وطوال فترة المعارك مع تنظيم “داعش” تضاءل استخدام مصطلح “مقاومة الأميركيين” بشكل كبير، على الرغم من قيادة واشنطن للتحالف الدولي لمحاربة التنظيم في العراق، فإنه عاد للظهور مرة أخرى بعد قصف مخازن سلاح تعود إلى فصائل الحشد الشعبي داخل العاصمة بغداد خلال فترة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي.
ويصف مراقبون فترة حكم عبد المهدي بأنها ربيع نفوذ الفصائل المسلحة في العراق، حيث سيطرت تلك الفصائل على العديد من مفاصل الدولة الاقتصادية والأمنية، إلا أنها عادت لاستخدام التصعيد ضد الولايات المتحدة والحديث بشكل واسع عن “الاحتلال الأميركي” مرة أخرى بعد احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) وإجبار عبد المهدي على الاستقالة.
وتصاعدت العمليات العسكرية بالضد من القواعد التي تضم قوات أميركية بشكل واسع بعد الانتفاضة العراقية، وهو ما أدى في النهاية إلى التصعيد غير المسبوق بين واشنطن وطهران على خلفية اغتيال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني.
وعلى الرغم من كل ذلك، تواجه الفصائل الموالية لإيران هذه المرة معضلة كبيرة في تبرير وجود سلاحها وأنشطتها، خصوصاً مع إعلان القوات الأميركية سحب قواتها القتالية من العراق.
لحظة الهزيمة الكبرى
ولعل معضلة الفصائل الولائية باتت أكبر بعد خسارتها الانتخابات الأخيرة، وهو الأمر الذي ربما سيعني نهاية نفوذها السياسي والأمني في البلاد، ما دفعها إلى وصف الانسحاب الأميركي بأنه “خدعة”.
في المقابل، يعتقد رئيس “المركز العراقي الأسترالي” للأبحاث أحمد الياسري، أن إعلان القوات الأميركية سحب القوات القتالية مثلت “لحظة هزيمة كبيرة” بالنسبة للفصائل المسلحة الموالية لإيران، لأنها “أسقطت مبررات بقاء سلاح الفصائل”.
ويضيف في حديث لـ”اندبندنت عربية” أن “واشنطن باتت تدرك أن بقاءها كقوة دفاعية لمساعدة العراق يطرح إلى الشارع على أنها قوة محتلة ويعطي مبررات للفصائل بالإبقاء على سلاحها”.
ويلفت الياسري، إلى أن هذه المرحلة تمثل “بداية الانهيار الكبير للفصائل المسلحة، ابتداء من انتفاضة أكتوبر وصولاً إلى خسارتها الانتخابات والانسحاب الأميركي”، مبيناً أن هذه العوامل “تدفع الفصائل للشعور بالذعر”.
ويشير الياسري إلى أن خسارة التيارات الموالية لإيران الانتخابات الأخيرة، أدت بشكل مباشر إلى خسارتها الغطاء السياسي الذي يحمي استمرار أنشطتها المسلحة، إلا أن ارتباط تلك الميليشيات بمنظومة الحرس الثوري يخلق المنافذ لاستمرارها.
وبشأن إمكانية أن يؤدي توصل طهران لاتفاق جديد حول برنامجها النووي إلى التخلي عن الأذرع المسلحة في العراق، يعتقد الياسري أن هذا الأمر لن يدفع طهران للتخلي عن الميليشيات في العراق، لكنه ربما يؤدي إلى فرض التهدئة على تلك الميليشيات”.
ويؤكد الياسري، أن قرب موعد انسحاب القوات القتالية الأميركية “ربما يحفز الخلايا المرتبطة بتنظيم داعش، وهو ما يجري خلال الفترة الأخيرة”.
ويتابع أن، استعادة بعض خلايا التنظيم أنشطتها في العراق “سيوفر ذريعة إضافية للفصائل الموالية لإيران لتبرير وجود سلاحها”.
ويختم أن “انسحاب القوات الأميركية يمثل حدثاً إيجابياً إذا أحسنت الحكومة العراقية استغلاله، خصوصاً كونه يقضي على ذرائع حمل السلاح بالنسبة للفصائل، فضلاً عن أن العراق لا يحتاج قوة قتالية بقدر احتياجه لدعم لوجيستي وتسليح ودعم دبلوماسي من واشنطن”.
اندبندت عربي