لا يكاد يمر شهر دون أن تشن دولة الاحتلال الإسرائيلي عدواناً جوياً وضربات صاروخية في عمق الأراضي السورية، وحدث مراراً أن شهد شهر واحد سلسلة اعتداءات متكررة، شملت مختلف المناطق السورية من العاصمة دمشق وريفها إلى محافظة دير الزور على الحدود مع العراق، مروراً بالمنطقة الوسطى ومحافظة حمص، وصولاً إلى الساحل السوري وريف اللاذقية ومينائها. وخلال هذا العام الذي ينصرم تضاعفت العمليات الإسرائيلية بالمقارنة مع العام 2020، كما اتسع نطاقها وتنوعت أهدافها.
وإذ لا تتبنى دولة الاحتلال هذه الاعتداءات بصورة رسمية أو علنية، فإنها في الآن ذاته لا تخفي استراتيجيتها الهادفة إلى إضعاف الوجود العسكري الإيراني في سوريا، سواء تمثل مباشرة في وحدات الحرس الثوري أو بصفة غير مباشرة عن طريق حزب الله اللبناني والميليشيات الأخرى العراقية وسواها التي تتبع طهران وتدين بالولاء العقائدي والعسكري والسياسي للوالي الفقيه. الثابت في المقابل أن ردود النظام السوري على الضربات الإسرائيلية يندر أن تتخذ وجهة عسكرية، فتقتصر عادة على الإدانات اللفظية والوعد بالرد في الوقت والمكان المناسبين اللذين يختارهما النظام.
ورغم أن موسكو زودت دفاعات النظام الجوية ببطاريات عالية التطور مثل منظومتَي S-300 وS-40 وذلك منذ عام 2018، إلا أن استخدام هذه الأسلحة مرهون بإذن روسي أولاً، كما أنه مكبل بقرار سياسي من النظام السوري ذاته يقضي بعدم الذهاب في التصعيد مع دولة الاحتلال إلى درجة المواجهة الأوسع، فالنظام يفضّل قصف المخيمات والمشافي والمخابز والمدارس داخل سوريا على التورط في أي اشتباكات نوعية مع السلاح الإسرائيلي.
وكان الاستهداف الإسرائيلي لميناء اللاذقية مرتين خلال الشهر الحالي بمثابة أحدث البراهين على التفاهم بين الكرملين والنظام السوري بصدد الامتناع عن أي توسيع للمجابهة مع دولة الاحتلال
حتى إذا وصلت الضربات إلى عقر دار السلطة ولم تقتصر على تدمير حاويات الأسلحة والذخائر الإيرانية، بل شملت أيضاً حاويات التهريب والمخدرات ومصالح شبكات الفساد المرتبطة بالنظام. فمن المعروف أن القاعدة الروسية في مطار حميميم تبعد أقل من 20 كم عن ميناء اللاذقية، فلا النظام أطلق صاروخاً متطوراً، ولا الرادارات الروسية نبهت إلى ما رصدته أو سبق أن علمت به من ضربات إسرائيلية.
وفي الآن ذاته لا يخفى على طهران، ولا على حزب الله والميليشيات الموالية لإيران في سوريا، أن توافقاً روسياً ـ إسرائيلياً منهجياً يحكم استراتيجية الضربات الإسرائيلية المتكررة في العمق السوري، لأنه من جهة أولى يقلّص نفوذ إيران العسكري والسياسي والعقائدي لصالح انفراد روسي أكبر بالهيمنة والسيطرة والتحكم، كما أنه من جهة ثانية يفي بتعهدات موسكو حول ضمان أمن دولة الاحتلال من طرف الوجود الإيراني في سوريا، وهذا التزام قطعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه خلال لقاءاته العديدة مع قادة الاحتلال.
وإلى جانب مآسي الشعب السوري الكثيرة الأليمة، ثمة هذه المعادلة المتكاملة للطيران الإسرائيلي يسرح في سماء الساحل السوري، فلا تقابله إلا طائرات النظام والقاذفات الروسية تعربد فوق مخيمات النازحين في إدلب.
القدس العربي