كلمة أوكرانيا تعني الارض البعيدة، أو على الأطراف، لكنها اليوم باتت في مركز العقل السياسي الروسي، الذي لا يعترف بشيء اسمه أوكرانيا. في آخر مقال للرئيس الروسي بوتين كتب، لا يوجد شيء اسمه أوكرانيا، وأنها جزء من تاريخ روسيا الاتحادية، ولعل أكثر ما يتذكره الروس عن أوكرانيا أن هتلر عبرها للهجوم على بلدهم، وهنالك حصلت معركة ستالينغراد على بعد 1000 كم من كييف. فهل هنالك انفراج في التوتر القائم على الحدود الروسية الأوكرانية؟ أم أن الخوف من إقدام روسيا على الغزو ما زال قائما؟
يتفق بعض المحللين العسكريين على أن السيناريو الذي يمكن أن يحصل في حالة قرار الغزو، هو الهجوم من أقليم دونباس الذي قرابة 50% من سكانه يحملون الجنسية الروسية، على عدة جبهات وصولا إلى نهر دنيبر، وهكذا يتم تقسيم أوكرانيا وتصبح أمرا واقعا، كما حصل في شبه جزيرة القرم. في حين أن خبراء السياسة يستبعدون فرضية الغزو، ويرون في الحشود الروسية على الحدود مع أوكرانيا هي لجس نبض الغرب، ومعرفة مدى أهمية هذا البلد لهم. فالرئيس الروسي بوتين حريص على جعلها خطا أحمر، ومنع الغرب من ضمها إلى حلف الناتو، رغم أن الواقع العملي لهذه الدولة لا يسمح بضمها إلى حلف شمال الأطلسي، لأن المادة السادسة للحلف تشترط في حالة الانضمام أن تكون الدولة كاملة. بينما أوكرانيا فيها أقليم دونباس، ودونيسك، ولوكانسك، وشبه جزيرة القرم كلها خارج سيطرة الدولة أو مُحتلة. كما أن هناك تصعيدا سياسيا وعسكريا مع روسيا، ما يعيقها عن الانضمام إلى الناتو. إذن ما الذي يريده الرئيس بوتين من وراء حشد حوالي 100 ألف جندي روسي على الحدود مع أوكرانيا مدعومة بالدبابات والمدفعية؟
المُراد الرئيسي لبوتين هو أن يؤخذ على محمل الجد كفاعل في السياسة الدولية، وأن يكون له كلام مسموع على غرار الولايات المتحدة
إن المُراد الرئيسي لبوتين هو أن يؤخذ على محمل الجد كفاعل في السياسة الدولية، وأن يكون له كلام مسموع على غرار الولايات المتحدة، كما أنه يحدد هدفا آخر له حين يقول (في الحوار مع الولايات المتحدة وحلفائها، سنصر على عقد اتفاقيات محددة، من شأنها منع حلف الناتو من التوسع شرقا، ونشر أنظمة أسلحة تهددنا بالقرب من الأراضي الروسية). وهو يعتقد إذا ما انصاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى عقد هذه الاتفاقيات معه، فإنه سيكون قد ساهم بشكل فاعل في وضع أسس النظام الدولي الجديد القائم على التعددية. كما أنه يعرف جيدا أن الحرب ليست لعبة، لكنه يتخذ من التحشيد على حدود أوكرانيا مناورة سياسية لرسم مناطق نفوذ جديدة قديمة. فهو لا يريد الغزو من أجل استعراض القوة فقط. هو أراد أن تكون هناك مشكلة لدى أوكرانيا بحيث تمنعها من الانضمام إلى حلف الناتو، وحصل على ما يريد الان. أما الحشود العسكرية فهي رسالة سياسية لواشنطن والغرب عموما، من أننا موجودون، خاصة أن موسكو تعرف جيدا أن التصعيد الأمريكي ضدها غير وارد الآن، وليس أولوية لدى واشنطن، لأنها ترغب بالتركيز على الصين أكثر، فهل فهمت واشنطن فحوى الرسالة؟ وماذا بيدها والغرب فعله من أجل أوكرانيا؟
في الوقت الذي يطالب فيه بوتين بعدم ضم أوكرانيا إلى الناتو، يكتفي جو بايدن بالتهديد بفرض عقوبات اقتصادية ومالية صارمة على موسكو، بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي. صحيح أنه مهتم جدا بإعطاء انطباع أنه مختلف عن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في التعامل بحزم وجدية مع الجانب الروسي. لكنه يعلم جيدا أن المؤسسات الأمريكية ليست موحدة الرأي حول المدى التصعيدي، الذي يجب أن تذهب اليه واشنطن في مسألة الدفاع عن أوكرانيا وإبعاد الخطر الروسي عنها، كذلك هناك محظور يتفق عليه الجميع في أمريكا، وهو عدم التصعيد ضد روسيا، كي لا يكون ذلك سببا يدفعها إلى الاتفاق والتنسيق السياسي والعسكري مع الصين، لذلك هناك رغبة بالتهدئة من قبل واشنطن، وهناك اعتقاد لدى بايدن بأن الدبلوماسية يمكن أن تأتي بحلول سياسية معقولة للأزمة. كما أن تقارير الاستخبارات الأمريكية تطمئن بايدن بأن الحشود الروسية حول أوكرانيا هي رسالة سياسية للجانب الأمريكي، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هناك مشكلات داخلية أمريكية أيضا مثل، التضخم وغيرها، التي يواجهها الرئيس بايدن وبسببها لا يريد فتح جبهات جديدة مع روسيا في هذا التوقيت، يصبح من المفهوم أن موسكو تستغل هذا الوضع للحصول على مكاسب سياسية. لكن السؤال المهم هو، إذا كان الواقع العملي لا يسمح بضم أوكرانيا إلى الناتو، والولايات المتحدة والغرب ليس لديهم نية في فعل ذلك، إذن لماذا لا يوجد وضوح كاف بالقول لروسيا بعدم الرغبة في ضم أوكرانيا؟
من سمع قول الرئيس بوتين من أن أوكرانيا خط أحمر، والرد الذي جاء سريعا من الرئيس بايدن (أنا لا أقبل خطا أحمر لأي شخص) يصبح مفهوما لديه أن إدارة بايدن إذا قالت بصراحة ووضوح، إننا لا نريد ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، فإن ذلك سوف يُقرأ على أنه تنازل لموسكو. كما يأتي في السياق نفسه حديث مستشار الأمن القومي الأمريكي، الذي قال إن بايدن لن يقبل طلب بوتين بأن يكون هنالك تعهد أمريكي وأوروبي خطي بعدم ضم أوكرانيا إلى الناتو.
هذه هي طبيعة العلاقات بين الدول العظمى، حيث هنالك حسابات حتى في أبسط الأمور، لذلك وجدنا أنه حتى بعد القمة الافتراضية بين الزعيمين بوتين وبايدن، لم تكن هناك طمأنة بأن الأمور قد سارت نحو الحل، حيث أكد بوتين بعدها مباشرة أن من حق بلاده فعل كل شيء دفاعا عن أمنها القومي. السؤال الآخر هو أين أوكرانيا في وسط كل هذه الأزمة؟ ما تقوم به أوكرانيا الآن هو اللعب في الساحة السياسية، مستغلة التعاطف الغربي والأمريكي معها. هي تشعر بأنها مهمة جدا لأن ضمها إلى الناتو، وهو مستبعد، يمكن صواريخ حلف الناتو من أن تصل إلى موسكو خلال خمس دقائق أو أقل من ذلك، ما يسقط أمكانية الرد الروسي من يد صانع القرار في موسكو. كما أنها تلعب دورا كبيرا في الداخل الأمريكي، من خلال العديد من شركات العلاقات العامة، للضغط على إدارة بايدن واستغلال المرحلة الراهنة في جعل القضية الأوكرانية موضوعا داخليا في الولايات المتحدة، كذلك هي ردت على الحشود الروسية بمناورات عسكرية في المنطقة الحدودية، واستعرض حلف الناتو قوته في مناورات في البحر الأسود ومنطقة البلطيق، كمحاولة لتصعيد مقابل، لكن الأكيد أن انزلاق الوضع إلى حرب بين روسيا وأوكرانيا لن تدخل فيها الولايات المتحدة إطلاقا. ربما ستكون هنالك مساعدات عسكرية، لكن المؤكد أن احتلالها من قبل الروس سيكون عملية سهلة.
لقد أختبر بوتين تماسك الغرب في غزوة شبه جزيرة القرم، وهو على يقين تام من أن أي عمل عسكري من قبله ضد أوكرانيا سوف يوحّد الغرب رمزيا ومعنويا لا أكثر، لذلك هو يلعب لعبة الحصول على مكاسب الآن.
القدس العربي