إسرائيل تستثمر في التحولات الإقليمية لتعظيم مصالحها في المنطقة العربية

إسرائيل تستثمر في التحولات الإقليمية لتعظيم مصالحها في المنطقة العربية

تعكس التحركات الراهنة للحكومة الإسرائيلية في المنطقة أن تل أبيب تحولت إلى رقم صعب، حيث نجحت في استغلال التغيرات الإقليمية لتوسيع دائرة مصالحها، لكن ما يسترعي الانتباه أن الحكومة الجديدة برئاسة نفتالي بينيت تسعى لتلافي الاختلالات التي عرفتها سياسة سلفه بنيامين نتنياهو من خلال التطبيع عبر التوجه نحو توسيع دائرة العلاقات مع دول وأطراف عربية تقع في نطاق مواجهتها.

القاهرة – يستطيع المتابع لشكل الحركة السياسية لإسرائيل في المنطقة مؤخرا استشفاف الكثير من الدروس عند التدقيق في كم وكيف الزيارات واللقاءات السرية والمعلنة التي عقدها مسؤولون فيها مع نظرائهم في دول عربية، ويكتشف أنها قطعت شوطا كبيرا في كسر العديد من الثوابت التي حكمتها على مدار عقود، مستفيدة من تحولات إقليمية متلاحقة جعلتها رقما مهما في المعادلتين السياسية والعسكرية.

اكتسبت الدبلوماسية زخمها من النشاط المكثف الذي راكمته قيادات إسرائيل لتطوير علاقاتها في فضاءات مختلفة وخلق شبكة قوية من المصالح مع دول متباينة، فشل العرب في مقاومتها بخطاب سياسي زاعق وتقليدي، مستغلة التفكك الذي أصاب الحد الأدنى من العمل العربي المشترك، لتتحول إسرائيل من خانة الصراع إلى قبلة للسلام.

يلاحظ المدقق في سياسة إسرائيل منذ مجيء الحكومة الجديدة برئاسة نفتالي بينيت في يونيو الماضي، أنها تخلصت من إرث ثقيل لرئيسها السابق بنيامين نتنياهو الذي عمد إلى توسيع أطر العلاقات مع دول عربية لا تقع ضمن نطاق محور المواجهة.

بدأ بينيت يعدّل الخلل في هذا التوجه ويسير بصورة ممنهجة في تصوراته كي تشمل دول المواجهة المباشرة وما دونها، وظهرت تطورات إيجابية متزامنة على صعيد العلاقات مع دول خليجية، وكل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.

تستهدف هذه التحركات تلاشي الأخطاء التي ترتبت على التوجه المتسارع نحو تطوير العلاقات في وقت واحد مع دول قريبة من إسرائيل وبعيدة عنها، فقد بدا الميل نحو الدول البعيدة (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) يرمي إلى التأثير على مركزية الدول القريبة التي عقدت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وربما إزعاجها سياسيا، وهو ما تحاول إسرائيل ضبطه بالعودة إلى التنسيق مع كل من القاهرة وعمّان ورام الله.

لا تضع الدول العربية التي تجاوبت في مسألة التطبيع مع إسرائيل القضية الفلسطينية في حسبانها من زاوية أولوية السعي لتسويتها، لكنها لا تقبل أن يمثل توجهها عائقا لعدم التسوية، وتحاول فصله عنها كأداة سياسية منبثقة من حسابات المصالح المشتركة بين الطرفين وتخفيض مستوى استخدامه بأنه موجه نحو جهة معينة، بما فيها إيران.

تريد الدول المؤيدة للتطبيع التأقلم مع متغيرات إقليمية ودولية تستوجب التفكير خارج الصندوق، فالامتناع عن التطبيع أو إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل لن يعود بفائدة قوية على الفلسطينيين، كما إن إسرائيل قاسما معنويا مهما على المسرح العالمي ويتجاوز نفوذها المعروف التأثير في صناعة القرار بالولايات المتحدة، حيث تملك قدرة على تقديم حوافز لبعض الدول والمساعدة في تخفيف الضغوط عليها.

أظهر التطور المفاجئ في ملف التطبيع مع السودان العام الماضي جانبا من البرغماتية التي دفعت قيادته العسكرية إلى القبول به، على أمل الخروج من نفق مظلم دخلته الخرطوم لمدة سنوات طويلة وقادها إلى مشكلات معقدة مع واشنطن.

فرض تعدد المؤهلات السياسية والاقتصادية لدى إسرائيل وتراجع الكتلة العربية الصلبة طقوسه على التفكير في التطبيع من منطلق المصالح وليس الأيديولوجيات، وهو حصيلة سنوات طويلة من التحركات الدبلوماسية قامت بها تل أبيب وساعدتها على أن تضع قدميها في أماكن حيوية ذات تأثير لها وجاذبية عند الآخرين.

لم تكتف دبلوماسية إسرائيل بتعمق علاقتها الرأسية مع بعض الدول، لكنها تمضي في العمل بشكل أفقي وتوازن بين المصالح على الجبهتين العربيتين، القريبة والبعيدة، المباشرة وغير المباشرة، فلم تستثمر تل أبيب فقط في دول التطبيع الجديدة بل حرصت على عدم تجاهل دول التطبيع القديمة، الأمر الذي عبرت عنه أخيرا لقاءات وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس مع كل من العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

وسبق اللقاءان زيارة مهمة قام بها بينيت لمدينة شرم الشيخ في سبتمبر الماضي واجتماعه مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ثم زيارة لوزير الخارجية يائير لبيد للقاهرة في ديسمبر المنقضي، ما أسهم في منع تصاعد الخلل في العلاقات المشتركة والسماح بإطلاق المجال لزيادة أطر التعاون الأمني والاقتصادي بينهما.

الأهم أن تل أبيب ضمنت تخفيف حدة مناوشات القاهرة التي يمكن أن تنجم عن اتجاه الأولى نحو توثيق العلاقات مع الدول التي ركبت قطار التطبيع مؤخرا، وهو النهج الذي سلكه نتنياهو وأسهم بدوره في إفشال صفقة القرن التي رعاها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وأفضت دروسها إلى تعديل في حركة إسرائيل الدبلوماسية.

تخفف اللقاءات السياسية من حجم المنغصات التي قد تترتب على ميل إسرائيل نحو زيادة جرعة التطبيع مع دول أخرى، وتتحلل الدول التي وقع عليها الدور من الحرج السياسي العربي أو اتهامها بالسعي حثيثا نحو إسرائيل، والبعد عن التزاماتها التاريخية حيال القضية الفلسطينية الأم وما يؤدي إليه ذلك من تآكل في مفاصل القضية.

جاء ضبط الدفة الإسرائيلية من رحم القدرة على إدارة علاقات متوازنة مع الكثير من الدول العربية، ورفع مستوى المصالح مع كل منها على حدة في صورة أشبه بخلق منافسة خفية بينها تمنح إسرائيل فرصة لتسيير علاقاتها بتناغم مع الجميع من خلال الفوائد المشتركة، وهي دبلوماسية تساعد على جني إسرائيل ثمارا كثيرة في المنطقة، قد تجعلها عنوانا يقصده البعض للسلام بدلا من الحرب دون أن تضطر إلى تقديم تنازلات في القضية الأم، التي جرى تفريغ جزء كبير من مضمونها الاستراتيجي.

من رقم سلبي إلى إيجابي
الحكومة الجديدة برئاسة نفتالي بينيت تخلصت من إرث ثقيل لرئيسها السابق بنيامين نتنياهو، الذي عمد إلى توسيع أطر العلاقات مع دول عربية لا تقع ضمن نطاق محور المواجهة

هناك عدد من المجالات الآن تتحرك فيها إسرائيل أسهمت في تحويلها من رقم سلبي إلى إيجابي، أبرزها أنها متحكم أساسي في ترمومتر دور مصر في القضية الفلسطينية الذي تغيرت طبيعته مؤخرا، ليس هذا مجال سرد الأسباب التي أدت إلى ذلك، فالوساطة بين الفلسطينيين أنفسهم أو بينهم وبين إسرائيل باتت من أهم مداخل مصر الإقليمية لممارسة نشاط سياسي مقبول من الأطراف الفاعلة.

لن يكون هذا النشاط مقبولا وملموسا ما لم تبادر إسرائيل بالتجاوب معه، أو على الأقل لا تتسبب في تخريبه، فكل الملفات التي تتحرك فيها القاهرة سوف تصبح عديمة الفائدة إذا لم تتفاعل معها الحكومة الإسرائيلية بجدية، بدءا من تفكيك الحصار على قطاع غزة وحتى التوصل إلى تهدئة شاملة مع حماس، مرورا بصفقة الأسرى وإعادة إعمار غزة، وما إلى ذلك من حزمة قضايا تنخرط فيها مصر وتتعلق بالقطاع تحديدا.

تيقنت القاهرة أن مفاتيح غزة التي تمثل عنصرا حيويا لدورها تقع في قبضة إسرائيل، والتي تعمل على توظيفها بصورة توفر لها درجة دافئة من العلاقات مع مصر، وتستثمرها أحيانا في انفتاحها على دول عربية أخرى، فعندما تتعاون إسرائيل مع مصر وتصبح قريبة منها وتظهر كأنها حريصة على التهدئة في المنطقة، سوف تخفف عن كاهلها الضغوط السياسية المتوقعة جراء انفتاحها على دول عربية أخرى.

تفسر هذه الزاوية أيضا التحسن الظاهر في علاقات إسرائيل مع الأردن الذي أبدت حكومة بينيت حرصها على عدم تغيير طبيعة العلاقة بينه وبين الأماكن المقدسة في الأراضي المحتلة، والتي ظهرت مناوشات بشأنها خلال عهد نتنياهو الذي ألمحت إليه أصابع اتهام حول مسؤوليته عن محاولة انقلاب فاشلة على الملك عبدالله العام الماضي، ما أفضى إلى تحول سلبي في شكل العلاقة مع الأردن.

تعلم حكومة إسرائيل الراهنة مركزية الدور الأردني ويعمل رئيسها على عدم تهميشه، للبعد عما يمكن أن يؤدي إليه من متاعب وخلط لأوراق يريد ترتيبها بصورة تمكنه من أن تكون لإسرائيل اليد الطولى سياسيا في المنطقة، ففتح جبهات توتر مع عمّان ستكون له تداعيات على نشاط إسرائيل الدبلوماسي مع بعض الدول العربية.

فلن تقبل بعض الدول الخليجية الذهاب بعيدا في تطوير العلاقات مع إسرائيل وهي على خلاف حاد مع الأردن أو مصر، كذلك لن تقبل الدخول معها في تعاون أو تنسيق حيال الموقف من إيران، وهاتين الدولتين على خلاف حاد مع إسرائيل.

قام بينيت بدبلوماسية كبيرة مع دول التطبيع القديم ليضرب بها مجموعة من العصافير السياسية، فالسعي نحو ترطيب الأجواء معها يخفف عنه عبء تفجير أزمات غير مطلوبة في الوقت الراهن، وقد تجدد جراحا التأم جزء منها، وتيقن من صعوبة التوسع في المنطقة وخلافاتها لا تزال متجذرة في وجدان دول وقّعت اتفاقيات سلام.

يساعد هذا الاستنتاج على فهم التحول الدبلوماسي الذي قامت به حكومة بينيت تجاه الرئيس محمود عباس، حيث تأكدت أن عملية عزله سياسيا التي تبناها نتنياهو لن تكون مثمرة الفترة المقبلة، ومن الضروري تليين العلاقات معه لمنع تفاقم الخشونة في الأراضي المحتلة، والإيحاء بأن إسرائيل غير رافضة لمبدأ السلام.

لذلك عليها أن تظهر تجاوبا رمزيا مفيدا مع عباس، فهي ليست مستعدة للدخول في مفاوضات جادة أو عملية سياسية تذكر بفكرة الدولة الفلسطينية المنسية، وهو بحاجة إلى طوق للنجاة من الضغوط التي تلاحقه داخليا.

وشعرت إسرائيل بقدرتها على مد يدها لتشير إلى أنها لن تصبح رهينة لابتزاز حماس في ملف التهدئة والأسرى، بمعنى أن التقارب مع أبومازن لا يرمي إلى إنقاذ الرجل من ورطته، لكن لأجل الاستفادة منه في دعم حركتها الدبلوماسية في المنطقة العربية.

أجادت إسرائيل توظيف الأوراق التي بحوزتها، ونجحت في استثمار الأجواء الإقليمية القاتمة لصالحها، وتمكنت من تحقيق قفزات دبلوماسية عديدة أسهمت في أن تتحول إلى بؤرة حيوية في الحركة السياسية بالمنطقة، ما ساعدها على إعلان التصدي والتحدي لإيران التي توسع نفوذها عبر أذرعها الميليشياوية التي تهدد أمن المنطقة.

بعيدا عن توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران من عدمه، فقد أدت تصرفات طهران السلبية إلى تحويلها إلى عدو سافر في المنطقة، ولم يعد كثيرون يتحدثون عن إسرائيل أو احتلالها لأراض عربية، فالغالبية تتحدث عن هيمنة وغطرسة وتغول إيران والمخاوف الناجمة عن قرب امتلاكها للقنبلة النووية.

عملت إسرائيل سنوات طويلة للوصول إلى اللحظة التي تتحول فيها إلى مركز جذب ناعم للكثير من الدول العربية، وتتغير فيها توازنات المنطقة بالطريقة التي تؤدي إلى تحسين علاقتها مع جهات كانت تعتبرها عدوا لها، ولن تفرط في هذه النتيجة بسهولة وستدعمها بتكثيف حركتها الدبلوماسية، باعتبارها آلية مركزية تساعدها على تعزيز نفوذها والحفاظ على مصالحها دون اللجوء إلى السلاح.

العرب