يتوقف المؤّرخ الباكستاني أديب خالد في كتابه الصادر حديثاً «آسيا الوسطى. تاريخ جديد لها من الفتوحات الإمبراطورية إلى حاضرنا» (منشورات برينستون 2021) عند الفيلم الكازاخستاني «أرض الآباء» الصادر منتصف القرن الماضي، والذي كتب له السيناريو أحد أبرز الشعراء والأدباء الكازاخ المعاصرين، انما باللغة الروسية، أولجاس سليمنوف والذي أخرجه شاكن أيمنوف، من رموز الرعيل السينمائي الأول في جمهورية كازاخستان السوفياتية.
يروي الفيلم قصة صبي ابن أربعة عشر عاماً يدعى بيان. يسافر رفقة جدّه في الصيف الأول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية للبحث عن رفات والده الذي قُتِل على جبهة لينينغراد. يريد الجدّ أن يدفن ابنه في بلاده السهوبية وبمراعاة تقاليد أسلافه، ثم يتبين أنّ ابنه دفن في مقبرة جماعية تضمه إلى جنود دافعوا عن «الوطن السوفياتي» من كل القوميات. يدرك بيان الصبي اليافع، بأسرع من جدّه، أنّ لا وجاهة لنقل رفات والده من هذه المقبرة الجماعية، وأن دماء والده على جبهة لينينغراد تجعل من لينينغراد وكل البلاد السوفياتية وطناً له.
ينبهنا المؤرخ خالد، وهو مرجع لا غنى عنه عند طرق مآلات آسيا الوسطى التاريخية، أن هذا الفيلم أدغم وقتها بين زاويتي قراءة له.
فمن جهة، يجري إبراز الاختلاف الجيلي، بين الجد المتعلق بالماضي ما قبل السوفياتي، والذي يريد مراعاة الدين والتقاليد في دفن نجله، وابنه الجندي الذي ضحى بحياته في سبيل الإتحاد السوفياتي، وحفيده بيان المواطن السوفياتي النموذجي الذي يمثّل المستقبل.
لكن من جهة ثانية، يظهر الفيلم، وهو ما تحسست عليه المؤسسة الرسمية آنذاك، المسافة الكبيرة بين مقولتين سادتا المرحلة السوفياتية. واحدة تحتفي بالاتحاد بين الأحرار والمتساوين من جميع القوميات السوفياتية، وثانية تميز الروس بوصفهم الأوائل بين هؤلاء المتساوين. ما ارتبط الى حد كبير بهيمنة اللغة الروسية. فليس على الروس تعلم لغات الآخرين وانما على الآخرين تعلم لغتهم. مثلما يرتبط الأمر أيضا بالاعلاء من قيمة الفاتورة التي يدفعها الروس الإثنيون في الحرب العالمية مقارنة بالقوميات الأخرى.
والاتحاد السوفياتي على ما يعيد التنبيه عليه خالد كان دولة لا يحيل اسمها لا إلى قوم بعينه ولا إلى تراب بعينه، وبالرغم من وطأة «الروسنة» على شعوب آسيا الوسطى السوفياتية، فقد انخرطت شعوب آسيا الوسطى في الثقافة السوفياتية المشتركة إلى حد كبير، ولم يصادق التاريخ على كل من توقع، كحال المؤرخة الفرنسية إيلين كارير دونكوس في السبعينيات، أن تنفجر أزمة الاتحاد السوفياتي من هذه الجمهوريات المسلمة بالذات. ولا الثورة الإيرانية ولا حرب أفغانستان أنضجتا مساراً كهذا. بالعكس. معظم الذين قاتلوا في الجيش الأحمر السوفياتي أتوا من بلدان آسيا الوسطى، والحرب لم تكن بالمطلق شعبية في كل الاتحاد، وليس هناك تميز للجمهوريات ذات الأكثرية المسلمة في هذا الجانب. هذه البلدان لم تسع للانفصال عن الاتحاد السوفياتي. استقلالها حدث نتيجة أن الجمهوريات «المسيحية» في هذا الاتحاد هي التي قررت فرط عقده.
يجمع كتاب خالد حول آسيا الوسطى بين الجمهوريات التركوفونية السوفياتية السابقة فيها وبين سنجان أو شينجاينغ الصينية، أي تركستان الشرقية. مثلما يميز بين التركستان الغربية، أي بلاد ما وراء نهر جيحون، أمو داريا، وهي أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان، وبين بلاد القرقيز والكازاخ الأكثر انتماء إلى حضارة الشعوب الرحّل السهبية، شمال نهر سيحون، سير داريا.
كانت الكزخنة، أي رفع نسبة الكازاخيين من عموم الكازاخستانيين، هي الشغل الشاغل لنظام الحكم الذي قاده نور سلطان نزاربييف
هذه القسمة ليست فقط جغرافية، أو متصلة فقط بين المجتمعات الزراعية في تركستان الغربية وبين حضارة الترحال السهبية في حال كازاخستان، بل أنها أيضا تميز بين مآلات الإصلاح الديني الاسلامي في تلك المناطق. بخلاف ما كان عليه الحال جنوب نهر سيحون، حيث لزم أن يخوض التجديديون في الإصلاح الفقهي والديني معركة مع العلماء المحافظين، فان «الجديدية» – وقد أفرد خالد للجديدية في آسيا الوسطى كتابا أساسيا نهاية التسعينيات – في كازاخستان انتشرت من دون أن تكون هناك أساساً طبقة علمائية تقف في وجهها، إنما كان عليها في مقابل أن تتواجه مع الهيمنة الثقافية للشعراء الرحل، غنائيي الملاحم الشعبية، المعروفين تحت اسم «الآقين».
فهؤلاء كانوا يشددون على أن الاستتباع لروسيا كان سببه سوء الحكام وليس تأخر مجتمع الكازاخ، وأن الرد على الروسنة يكون بالاستمرار في البداوة ورفع الحياة البدوية إلى مثال ثقافي أخلاقي أعلى، وكانت ملاحمهم تنصب على سير الانتساب لسلالات المغول وفتوحاتهم. في المقابل، ناضل الجديديّون الكازاخ من أجل منظار مختلف. منظار يقول بأن التوطن والفلاحة هو ما ينبغي الحث عليه في مواجهة توطن الروس والقوزاق في بلادهم. وأن الانتساب الحضاري ينبغي ان يكون لأسرة الشعوب التركية وليس للمغول. بالتوازي، اعتبرت هذه النخبة «الجديدية» التي تشكلت حولها الفكرة القومية الكازاخية مطلع القرن العشرين أن الروسنة سيف ذو حدين. ينبغي حماية شعب الكازاخ من الانمحاء داخل الإمبراطورية، ومن أن يصبح أقلية ديموغرافية في مواطنه، انما ينبغي الاقرار بأن آفاق التحديث لم تكن متاحة إلا من خلال هذه الإمبراطورية.
يختلف بحث العلاقة بروسيا في كازاخستان عنه في جمهوريات آسيا الوسطى انطلاقاً من هذه الخلفية التاريخية الثقافية. بيد أن المسألة الديموغرافية هي التي هيمنت على التفكير بعد زوال الاتحاد السوفياتي. يومها كان 38 في المّئة من سكان كازاخستان من الروس. تراجعت النسبة الى دون الثلاثين بالمئة بعد عشر سنوات، وإلى عشرين بالمئة اليوم، نتيجة هجرة الروس منها الى روسيا. كذلك سمحت ألمانيا للمليون ألماني كازاخستاني، وهم في الأصل من ألمان حوض الفولغا نقلوا ابان الحرب العالمية الى كازاخستان، بأن يهاجروا إليها وينالوا جنسيتها انطلاقا من رابطة الدم. في المقابل، كانت الكزخنة، أي رفع نسبة الكازاخيين من عموم الكازاخستانيين، هي الشغل الشاغل لنظام الحكم الذي قاده نور سلطان نزاربييف. حتى خيار نقل العاصمة من ألماتي الجنوبية الى آسطانا، الشمالية، ارتبط بالحؤول دون أن يستأثر الروس الإثنيون بشمال البلد ويذهبوا به على نحو انفصالي. واليوم، نسبة الكازاخ في أستانة المسماة نور سلطان على اسم نزاربييف بعد «تقاعده» عام 2019، هي أعلى بشكل نوعي من نسبتهم في العاصمة التاريخية والثقافية والتجارية، ألماتي، التي لا يزال الروس فيها أكثر من ثلث السكان، والتي هي مركز الاحتجاجات الحالية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قدّم نور سلطان نزاربييف نفسه على أنه نوستالجي للامبراطورية الزائلة، بل بكّر منذ مطلع التسعينيات في طرح الاستعاضة عنها بالاتحاد الأوراسي. لكنه أدرك بعد ذلك ببضع سنوات أن هذه النفحة الأوراسية ينبغي أن تكتمل عنده مع مسعى لتأمين غلبة إثنية واضحة للقوم الكازاخي، واعتماد سردية قومية متوترة حيال روس الجمهورية، ومن ثم الشروع في نقل الألفباء من الكيريلية التي تكتب بها اللغة الروسية إلى اللاتينية على غرار التركية الحديثة، وهي عملية لم تتمم بشكل ناجز حتى الآن. قرن نور سلطان هذا مع نظام رأسمالية دولة يقودها حزب واحد، استوحى تسميته من اسمه هو، حزب «نور الوطن» في بلد صارت عاصمته تدعى «نور سلطان».
جرى النظر مطولا إلى كازاخستان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بوصفها الجمهورية الأكثر استقرارا وازدهارا في آسيا الوسطى. الاحتجاجات الحالية تظهر هشاشة هذه النظرة. لكنها تضعنا أيضا أمام مفارقة. وهي أنه بعد كل هذه العقود من السعي الدؤوب لنزع الروسنة الثقافية والديموغرافية، فإن نظام حكم في بلد بهذا الحجم، احتاج عند أول اضطراب كبير فيه، للاستنجاد بالأخ الروسي الكبير، في مخاطرة أيضا لنقل العدوى الاضطرابية إلى هذا الجار، كما في تأزيم الإشكال الاثني بين الكازاخ المسلمين والروس داخل كازاخستان، مثلما أن نموذج تقاعد نور سلطان مع إدارته الدفة من وراء الستارة، وعائلته، لم يعد مغرياً لفلاديمير بوتين.
القدس العربي