تتباين القراءات والتحليلات، كالعادة، مما يحدث في كازاخستان. صحيح أن غياب اسم هذا البلد عن وسائل الإعلام طوال عقود لعب دوراً في ذلك، لكن منظورات المعلقين والمحللين وتفضيلاتهم الأيديولوجية هي العامل الأكثر فاعلية في تباين القراءات.
من يميلون عادةً إلى القراءات الاستراتيجية يتعاملون مع أي حدث داخلي في بلد من البلدان باعتباره مجرد «نقلة» في لعبة شطرنج دولية لمصلحة هذا اللاعب أو ذاك في الصراعات الدولية. هكذا بجرة قلم تصبح «الثورات الملونة» في الدول التي استقلت، قبل ثلاثة عقود، عن الإمبراطورية السوفييتية، تقدماً لحلف شمال الأطلسي لتطويق روسيا، كما كانت ثورات «الربيع العربي» لا أكثر من «مؤامرات إمبريالية» ضد حصون المقاومة والممانعة، أو تنفيذاً لـ«مشروع الشرق الأوسط الكبير» المنسوب للمحافظين الجدد في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن.
الواقع أن كلاً من الثورات الملونة في بلدان الإرث السوفييتي وثورات الربيع العربي وغيرها من التحركات الشعبية لا بد أن تؤثر، في حصائلها، في موازين القوى العالمية وفي الصراعات الدولية.
هذا من البداهات التي لا تحتاج إلى نقاش. لكن خلط هذه البداهة بفكرة المؤامرات أو «تحريك قطع الشطرنج» هي الحد الفاصل بين القراءات الموضوعية والقراءات الأيديولوجية. فالحركات الشعبية الاحتجاجية في أي مكان هي نتيجة أزمة سلطة لا تريد المغادرة في مواجهة استياء شعبي متراكم من فساد الطبقة الحاكمة واستبدادها. ويا لها من مصادفة أن الثورات الشعبية لا تحدث إلا في بلدان تحكمها نخب متشابهة تعتبر السلطة امتيازاً لتحقيق مكاسب والتحكم برقاب الناس، سلطة تمنحهم الحق في فعل أي شيء بالبلد وسكانه، بما في ذلك القتل، دون خشية من محاسبة. وفي العقود الأخيرة بلغ استهتار تلك الطبقات الحاكمة درجة توريث الحكم للأبناء، مقتدين في ذلك بمثال العائلة الحاكمة في كوريا الشمالية.
لم يورّث نور سلطان نزارباييف رئاسة كازاخستان لأحد أبنائه، بعدما أمضى في حكم هذا البلد نحو ربع قرن، لكنه اتبع النموذج الروسي الذي ابتكره فلاديمير بوتين حين سلم الرئاسة، في 2019، لرجله الموثوق جومرد توكاييف، وانسحب إلى خط «القيادة من الخلف» رئيساً لمجلس الأمن القومي. وقام خلفه توكاييف بإجراءين لم يسبقه إليهما أي حكم دكتاتوري: نقل العاصمة من مدينة «ألماتي» إلى «آستانة» وغير اسم هذه الأخيرة إلى «نور سلطان» على اسم «القائد المؤسس»! فإذا أضفنا نصب تماثيل للدكتاتور العجوز في مدن كازاخية، أمكننا تكوين فكرة كافية عن وفرة الأسباب لثورة الشعب على الحكم. كان أحد الشعارات التي هتف بها المتظاهرون معبراً للغاية: «ارحل أيها العجوز!» في إشارة إلى نزارباييف المتنحي طوعاً عن منصب الرئاسة قبل ثلاث سنوات. فالناس يعرفون أنه بقي هو الحاكم الفعلي بخلاف المظاهر الشكلية.
الحركات الشعبية الاحتجاجية في أي مكان هي نتيجة أزمة سلطة لا تريد المغادرة في مواجهة استياء شعبي متراكم من فساد الطبقة الحاكمة واستبدادها
السبب المباشر الذي دفع الناس إلى التظاهر في الشوارع، أو ما يسمى بالـ»الفتيل» الذي أشعل النار، هو قرار الحكومة برفع أسعار الوقود والمحروقات في بلد غني بثرواته الطبيعية من النفط والغاز واليورانيوم وغيرها. بلد كبير بمساحته، صغير بعدد سكانه (نحو 19 مليون نسمة) تبلغ فيه حصة الفرد من الدخل الوطني الإجمالي عشرة آلاف دولار، مع توزيع للثروة مجحف التفاوت بين المناطق والطبقات الاجتماعية، وفساد إداري وحكومي لن يفاجئ أحداً في ظل حاكم تبلغ به الجرأة إطلاق اسمه على عاصمة البلاد.
وأدى العنف المفرط لقوات الشرطة في مواجهة المظاهرات السلمية إلى ظهور عنف مضاد سوغت به الحكومة استخدامها لعنف أشد من خلال إطلاق النار على المتظاهرين، فوقع عشرات القتلى والجرحى، وتم اعتقال الآلاف إلى الآن. وهناك مصادر تتحدث عن أن أعمال العنف من قبل المحتجين كانت بفعل عناصر استفزازية مدسوسة من السلطة لتسويغ المزيد من العنف. هذا السيناريو بات معروفاً ومتكرراً في كل الثورات الشعبية. ومن متمماته المألوفة أيضاً اتهام المحتجين بأنهم إرهابيون أو مخربون وأدوات لمؤامرات خارجية، وهو ما فعله الرئيس توكاييف وبعض وسائل الإعلام الروسية أيضاً.
وهكذا تم الانتقال «برشاقة» من ثورة شعب على حكومة فاسدة إلى مؤامرة مزعومة وإرهاب وما إلى ذلك من عناصر الهجمة المضادة للسلطة ولحماتها الخارجيين من روس وصينيين. القسم الآخر من تكتيكات توكاريف تمثل في إقالة الحكومة في محاولة لامتصاص النقمة الشعبية وخفض أسعار الوقود مرة أخرى، وإذ لم ينفع ذلك، ولا العنف المفرط، فقد طلب توكاريف تدخلاً من قوات منظمة الأمن الجماعي التي تربط كازاخستان بروسيا وعدد من دول آسيا الوسطى.
وفي آخر محاولات توكاريف لإنقاذ حكمه توجه إلى تحميل «النظام السابق» المسؤولية عن الاستياء الشعبي. ففي خطاب وجهه إلى أعضاء الحكومة والبرلمان، عبر اجتماع فيديو، حمّل توكاييف «الرئيس المؤسس» أي نزارباييف مسؤولية «تكوّن طبقة ثرية تفوق المتوسط العالمي في الثراء» على حد تعبيره، في أول إشارة إلى صراع داخل السلطة «العميقة» بين الرئيس والحاكم الفعلي نزارباييف.
كما تحدث عن رشوات كبيرة في مشاريع البنية التحتية التي تنفذها الحكومة، وعن تحويل مصارف مملوكة للدولة إلى «ممتلكات خاصة» لأشخاص لم يسمهم، لكن الكازاخيين يعرفون أن المقصود بهم هم الحاشية المقربة من نزارباييف، بمن فيهم ابنته الصاعدة في ميدان السياسة وربما كان الدكتاتور العجوز يعدها لخلافته. الخلاصة أن توكاييف يسعى إلى القطع مع نزارباييف وحاشيته والتبرؤ منهم.
من زاوية النظر الاستراتيجية يتضح من التدخل العسكري الروسي السريع، كما من الموقف السياسي والخطاب الإعلامي الروسيين أن موسكو المنشغلة بمفاوضات مع واشنطن بشأن أوكرانيا، كان «الاضطراب» الجديد في حديقتها الخلفية هي آخر ما تحتاج إليه.
القدس العربي