اعتمدت ألمانيا مبدأ قانونيا يعطيها ولاية قضائية عالمية، ويسمح ذلك لقضائها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان ارتكابهم للجرائم.
استنادا على هذا المبدأ، حكمت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز، أمس، على أنور رسلان، وهو ضابط مخابرات سوري منشق، بالسجن المؤبد، بعد اتهامه بارتكاب 58 جريمة قتل في سجن في العاصمة السورية دمشق، والمسؤولية عن تعذيب أكثر من أربعة آلاف شخص بصفته رئيسا للتحقيق في فرع أمني خلال عامي 2011 و2012 اللذين شهدا انطلاق ثورة شعبية ضد النظام.
أثار حكم المحكمة، وهو الثاني بعد حكم بالسجن على رقيب في المخابرات السورية السنة الماضية، جدلا سوريا وعالمياً، لأن الحكمين صدرا على ضابط وضابط صف خرجا على النظام وخاطرا بحياتيهما للانشقاق عليه، وليس على كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الذين ما زالوا يتابعون عمليات الاعتقال والتعذيب والاغتصاب، بحيث يبدو الأمر، سياسيا، عقوبة لمن خرجوا على النظام، وإنذارا لمن يفكرون بالخروج عنه!
القائمون على الحملة القانونية التي أدت لاعتقال المذكورين (وبعض أعضائها، أو أغلبهم، تعرّض للاعتقال والتعذيب في فروع أمن النظام) رأوا أن خروج مسؤولين أمنيين سابقين على النظام لا يعفيهم من العقوبة على أفعالهم السابقة، وأن المحاكمات، التي طالت أمنيين منشقين على النظام، ستطال أشخاصا آخرين غير منشقين، كما هو الحال مع محكمة ستنعقد الأسبوع المقبل في فرانكفورت لمحاكمة طبيب لجأ إلى ألمانيا متهم بارتكاب جرائم خطيرة.
يضاف إلى ذلك، حسب القائمين على الحملة، فإن المحاكمات تعتبر تأسيسا قانونيا لمحاكمة جهاز المخابرات السرية في سوريا بأكمله، وحسب «منظمة العفو الدولية» فإن المحكمة «ثبتت بشكل واضح ورسمي ظروف الاعتقال غير الإنسانية وأعمال التعذيب المنهجية والعنف الجنسي والقتل في سوريا» كما أن المحكمة وافقت على عرض صور من «ملف قيصر» الشهير، الذي وثّق صور 6786 معتقلا سوريا قتلوا بطرق وحشية، وقد ساهمت هذه المحاكمة، بالتأكيد، في تشجيع سبعة سوريين ممن تعرضوا للتعذيب أو شهدوا عمليات اغتصاب واعتداءات جنسية في مراكز احتجاز للنظام على التقدم بدعاوى قضائية.
تحيل المحاكمة المذكورة إلى تاريخ ألمانيا نفسها، وإلى محاكمة المسؤولين الألمان الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحقبة النازية، حيث أقامت المحاكم الدولية والمحلية والعسكرية محاكمات لعشرات الآلاف من المتهمين، وقد وضعت هذه المحاكمات سوابق قانونية ثابتة وساعدت على ترسيخ المبدأ المعمول به حاليا الذي ينص على وجوب معاقبة مرتكبي الجرائم الشنيعة مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وهذا الإرث موجود، ضمنا، في محاكمات النازيين الجدد الذين يقومون بالاعتداء على أقليات وأجانب وعناصر شرطة.
لا تقتصر دائرة المحاكمات على ألمانيا، فهناك قضايا مرفوعة من منظمات وأشخاص في فرنسا والنمسا والنروج والسويد، التي سجلت عام 2017 كونها أول بلد يدين قضاؤه عنصرا سابقا في قوات النظام بجرائم حرب، وهناك شكاوى قضائية فيها ضد رئيس النظام وعدد من كبار المسؤولين.
يسجل أيضا أن قضية رفعتها مواطنة من أصل سوري في إسبانيا ضد تسعة من كبار مسؤولي النظام تتهمهم فيها بالاحتجاز القسري وتعذيب شقيقها وتصفيته قد تم ردّها، كما أن محاكمة رفعت الأسد، عمّ رئيس النظام، أظهرت القضاء الفرنسي، والأوروبي عموما، بمظهر المتواطئ حين يتعلّق الأمر بأحد أهم الشخصيات التي أسست النظام الحالي، حيث تمّ التركيز على تهم الفساد الماليّ وغضّ النظر عن اتهامات له بالمسؤولية عن مجازر حماه وسجن تدمر، وانتهى الأمر بصوره ضاحكا بعد عودته إلى سوريا.
القدس العربي