توفّر روسيا نحو 40 في المئة من احتياجات القارة الأوروبية من الغاز. يفسّر هذا الحجم الكبير من واردات الطاقة الأوروبية من روسيا الخلفية الاقتصادية للاتجاه العام في أوروبا (باستثناء بريطانيا التي تتخذ موقفا جذريا من موسكو) نحو تفضيل الدبلوماسية على التصعيد، وكانت أبلغ مظاهر هذا الاتجاه رفض مستشار ألمانيا أولاف شولتس تزويد كييف بأسلحة، فيما عبّر رئيس أركان البحرية الألمانية بطريقة أكثر وضوحا عن هذا الموقف بقوله إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «يستحق الاحترام».
يمثّل الموقف من تشغيل خط أنابيب نقل الغاز «نوردستريم 2» القادم من روسيا إلى ألمانيا، موضوع خلاف بين أوساط الحكومة الألمانية، فقد اعتبرت وزيرة الدفاع الألمانية أن قرار تشغيل خط الأنابيب هذا يجب أن يبقى خارج ملف الخلاف الأوكراني ـ الروسي، كما أن شولتس وصف «نوردستريم 2» بأنه «مشروع خاص» وواضح أن مواقف الحكومة الألمانية المترددة هذه ساهمت في إضعاف جبهة الراغبين بالتصدّي لروسيا، كما أن تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي تحدثت عن رد محدود على «غزو محدود» تشير إلى ضعف وحيرة غربيين مما يعزز احتمالات اتخاذ بوتين قرارا بـ«غزو محدود» أو غير محدود لأوكرانيا!
إضافة إلى كونها ممرا للغاز الروسي إلى أوروبا، فإن أوكرانيا، التي تتمتع بأكثر الأراضي خصوبة في العالم، تعتبر ضرورية لإطعام عدد كبير من بلدان آسيا وأفريقيا، وقائمة عملات الصادرات الأوكرانية، خاصة القمح، تشمل الصين والاتحاد الأوروبي، لكن بلدان العالم «النامي» تشكل أكبر مستقبل للصادرات الغذائية الأوكرانية، كما هو حال لبنان، الذي تأتي نصف صادراته القمحية منها، فيما تستورد ليبيا واليمن ومصر ما نسبته 43٪، و22٪ و14٪ من احتياجاتها من القمح، وهناك 14 دولة في العالم الثالث تعتمد على القمح الأوكراني لأكثر من 10٪ من استهلاكها، بينها ماليزيا وإندونيسيا (28٪) وبنغلاديش (21٪).
وحسب مقالة لنشرة «فورين بوليسي» الأمريكية فإن ارتفاع الأسعار وانعدام الأمن الغذائي، وخصوصا في الدول التي تتعرض لأزمات سياسية، سيؤدي لتأجيج الصراعات، وزيادة التوترات، وزعزعة استقرار الحكومات، وانتشار العنف عبر الحدود.
وتذكّر النشرة بحدث تاريخي مخيف، حين قامت روسيا السوفياتية بالتدخل في سياسات الزراعة في أوكرانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما أدى إلى مجاعة عظمى، قتلت الملايين في أوكرانيا.
إذا عرضنا قضية أوكرانيا الحالية على خلفيّة شاشة تاريخية مقارنة، وتذكرنا التداعيات الكبرى لأحداث سياسية أخرى مثل نكبة فلسطين، وغزو أفغانستان والعراق، والنزاع السوري، لاستنتجنا أن احتلال بلد، أو تجاهل المفاعيل الكارثية للاستبداد والاحتلال، لن يتوقف في جغرافيا محددة، بل سيفيض وسيكون عنصر اختلال كبير للعالم.
القدس العربي