يظهر أن الولايات المتحدة هي المذنبة في أزمة أوكرانيا. فثمة قرار رمزي اتخذه الرئيس الأمريكي جو بايدن، ولا أهمية له، وهو وضع ثلاثة آلاف جندي أمريكي في ألمانيا وبولندا ورومانيا، إلى جانب رفض الولايات المتحدة والناتو الالتزام بتقليص قواتها، كما ظهر في رسالة أرسلت إلى روسيا في نهاية الأسبوع، كُشفت أمس بالكامل في الصحيفة الإسبانية “الباييس”.
لقد تبين أن الولايات المتحدة قد خططت وتدير الأزمة بهدف المس بروسيا. الحديث يدور عن سياسة متغطرسة وشائنة مناهضة لروسيا من قبل الولايات المتحدة، مع تلاعب متهكم للدول الأوروبية التابعة والساذجة، التي ليس لها موقف مستقل، وهي التي تقف من وراء الخطة الظلامية لجر روسيا الساذجة التي تحب السلام والاستقرار، إلى حرب زائدة في أوكرانيا. هذا على الأقل حسب طبعة 2022 لـ “العالم حسب فلاديمير بوتين”.
أمس، وقف الرئيس الروسي إلى جانب رئيس حكومة هنغاريا، فيكتور أوربان، وأوضحا بأن الغرب تجاهل طلبات روسيا الأساسية، التي تتضمن وقف تمدد الناتو شرقاً، ووضع قوات عسكرية ومنظومات صواريخ بعيدة المدى ومتوسطة المدى في دول قريبة من الحدود الروسية، ومناورات عسكرية واسعة النطاق، واستخفافاً تاماً بالمصالح الجيوسياسية لروسيا. خلال وجود أوربان إلى جانبه، الشعبوي والمتسلط والمناهض للديمقراطية والمعجب القديم ببوتين، والذي يترأس دولة عظمى في الناتو، وسع الرئيس الروسي شرحه: “ليست أوكرانيا سوى أداة لتحقيق هدف كبح تطور روسيا… هناك طرق مختلفة يمكن للولايات المتحدة أن تحقق من خلالها هذا الهدف، على سبيل المثال جرّنا إلى مواجهة عسكرية. وعندها تجبر حلفاءها الأوروبيين فرض عقوبات قاسية علينا”.
العقوبات التي يدور الحديث عنها هي أحد التعبيرات الواضحة بأن بوتين قد أخطأ في إدارة الأزمة وأخطأ في تقديره لرد الولايات المتحدة وأوروبا؛ فافتراضه بأن بايدن ينشغل بالشؤون الأمريكية الداخلية، وأن بؤرة اهتماماته هي الصين، وعليه ستتجنب الولايات المتحدة مواجهة سياسية واقتصادية مع روسيا حول قضية غير حيوية مثل أوكرانيا، هو افتراض تم دحضه. وافتراضه بأن روسيا المتطورة ستنجح في زرع الشقاق والخلاف في الناتو، تم دحضه أيضاً. أوروبا ليست موحدة تماماً بالطبع، لكن يمكن القول في هذه المرحلة بأن الرهان على خلق شرخ بين الولايات المتحدة والناتو قد فشل. بعد عقد من المعاناة وأسئلة مثل “ما سبب وجود حلف الناتو أصلاً؟”، فقد امتلأ هذا التحالف بالمحتوى وبالشعور بوجود هدف”.
في هذه الأثناء لاءم بوتين نفسه مع وضع غير مرغوب، الذي لا قدرة لروسيا فيه على الحصول على أفضليات حقيقية من الأزمة. ربما كان استنتاج موسكو أن تجنب الغزو أسوأ من تداعياته، لكن في التصعيد مخاطرة، ولو بدا أنك تسيطر عليه. يأتي التصعيد بصور ونماذج وأشكال مختلفة، والتاريخ يدل على أن ديناميكية التصعيد في الأزمات يمكن منعها بشكل عام. فحص الطبيعة البشرية تظهر العكس تماماً.
أزمة أوكرانيا تعرض نوعاً خاصاً من التصعيد: وضع فيه صيغ دبلوماسية معقولة أو قابلة للحل، ومن الواضح أن التدهور إلى حرب لا يخدم مصلحة أي طرف. هذه هي النقطة التي يقود فيها التصعيد الأزمة إلى منطقة “مسيرة الأغبياء”، على اسم كتاب المؤرخة بربارا توخمان. وضع يواصلون فيه سياسة من الواضح أنها مدمرة. مثل الطرواديون الذين مكنوا سكان أثينا من إدخال حصان من الخشب إلى طروادة؛ ومثل الباباوات في عصر النهضة الذين رفضوا الحلول الوسط وجلبوا عليهم الإصلاحية البروتستانتية؛ ومثل إنكلترا التي صعدت بغباء وانغلاق علاقتها مع المستوطنات الأمريكية في شمال إفريقيا في 1776؛ ومثل الحرب العالمية الأولى ومثل حرب فيتنام، هكذا أوكرانيا.
دون علاقة بكيفية تطور الأزمة في أوكرانيا، يبدو أن الهيكل الأمني لأوروبا وفي أساسه التحالف بين أمريكا وأوروبا، على وشك الدخول في تغييرات والدخول في المرحلة الثالثة من وجودها. ليس واضحاً إذا كانت هذه التغييرات في صالح روسيا بالضرورة.
كانت المرحلة الأولى في نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى تفكك الاتحاد السوفييتي، بين الأعوام 1945 – 1991. في حينه كان العالم ثنائي القطب ومقسماً إلى مناطق نفوذ واضحة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. في غرب أوروبا كانت هناك سيطرة أمريكية، وفي شرق أوروبا كانت هناك هيمنة سوفييتية. كان النظام الدولي يقوم على النظام الأمريكي: مؤسسات دولية، وتحالفات، ومعايير سلوك لإدارة الولايات المتحدة، مع الدفع بأفضليتها ومكانتها كمحكم دولي.
المرحلة الثانية هي العهد ما بعد السوفييتي، بين الأعوام 1991 – 2022. العصر الحالي يتم تحديده من قبل ثلاثة تطورات استراتيجية رئيسية: أولاً، تفكك الاتحاد السوفييتي وخلق فراغ في وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا؛ ثانياً، صعود الولايات المتحدة إلى مستوى الدولة الوحيدة العظمى بدون منافس، مع أفضليات نسبية مطلقة مثل قوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية وعلمية وسياسية وقدرة على بث هذه القوة؛ ثالثاً، تبلور الاتحاد الأوروبي.
في هذه المرحلة، تقلصت روسيا إلى مستوى دولة عظمى متوسطة مع اقتصاد ضعيف والاعتماد على تصدير الطاقة كمصدر الدخل المهم الوحيد لديها وقدرة سياسية محدودة وفقدان مكانة الدولة العظمى المؤثرة في أوروبا. في هذه الفترة، توسع الناتو من 16 إلى 30 دولة، من بينها تسع دول من حلف وارسو السابق.
المرحلة الثالثة قد تأتي من داخل الأزمة الحالية، ومن هنا أهميتها لأوروبا، وربما للنظام العالمي بشكل عام. بوتين يريد نظاماً أوروبياً جديداً يعكس قوة روسيا ويدفع بمصالحها. وفي المقابل، يضم في داخله ضعفاً نسبياً للولايات المتحدة في العالم. هذا المنطق الاستراتيجي نفسخ تطبقه الصين على شرق وجنوب آسيا وعلى منطقة المحيط الهادئ. المشكلة الأولى في تحليل بوتين أن الولايات المتحدة تقرأ الخارطة مثله تماماً. لذلك، لا تستطيع السماح بتسويات تؤدي إلى تغيير النظام الأوروبي، خاصة عندما تقف الصين في الأفق مع ادعاءات مماثلة. المشكلة الثانية هي أن بوتين لم يأخذ في الحسبان أن بايدن ليس ترامب، لأنه مليء بالشك تجاهه ولديه نفور أساسي من روسيا.
القدس العربي