منذ إعلان نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في العراق، واحتلال التيار الصدري الموقع الأول في عدد المقاعد، أطلق زعيم التيار مقتدى الصدر، وعودا بتشكيل حكومة أغلبية قوية وتنفيذ برامج إصلاحية يطالب بها العراقيون، أبرزها استعادة هيبة الدولة وحصر السلاح بيدها وملاحقة الفاسدين. إلا أن المؤكد ان الصدر الآن في موقف لا يحسد عليه ازاء الضغوط التي يتعرض لها من أحزاب السلطة وحلفائهم الإقليميين للتراجع عن تعهداته وتحالفاته، وسط متابعة دقيقة من جمهوره في الشارع الشيعي والعراقيين عموما.
وإضافة إلى ضغوط القوى الشيعية المعارضة لنتائج الانتخابات وتهديداتها بإشعال حرب أهلية إذا تم استبعادها عن تشكيلة الحكومة، وقيامها بتأجيج التوترات الأمنية في البلاد والمنطقة، فإنها تواصل مساعيها لإيجاد عراقيل قانونية عبر المحكمة الاتحادية لتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة المقبلة، للمزيد من الضغط والابتزاز. ومن جهة أخرى فإن الضغوط الخارجية لم تكن بعيدة عن المشهد، فمرة أخرى تتدخل إيران في العملية السياسية في العراق من خلال الضغط على القوى السياسية للتدخل لدى الصدر وعدم استبعاده الفصائل الولائية عن السلطة حتى وان كانت مرفوضة من العراقيين حسب نتائج الانتخابات الأخيرة، رغم ما يعنيه ذلك من الوقوف بوجه إرادة الشعب بالتغيير والإصلاح.
ولم تكن بعيدة عن هذا السياق، مبادرة زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني عقب زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اسماعيل قاآني إلى أربيل. فقد كان بارزاني حتى الأيام الأخيرة متمسكا بتحالفه مع الصدر ورافضا التحالف مع قوى «الإطار التنسيقي» التي تضم فصائل يتهمها بانها «تقوم بقصف أربيل بالصواريخ ولا تلتزم بوعودها للأحزاب الكردية» وإذا به يقوم بإرسال رئيس حكومة الإقليم نيجرفان بارزاني ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي لزيارة حليفهم الصدر في النجف، بهدف إقناعه لإشراك الفصائل الولائية، أو بعضها، في الحكومة المقبلة، وهو ما يعني إذا ما تحقق، تراجعا عن شعار «حكومة الأغلبية الوطنية» التي ينادي بها الصدر.
والملاحظ عقب زيارة بارزاني والحلبوسي إلى النجف، عدم صدور أي بيان عن طبيعة مبادرة بارزاني وموقف الصدر منها، عدا تسريبات عن توقع عقد اجتماع موسع قبيل جلسة البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية، يجمع تحالف الصدر، والفصائل في العاصمة بغداد، مع توقعات قوية ان تقوم بعض قوى الإطار التنسيقي بالانفصال عن التجمع والتحاقها بالصدر، للحصول على حصة في الحكومة، بعد تخليها عن رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي يصر الصدر على إبعاده عن أي موقع في الحكومة المقبلة.
والحقيقة ان المطلعين على طبيعة تفكير ساسة إيران البراغماتي، يعلمون ان مرجعية قم لا يهمها ان يكون حليفها زعيم حزب الدعوة نوري المالكي في حكومة بغداد أم لا، وانما الأهم عندها هو ان يبقى الفاعل الرئيسي في السلطة هي القوى الشيعية الصديقة والحليفة.
وازاء استقتال الفصائل على المشاركة في الحكومة رغم خسارتها الانتخابات اثيرت تساؤلات عن سبب خوف «الإطار التنسيقي» الذي يضم الفصائل المسلحة، من حكومة الأغلبية ورفضها الذهاب إلى المعارضة كما يحصل في كل الانتخابات في دول العالم. ويتفق المراقبون على ان الفصائل ترفض استبعادها عن التشكيلة الحكومية لعدة أسباب لعل أبرزها الخشية من قيام الحكومة المقبلة بنزع سلاح الفصائل الولائية أو محاولة إضعافها، كما وعد الصدر، وذلك لأن مثل هذا القرار ستكون فيه خسارة كبيرة للفصائل وامتيازاتها ومصالحها المالية الهائلة، إضافة إلى انه يضر بمصالح إيران ورغبتها بالإبقاء على الفصائل لاعبا مؤثرا في المشهد العراقي والإقليمي. كما ان وجود حكومة قوية في بغداد، سيفتح ملفات أمن وفساد تورطت بها فصائل وسياسيون شيعة منهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي يتهمه التيار الصدري بالتلاعب بميزانيات العراق خلال فترة حكمه لثمان سنوات رغم وجود موارد هائلة، وتهريب مليارات الدولارات إلى الخارج إضافة إلى الخوف من فتح ملفات خطيرة للتحقيق فيها منها محاسبة المسؤولين عن سقوط الموصل بيد «داعش» ومجازر سبايكر والزركة وقتلة المتظاهرين، وغيرها من الملفات الحساسة التي تتهم بعض الفصائل والقوى بارتكابها.
ومع اقتراب عقد جلسة مجلس النواب يوم 7 شباط/ فبراير الحالي التي سيتم خلالها انتخاب رئيس الجمهورية، لكي يقوم بعدها باختيار رئيس الوزراء القادم من الكتلة الأكبر في البرلمان «تحالف الصدر» وبعد ان أفشلت المحكمة الاتحادية ثلاث محاولات للفصائل لعرقلة تشكيل الحكومة، فإن سباق التحركات والاتصالات بين القوى السياسية يتصاعد من أجل انتزاع أكبر حصة من كعكة السلطة، وسط خلافات عميقة بين الكتل وخاصة الكردية على منصب رئيس الجمهورية الذي يتنافس عليه 25 مرشحا أبرزهم الرئيس الحالي برهم صالح مرشح حزب طالباني ووزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري الذي يبدو انه الأوفر حظا باعتباره مرشح حزب بارزاني المتحالف مع الصدر، وسيعتمد ذلك طبعا على توافقات وتحالفات القوى السياسية التي تسبق عقد جلسة البرلمان.
وستظهر الأيام المقبلة مدى قدرة تحالف الصدر على الصمود أمام الضغوط والتزامه بوعود الإصلاح، فيما يبدو متوقعا تدخل طهران في اللحظات الأخيرة قبل تشكيل الحكومة الجديدة في بغداد من أجل ضمان استمرار بقاء حلفائها وأصدقائها في المواقع الحيوية، إضافة إلى عدم استبعاد الفصائل الموالية لها عن تشكيلة الحكومة المقبل، حتى وان كانت مرفوضة من الشعب فالمهم بالنسبة لإيران هو بقاء نفوذ قوي لها في العراق، عبر الأدوات التقليدية التي تتمتع بالغطاء الرسمي، لكي تتمكن من أداء دورها المحلي والإقليمي المطلوب.
القدس العربي