المراقبون إن آية الله علي السيستاني المرجع الأعلى للشيعة في العراق (مواليد 1930) قد بلغ عمرا متقدما، وبات يعاني من أمراض الشيخوخة، وأصبحت احتمالية وفاته متوقعة، لذلك طرحت عدة جهات موضوع خلافة السيستاني للبحث والنقاش، وكتبت دراسات وطرحت توقعات عن هوية الفقيه الذي سيخلف السيستاني في منصب يحيط به الكثير من عدم الوضوح وهلامية الصلاحيات والمسؤوليات.
في تقرير نشره موقع «المونيتور»الأمريكي، يوم الخميس 2 كانون الأول/ديسمبر 2021، جاء فيه أن الوفاة المفاجئة للمرجع الديني الشيعي محمد سعيد الحكيم، الذي كان المرشح الأوفر حظا لخلافة السيستاني، دفع علماء الدين في حوزة النجف، إلى البحث بجدية في مرحلة «ما بعد السيستاني». وأوضح الموقع في تقريره أن هذا الوضع دفع الشيخ محمد باقر الأيرواني إلى افتتاح مكتب رسمي له في النجف، إذ أنه على ما يبدو يعد نفسه ليكون مرجعا أعلى بعد وفاة السيستاني، كما أشار التقرير إلى أن افتتاح المكتب يشكل خطوة مهمة في إعلان منصب المرجع الديني، حيث يُدّرس الأيرواني واحدة من أكبر فصول الحوزة، على أعلى مستوى من الدراسات الدينية.
منصب المرجع الأعلى للشيعة، في الواقع، هو منصب يكاد يكون ذا صلاحيات هلامية، أو غير محددة المعالم بوضوح في ظل حوزة النجف العراقية، التي ميزت نفسها عن قرينتها ومنافستها حوزة قم الإيرانية، إذ بات معروفا أن حوزة النجف لا تعمل وفق مبدأ ولاية الفقيه، بل تؤمن بما يعرف بولاية الأمة، وما زال فقهاء النجف الكبار يبتعدون عن التدخل في الصراعات السياسية، ويحاولون لعب أدوار توجيهية فقط، بينما تلعب مؤسسة الولي الفقيه في إيران الدور المركزي في نظام أقرب إلى الديكتاتورية الثيوقراطية، حيث يمسك الولي الفقيه أغلب السلطات في الجمهورية الإسلامية، تساعده في ذلك مجموعة من المجالس.
برزت مرجعية السيد السيستاني في العراق في مرحلة حرجة، إذ تصدى للمرجعية العليا بعد وفاة أستاذه الإمام أبو القاسم الخوئي عام 1992، ولم يكن السيد السيستاني وحيدا في مضمار التنافس على موقع المرجع الأعلى، إذ كان هنالك السيد عبد الأعلى السبزواري، والشيخ علي الغروي، بالإضافة إلى بعض الفقهاء المؤثرين مثل: الشيخ مرتضى البروجردي، والسيد علي البهشتي، إلا أنهما لم يكونا من المتصدين لشؤون المرجعية العليا، لكن السيد السيستاني مثّل أبرز تلاميذ الخوئي، خصوصا بعد أن غيب الموت السيد السبزواري والشيخ الغروي بعد وفاة الإمام الخوئي بمدة وجيزة. بقي السيد علي السيستاني مرجعا يتجنب الخوض في مستنقع السياسة الخطر، في بلد ذي نظام شمولي صارم كعراق صدام حسين، لكن سرعان ما برزت فعالية مرجعيته بشكل جلي بعد إطاحة النظام في نيسان/إبريل 2003 على يد قوات التحالف، الذي قادته الولايات المتحدة، وعندها أصبح السيد السيستاني رقما صعبا في المعادلة العراقية في ظل الاحتلال الأمريكي، ومن ثم في عهد الدولة الوليدة التي أعقبت نقل السيادة للعراقيين. برز دور مرجعية السيستاني عندما طالب قوات الاحتلال الأمريكي وبعثة الأمم المتحدة بتحديد جدول زمني لنقل السلطة للعراقيين بأسرع وقت، وأصر على تشكيل لجنة عراقية لكتابة الدستور الجديد، وطرحه للتصويت، وهذا ما تم فعلا على الرغم من كل المشاكل التي نتجت عن هذه الخطوة المستعجلة. كما لعب أدوارا مهمة في وأد الفتنة الطائفية، وتهدئة الحرب القذرة التي اندلعت بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، وكذلك مواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي عبر إصدار فتوى الجهاد الكفائي.
من سيخلف السيد السيستاني ستلقى على عاتقه مسؤولية إدارة ملفات شائكة يجب التعامل معها بطرق مواربة
طُرحت توقعات عديدة حول من سيتبوأ منصب المرجع الأعلى في النجف، وذُكرت أسماء أبناء مراجع سابقين أو حاليين، مثال ذلك الفقهاء المشهورين من آل الحكيم، من أبناء أو أحفاد الإمام محسن الحكيم، أو أبناء وأحفاد الإمام الخوئي، أو حتى ابني الإمام السيستاني محمد رضا ومحمد باقر، وقيل كلام كثيرعن تصدي إحدى هذه الشخصيات لمركز المرجعية العليا، لكن من طرح هذه الأسماء غاب عنه أن هنالك عرفا بات أشبه بقانون منظم لعمل المرجعية الشيعية وهو، عدم تصدي أبناء المرجع الأعلى لشغل مكان الأب المتوفى، لأن هذه المكانة هي مكانة علمية وبحثية وقيمية تراكمية، ولا يمكن أن يتوارثها الأبناء أو الأحفاد بسبب علاقاتهم البيولوجية أو تحدرهم من أب فقيه أو إمام، ولم تحدث في التاريخ الحديث والمعاصر للمرجعية الشيعية أن شغل ابن المرجع الأعلى مكان أبيه بعد وفاته نهائيا.
وهنالك ما يشبه «القاعدة الذهبية» في شؤون المرجعية في التراث الشيعي، مفادها: أن «المرجعية رداءٌ يلبسهُ الله من يشاء»، فعلى الرغم من المتطلبات الكثيرة علميا وحياتيا التي يجب أن يتمتع بها الفقيه، لكي يتصدى للمرجعية العليا، إلا أنه وحسب عرف المراجع الكبار: «من يسعى للمرجعية العليا لن ينالها، ومن يزهد فيها يهبُها الله له». ومع وجود حوالي 40 فقيها بدرجة آية الله حائزا للشروط التي تؤهله لمنصب المرجع الأعلى في حوزة النجف، يبقى الاسم الأكثر تداولا في الأوساط الدينية والأوساط العامة، الذي يعتقد أنه بات الأكثر حظا، لأن يكون مرجعا أعلى خلفا للسيستاني، هو آية الله محمد باقر الأيرواني. فمن هو الشيخ الايرواني (72 عاما) الذي افتتح مكتبا في النجف نهاية عام 2021 مباشرة بعد وفاة آية الله محمد سعيد الحكيم؟
تشير عدة مواقع شيعية إلى سيرة الشيخ الأيرواني، وتذكر أنه عراقي المولد والنشأة، متحدر من عائلة إيرانية قدّمت العديد من الفقهاء المميزين في التاريخ الحديث للمرجعية، فهو ينحدر من أسرة علمية معروفة في النجف، تنتهي إلى جدها الأعلى المعروف بالفاضل الأيرواني الذي كان أحد مراجع الدين المعروفين في حوزة النجف الأشرف، المتتلمذ على يد العلمين: الشيخ صاحب الجواهر والشيخ الأنصاري. ولد الشيخ الأيرواني سنة 1949، عاش وترعرع في مدينة النجف، ودرس الدراسة الأكاديمية الابتدائية والثانوية في مدارس منتدى النشر التي كان يشرف عليها آية الله الشيخ محمد رضا المظفر، وشرع وهو في الصف الرابع الثانوي في الدراسة الحوزوية، فدرس المقدمات والسطوح على يد مجموعة من فضلاء الحوزة آنذاك. ودرس مرحلة بحث الخارج في الفقه (وهو المرحلة التي تعادل دراسة الدكتوراه في الفقه) على يد السيد الخوئي، والسيد محمد باقرالصدر، إذ حضر عنده بداية الدورة الأصولية الثانية واستمر معه حتى الأيام الأخيرة من حياة الصدر. كما حضر مدة من الزمن بحث الأصول للمرجع علي السيستاني وبحث الفقه للمرجع محمد سعيد الحكيم. ومارس الشيخ الأيرواني التدريس في حوزة النجف الأشرف، إذ عرفته الحوزة مدرساً في مرحلة السطوح، في موضوعات المكاسب والرسائل والكفاية، وعلى إثر تأزم الأحداث في العراق نهاية الحرب العراقية الإيرانية هاجر الشيخ الأيرواني إلى مدينة قم، وشرع في حوزتها بتدريس السطوح العالية لمدة خمس سنوات تقريباً .ثم قام بتدريس الفقه والأصول على مستوى مرحلة الخارج، وقد أنهى في عشر سنوات تقريباً تدريس دورة أصولية، وشرع بعد ذلك في تدريس دورة أصولية في بحث الخارج باعتباره مجتهد تقليد بدرجة آية الله، وقد تخرّجت على يده مجموعة كبيرة من تلاميذ الحوزة في النجف وقم، كما ألّف مجموعة من الكتب في مختلف مباحث الفقه وأصوله.
يرى بعض الباحثين أن الشيخ «الأيرواني هو أفضل مرشح لمنصب المرجع الأعلى، لكنه لا يتحدر من نسل النبي محمد، ما قد يضعف من فرصه». لكن يبدو أنهم لم ينتبهوا إلى أن التحدر من نسل الرسول (السادة المميزون بلبس العمائم السوداء) أو عدمه (الشيوخ المميزون بلبس العمائم البيضاء) لا يمثل محددا صارما في ترشح المرجع الأعلى، ويشهد على ذلك تاريخ المرجعية الحديث الذي شهد وجود شيوخ شغلوا المنصب من آل الجواهري، وآل الجزائري وآل كاشف الغطاء. وربما كان أبرز ملف سيواجهه المرجع الأعلى الجديد هو ملف الفصائل المسلحة، والتوتر المتمثل بالدور السياسي الذي تلعبه في العراق وعلاقاتها العقائدية مع مؤسسة الولي الفقيه في إيران، إذ أن الفقيه الذي سيشغل منصب المرجع الأعلى في العراق سيتحتم عليه التعامل بحذر شديد مع هذا الملف. وتتمثل الخلاصة في أن من سيخلف السيد السيستاني ستلقى على عاتقه مسؤولية إدارة ملفات شائكة يجب التعامل معها بطرق مواربة، لأنه لن يمتلك وضوح وصرامة منصب الولي الفقيه في إيران، حيث يأمر فيطاع، ولا يمكنه الركون إلى مجرد مسؤولية مراجع الشيعة في ظل الحكومات الشمولية، حيث يتفرغون للمهمات الدينية فقط، إنما ستكون مكانة المرجع الأعلى بين المكانتين، وهذه المسألة تمثل تحديا حقيقيا، لا بد أن يعرف صاحبه متى يتدخل ومتى ينسحب حفاظا على هيبة ومكانة المرجعية.
القدس العربي