فشل العراق ، على الأقل منذ العام 1958 حتى اللحظة، في أي أن يتحول إلى دولة حقيقية تؤمن طبقتها السياسية بضرورة الالتزام الفعلي بالدستور والقانون بوصفهما قواعد عامة تنظم السلطات في الدولة، وكيفية تشكيلها وطبيعة اختصاصاتها. وسياسة التبرير كانت دائما حاضرة لشرعنة أي انتهاك لهما، في سياق تواطؤ الطبقة السياسية جميعها.
كان يمكن فهم هذه الانتهاكات في سياق أنظمة شمولية كالتي حكمت العراق بعد عام 1958، خاصة أن هذه المرحلة عرفت ما يُسمَّى بالدساتير المؤقتة ( 1958، و 1963، و 1968، و 1970)! لم تكن هذه الدساتير «المؤقتة» سوى إجراء شكلي من أجل إضفاء نوع من الشرعية على النظام القائم الذي جاء، في الأغلب، بعد انقلابات عسكرية أو شبه عسكرية.
بعد العام 2003، قام النظام الجديد في العراق بإجراءات مختلفة من حيث الشكل وليس المحتوى، بدءا من عملية كتابة الدستور العراقي الدائم في العام 2005 والاستفتاء عليه فيما بعد. والمفارقة هنا أن عدم احترام الدستور وانتهاك مواده استمر حتى مع نظام يفترضُ أنه ديمقراطي؛ فبالعودة إلى قانون إدارة الدولة المؤقت الذي أصدرته سلطة الاحتلال، ودخل حيز التنفيذ يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 2003، نجد أن المادة 60 قد نصت أن «على الجمعية الوطنية كتابة مسودة للدستور الدائم للعراق» وحدد القانون، لذلك، موعدا أقصاه 15 آب/ أغسطس 2005. واستنادا إلى ذلك تم انتخاب الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني/ يناير 2005 للقيام بهذه المهمة، ولكن القوى السياسية السنية الرئيسية قاطعت هذه الانتخابات، وهو ما اضطر الجميع، أمريكيين وعراقيين، إلى انتهاك أحكام قانون إدارة الدولة المؤقت نفسه، من خلال فرض شخصيات سنية غير منتخبة، ومن خارج إطار الجمعية الوطنية في لجنة كتابة الدستور، في تواطؤ جماعي أسس لمرحلة لاحقة اتسمت بانتهاكات متكررة ومنهجية للدستور والقانون!
كما فشلت الجمعية الوطنية نفسها في الالتزام بالتوقيت المحدد لكتابة الدستور، وتم تمديد هذه المهلة مرتين في انتهاك آخر لقانون إدارة الدولة المؤقت، ولم تقر المسودة إلا بتاريخ 28 آب/ أغسطس، أي بعد أسبوعين من الموعد المحدد، ودون تصويت! ومرة أخرى كان الاتفاق، بعيدا عن النصوص الدستورية، سيد الموقف! وتحدد موعد منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2005 لطرح المسودة على الاستفتاء العام، وبالفعل قامت الجمعية الوطنية بطباعة 5 ملايين نسخة من مسودة الدستور، وتوزيعها على المواطنين، قبيل الاستفتاء العام، ليفاجأ الجميع بتعديلات على مسودة الدستور جرت يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر، أي قبل ثلاثة أيام فقط من موعد إجراء الاستفتاء العام، ومن يراجع مسودة الدستور التي نشرت في صحيفة الصباح الرسمية يوم 15 أيلول/ سبتمبر 2005، وهي النسخة التي تم توزيعها على الشعب، والنسخة الأخيرة للدستور العراقي كما هي اليوم، سيجد ان تعديلات، ليست بالهيِّنة، قد أجريت على المسودة، سواء في نصوص المواد نفسها، أو في عدد مواد الدستور عموما! وهذا يعني أن الشعب قد قرأ نسخة غير النسخة التي صوت عليها!
المحكمة الاتحادية العليا، التي يُفترض أنها حكم ومرجع فيما يتعلق بوقف الانتهاكات الدستورية، كانت دائما طرفا في السياق السياسي الذي يشرعن هذه الانتهاكات
وقد فشل مجلس النواب الذي تم انتخابه في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2005 بعد اعتماد الدستور الدائم، في تنفيذ أحكامه منذ أيامه الأولى! فقد نصت المادة 142/ أولا على تشكيل لجنة مهمتها التوصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن اجراؤها على الدستور «خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر» وطرحها على مجلس النواب للتصويت عليها، وما زلنا بعد أكثر من 16 عشر عاما في انتظار ذلك! والمفارقة هنا أن المحكمة الاتحادية كانت قد قررت أنه لا يمكن اعتماد المواد الواردة في المادة 126 الخاصة بالتعديلات الدستورية، إلا بعد تنفيذ أحكام المادة 142، وهذا يعني أن مادة أضيفت في اللحظة الأخيرة على الدستور من أجل الإسراع بالتعديلات الدستورية (وهذه المادة وضعت أصلا لإقناع السنة/ الحزب الإسلامي بالتصويت بنعم على الدستور) وأن هذه المادة «المضافة» قد عطّلت، عمليا، مواد أخرى كانت موجودة في المسودة الأصلية تتيح التعديلات الدستورية بشروط أبسط من تلك التي جاءت في المادة 142!
وهذا الأمر تكرر أيضا مع المادة 140 من الدستور التي حددت تاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر 2007 كموعد نهائي لتنفيذ «التطبيع والإحصاء والاستفتاء» في كركوك والمناطق المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة!
والنقطة الأشد خطورة هنا، أن المحكمة الاتحادية العليا، التي يُفترض أنها حكم ومرجع فيما يتعلق بوقف الانتهاكات الدستورية، كانت دائما طرفا في السياق السياسي الذي يشرعن هذه الانتهاكات، ومراجعة قرارات هذه المحكمة، يكشف بوضوح هذه الحقيقة، وهو ما يفسر القرارات المتناقضة التي أصدرتها هذه المحكمة، كما يفسر قرارات إشكالية أخرى.
لهذا، وفي سياق هذه الانتهاكات المنهجية للدستور والقانون في العراق، يبدو الاعتراض على «التدليس» الذي قامت به رئاسة مجلس النواب العراقي فيما يتعلق بقانون أحكام انتخاب رئيس الجمهورية رقم 8 لسنة 2012 من خلال إعادة فتح باب الترشيح لهذا المنصب دون مسوغ قانوني، مجرد «ترف نظري» لا أكثر، كما سيبدو الاعتراض على مطالبة رئيس مجلس النواب من حكومة تصريف الأمور اليومية/ تصريف الأعمال القائمة اليوم (بموجب الدستور العراقي تعد الحكومة حكومة تصريف أمور يومية في حال حل البرلمان) تقديم مشروع قانون الموازنة الاتحادية لعام 2022 في انتهاك صريح لأحكام النظام الداخلي لمجلس الوزراء التي لا يتيح للحكومة ذلك، سيبدو هذا الاعتراض مجرد «دوغمائية» من أشخاص «سُذّج» يؤمنون بعلوية الدستور ويضعونه فوق المصالح الشخصية وعلاقات القوة ومنطق الصفقات!
باختصار، لا أحد في العراق يحترم الدستور أو القانون، لا سلطات الدولة، و لا الطبقة السياسية، ولا المجتمع نفسه، لهذا كانت هناك سلاسة غريبة في عملية انتهاك الدستور والقانون والأنظمة والتعليمات بشكل منهجي متكرر، وأصبح واضحا أن «المنتهكين» أنفسهم لم يعودوا يهتمون أصلا بأي اعتراض يوجه اليهم، لأنهم يعلمون تماما أن ثمة تواطؤا جماعيا يتيح لهم ذلك، ويجعلهم مطمئنين تماما أنهم مهما انتهكوا سيبقون في مأمن من أي محاسبة!
يحيى الكبيسي
القدس العربي