جلولة (العراق)- يقول أكثر من عشرة من المسؤولين الأمنيين والقيادات المحلية والسكان في شمال العراق إنه بعد قرابة ثلاث سنوات من فقدان التنظيم سيطرته على آخر جيوبه، عاود مقاتلوه الظهور كمصدر لخطر قاتل يدعمهم غياب السيطرة المركزية في مناطق كثيرة.
ولم يعد التنظيم يملك القوة الهائلة التي تمتع بها في فترة من الفترات، غير أن خلايا المتشددين التي تعمل مستقلة عن بعضها بعضا في الغالب ظلت موجودة عبر قطاع من شمال العراق وشمال شرق سورية. وفي الأشهر الأخيرة ازدادت جرأتها في شن الهجمات.
يقول جبار ياور، المسؤول الكبير في قوات البشمركة في إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي في شمال العراق: “لم تعد عند داعش قوة مثل السابقة في 2014. ولا عنده قيادة مشتركة قوية ولا هو قادر على السيطرة على المدن”. لكنه يضيف: “إذا لم يكن هناك استقرار سياسي، لا يوجد استقرار اقتصادي. وإذا لم يوجد استقرار اقتصادي، لا يوجد استقرار أمني وداعش ينتعش”.
وينتاب الخوف البعض من أن يكون ذلك قد بدأ يحدث بالفعل. ففي أواخر كانون الثاني (يناير) نفذ “داعش” أكثر عملياته دموية ضد الجيش العراقي منذ سنوات، وقتل قتل 11 جنديا في بلدة بالقرب من جلولة، حسب مصادر أمنية. وفي اليوم نفسه اقتحم مسلحوه سجنا في سورية تحت سيطرة فصيل كردي تدعمه الولايات المتحدة في محاولة لتحرير نزلاء موالين له.
وكان ذلك هو أكبر هجوم يشنه التنظيم منذ أن انهارت في 2019 “دولة الخلافة” التي أعلنها. وراح ضحية هذا الهجوم ما لا يقل عن 200 من نزلاء السجن والمتشددين، كما سقط 40 من المقاتلين الأكراد و77 من حراس السجن وأربعة مدنيين قتلى.
يقول حسين سليمان، الموظف بالحكومة في بلدة سنجار العراقية التي اجتاحها التنظيم في العام 2014 وقتل الآلاف من أبناء الطائفة اليزيدية: “بعد الهجوم على السجن في سورية، أصبحنا نخاف من عودة داعش”. وأضاف: “جاء داعش من سورية في المرة السابقة. وكانت القوات العراقية والقوات التركية موجودة هنا أيضاً، لكنها فرت”.
وعزا مسؤولون وسكان في شمال العراق وشرق سورية ما حدث إلى حد كبير إلى التنافس بين جماعات مسلحة. فعندما أعلنت القوات العراقية والسورية والإيرانية وقوات تعمل بقيادة أميركية هزيمة “داعش”، انقلبت هذه القوى على بعضها بعضا في مواجهات في أنحاء المنطقة التي كان التنظيم يحكمها. والآن، تهاجم فصائل تساندها إيران القوات الأميركية، وتقوم القوات التركية بقصف المتشددين الأكراد الانفصاليين. ويستمر كذلك نزاع قائم بين بغداد وإقليم كردستان الشمالي. وتقوض هذه التوترات الأمن والحكم النزيه، الأمر الذي يثير نوع البلبلة التي كان تنظيم “داعش” يستفيد منها من قبل.
وهذا بالنسبة ليوسف إبراهيم معناه المرور بحواجز أمنية يديرها جنود من الجيش العراقي وفصائل مسلحة من الشيعة من أجل الوصول إلى عمله في بلدة كانت حتى بضع سنوات مضت تحت سيطرة الأكراد. ويقول مسؤولون محليون إن الأراضي الزراعية في المناطق النائية بين كل موقع عسكري وآخر تمثل مخبأ لمسلحي “داعش”.
الآن، لم يعد إبراهيم يتنقل ليلا على الطرق المحيطة ببلدته، جلولة، في شمال شرق العراق. فهو يخشى أن يجد نفسه وسط هجمات يشنها مقاتلو “داعش”. ويقول العراقي البالغ من العمر 25 عاما ويعمل بائعا للأسماك في سوق قريب: “الشرطة والجيش لا يأتون إلى منطقتنا كثيرا الآن. وإذا حدث وأن جاؤوا، يطلق المتشددون النار عليهم”.
ويتكرر هذا الأمر نفسه عبر ممر طوله نحو 644 كيلومترا في منطقة جبلية وصحراوية تمتد من شمال العراق إلى سورية، كان التنظيم يهيمن عليها في وقت من الأوقات. وتحمل بلدات مثل جلولة آثار المعارك الضارية التي كانت قد دارت قبل نحو خمسة أعوام، ومنها مبان تحولت إلى أكوام من الركام أو امتلأت بثقوب الطلقات النارية. وتمتلئ ساحاتها برايات مرفوعة تكريما لقادة من مختلف الفصائل المسلحة سقطوا في المعارك.
نزاعات عراقية
يدور النزاع الرئيسي في بعض مناطق العراق التي يعمل فيها التنظيم بين الحكومة في بغداد وإقليم كردستان الذي يملك ثروة نفطية، وفيه منطقة استراتيجية يقول كل طرف من الطرفين إنها تابعة له.
وقد وقعت أسوأ هجمات المتشددين في العراق في الأشهر الأخيرة في هذه المناطق. وسقط العشرات من الجنود والمقاتلين الأكراد والسكان قتلى في أعمال العنف التي يعزوها المسؤولون المحليون إلى متشددين موالين للتنظيم.
ويقول المسؤول الكردي جبار ياور إن مقاتلي التنظيم يستخدمون المنطقة الحرام بين الحواجز الأمنية للجيش العراقي والأكراد والفصائل الشيعية كمكان لإعادة تجميع أنفسهم. ويضيف: “في بعض المناطق، المسافة بين الجيش العراقي والبشمركة هي 40 كم”.
وقال العقيد محمد الجبوري من قيادة عمليات صلاح الدين: “لحد هذه اللحظة ما يزال ’داعش‘ غير مسيطر (على الأرض) لكنه حسب معلوماتنا الاستخبارية يعمل ضمن مجاميع صغيرة من 10 إلى 15 عنصراً للقيام بعمليات سريعة وخاطفة والانسحاب فورا”.
وأضاف في مكالمة هاتفية مع وكالة “رويترز” أن مقاتلي التنظيم يستغلون “وجود بعض الثغرات الأمنية في مناطق انتشار القوات العراقية نتيجة لعدم تحصين مناطق التمركز بصورة جيدة… كما ينشط داعش أيضاً في مناطق تتوسط مناطق سيطرة البشمركة الكردية والجيش العراقي، وتقع في منطقة تسمى ’الحياد الأمني’ التي لا يسمح لقوات الطرفين بالدخول إليها”.
من الناحية النظرية، تعمل قوات الفصائل شبه العسكرية التابعة للدولة والمتحالفة مع إيران بالتنسيق مع الجيش العراقي، لكن بعض المسؤولين المحليين يقولون إن ذلك لا يحدث دائما.
وقال أحمد زركوش، رئيس بلدية السعدية في المنطقة المتنازع عليها: “المشكلة هي أن القادة المحليين من الجيش والفصائل… لا يعترف أحدهم أحيانا بسلطة الآخر”. وأضاف: “وهذا معناه أن مسلحي التنظيم يمكنهم العمل في الثغرات”.
ويعيش زركوش خارج المدينة التي يتولى إدارتها، ويقول إنه يخشى أن يغتاله مسلحو “داعش” إذا قضى الليل في البلدة.
سورية والحدود
على الجانب الآخر من الممر المتنازع عليه، يقول بعض المسؤولين والمحللين إن مسلحي التنظيم في سورية يستفيدون من تلك البلبلة للعمل في المناطق ذات الكثافة السكانية الخفيفة.
ويقول تشارلز ليستر، الزميل الباحث بمعهد الشرق الأوسط: “المقاتلون يدخلون القرى والبلدات ليلا ويتمتعون بمطلق الحرية في العمل ومداهمة الأماكن بحثا عن الطعام وترويع التجار وابتزاز الضرائب من السكان المحليين”. ويضيف: “لديهم انقسامات محلية كثيرة أخرى لاستغلالها لمصلحتهم، سواء كانت عرقية أو سياسية أو طائفية”.
وتسيطر قوات تابعة للحكومة السورية وفصائل تساندها إيران على الأراضي الواقعة غربي نهر الفرات، وترابط قوات كردية تدعمها الولايات المتحدة شرقي النهر، بما فيها المنطقة التي وقع فيها الهجوم على السجن.
وليست الصورة على الجانب العراقي من الحدود أقل تعقيدا؛ إذ يسيطر جنود ومقاتلون متحالفون مع إيران وتركيا وسورية والغرب على قطاعات من الأرض بحواجز أمنية لا تبعد عن بعضها بعضا سوى بضع عشرات من الأمتار.
وتسعى إيران والفصائل التي تعمل بالوكالة لحسابها للحفاظ على السيطرة على المعابر الحدودية بين العراق وسورية، والتي تعد بوابة طهران إلى سورية ولبنان وفقا لما يقوله مسؤولون غربيون وعراقيون.
ويرى المسؤولون الأميركيون أن هذه الفصائل مسؤولة عن مهاجمة قرابة 2000 جندي أميركي مرابطين في العراق وسورية لمحاربة تنظيم “داعش”. ولم تعلق طهران على ما إذا كانت ضالعة في هذه الهجمات.
في حين أن تركيا تنفذ ضربات بالطائرات المسيرة من قواعد في شمال العراق تستهدف المسلحين الأكراد الانفصاليين الذين يعملون على أي من جانبي الحدود.
الغد