يؤشر تواتر وتزايد موافقات الأطراف الإقليمية والدولية على القبول ببقاء بشار الأسد رئيساً في سورية فترة انتقالية محددة إلى وجود قرار روسي جرى إبلاغه، عبر القناة الأميركية إلى جميع المعنيين، بفتح باب المساومة حول سورية، كما أن زيارة الأسد نفسه إلى موسكو استخدمتها روسيا تبليغاً له بهذا الأمر، وكان رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ديميديف، قد قال إن بلاده تدافع عن مصالحها الوطنية، وليس من أجل بقاء شخص، فيما يشبه توضيحاً لخريطة الطريق الروسية في سورية.
تبدو هذه التحركات، وفي هذا التوقيت، طبيعية ومتناسقة مع الحملة الروسية وإمكاناتها وقدرتها، فروسيا لا تستطيع الاستمرار طويلاً في الحرب، كما أنها لا تستطيع مواجهة تحالف إقليمي قد يتشكل ضدها، خصوصاً وأن المواقف القطرية والسعودية استمرت في التصعيد، وبدأت مؤشرات تظهر على الأرض حول تشكيل بنية عسكرية لمواجهة المتغير الروسي، بما فيها من بناء تحالف عسكري من القوى الفاعلة على الأرض السورية، وقوى إقليمية مساندة، وطرق إمداد ومصادر تسليح ونوعيات أسلحة مضادة. وبالتالي، أرادت روسيا استباق هذا التطور ومنع تشكله. إضافة إلى تنامي المؤشرات عن دراسة الدول الغربية خيارات عدة للرد على التصعيد الروسي، ولعل الأهم من ذلك كله أن موسكو اكتشفت العطب الخطير في منظومة الأسد ومليشيات إيران واستحالة إصلاحه. وبالتالي، استحالة تحقيق نتائج مهمة على الأرض، والاستمرار بهذه الوضعية مغامرة وتوريط مستقبلي.
وعلى أهميته، لا يعني ذلك أن روسيا مستعدة للقبول بأي حل، بل تريد أن تبني الحل على نتائج ما تعتقد أنها حققته ميدانياً، ومحاولة تحويل مكاسب عسكرية أولية إلى رصيد سياسي، بإطلاق العملية السياسية بشروطها، حيث يعتقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنه وبعد ثلاثة أسابيع من الضربات الجوية استطاع إحداث مناخ يتيح الذهاب نحو حل سياسي (واقعي)، يتأسس على الحقائق التي صنعها على الأرض، بحيث يتسنى له إلغاء وثيقة جنيف التي ترجح دوراً أهم للمعارضة في أي حل سياسي.
على ذلك، فإن موسكو بصدد بناء موقف تفاوضي، يقوم على مناورة واسعة، تستخدم فيها جملة من الأوراق، منها استخدام ورقة بشار الأسد ورحيله. في مقابل هذه الورقة، تجهز موسكو بدائل تحقق مصالحها بدرجة كبيرة، ترتكز على عدد من أوراق القوة، وجودها الميداني، وتحالف الأقليات الذي صنعته في المنطقة، والذي جمع في مكوّناته المسيحيين، باعتبار أن بوتين يطرح نفسه قائداً للمسيحيين في مواجهة التطرف الإسلامي، والشيعة ممثلين بإيران، واليهود بالتنسيق مع إسرائيل، ومن خلال هذه الأوراق، تتطلع روسيا إلى فرض رؤيتها للحل، وتفصيله على مسطرة مصالحها.
ولعل أول عناصر تلك الرؤية الحصول على اعتراف دولي بهيمنتها على سورية، والبادي أن
لدى غالبية الأطراف الإقليمية والدولية قابلية لقبول هذا الأمر، خصوصاً وأن بعضهم ينظر إلى روسيا بوصفها المخلص من النفوذ الإيراني، على اعتبار أن روسيا صاحبة مشروع جيو استراتيجي، وليس طائفياً ومذهبياً. وبالتالي، فإن الاعتراف بالهيمنة الروسية خطوة على طريق إخراج المنطقة برمتها من الصراع المذهبي الذي لا يبدو أن هناك أفقاً لنهايته. حتى إيران نفسها لا مشكلة لديها في هذا الأمر، لأنها ستكون موجودة بنفوذها وقدراتها، ويتيح لها الوجود الروسي، المشرعن إقليمياً ودولياً، إعادة ترتيب أوراقها بهدوء، لتعرف كيف تستفيد من هذه الأوضاع.
المرجح أن بوتين سيرتكز على هذا الاعتراف، بوصفه إكمال تفويض دولي، كان قد حصل عليه سابقاً في إدارة عملية سلام بين الأطراف السورية. وبناء عليه، سيتجه إلى إعادة إنتاج بنية نظام الأسد، مع إجراء تحسينات شكلية، وعلى الهامش، من قبيل تطعيمه ببعض المعارضة، وخصوصاً التي جرى تصنيعها في مؤتمرات القاهرة وموسكو. ولتدعيم هذا التشكيل، مرجّح أن يذهب إلى صياغة دستور جديد، بعد إجراء انتخابات برلمانية تحت حكم الأسد، يقوم على أساس الفدرلة لحماية حقوق المكوّنات المذهبية والعرقية، أو بطريقة أوضح تمتين وضع الأقليات داخل النسيج السوري، وتأمين حصة وازنة لها في هيكلية صناعة القرار.
ثبت بما لا يدع مجالاً للشك، وخصوصاً بعد جولة فيينا، أن روسيا قرّرت القيام بمناورة واسعة، هدفها إشغال العالم بمبادرات وحراك دبلوماسي، لا ثمرة إيجابية له، بقدر ما هو تضييع للوقت، وتأخير أي إجراءات ميدانية وسياسية، إلى حين وضع العالم أمام الأمر الواقع. وما تقوم به روسيا هو نمط من السياسات التي تهدف إلى استهلاك الوقت، واستنزاف جهود الآخرين، حيث يراهن بوتين أن إمكاناته الصغيرة لن تقف عائقاً أمام تحقيق مصالح روسيا، وفرضها طرفاً مقرراً، ما دام يملك الصبر والإرادة والقدرة على إدارة الأزمات، ومعرفة طرق الاستفادة منها.
ستتركز خطة بوتين في المرحلة المقبلة على زيادة حدة الاستقطاب عبر استمالة أطراف إقليمية جديدة، وتحييد بعضها، وسيناور كلامياً حول وجود أطراف معتدلة داخل الطيف السوري المعارض، حتى يتمكن من ترسيخ وجوده في سورية بشكل أكبر، طالما أن العالم اعترف له بمثل هذا الدور، وهو ضمن هذه الشروط لن يترك فرصة استراتيجية، كالفرصة السورية، تفلت منه ما دام أن المخاطر التي يواجهها متدنية، والأثمان التي يدفعها تبقى في إطار الممكن والمقبول.
غازي دحمان
صحيفة العربي الجديد