لم ينكر أحد في العالم أن جماهير غفيرة من الشعب السوري خاضت ثورة سلمية بدت صاعدة وواعدة في سياق تيار الثورات العربية التي عرفت باسم الربيع العربي.
وقد كان الملمون بالشأن السوري وبالتاريخ السوري المعاصر غير المكتوب يشفقون منذ البداية على هذه الثورة من سطوة ووحشية دولة فئوية احتكرت السلطة والسلاح ومناطق القوة ومقابض النفوذ ومفاتيح الحركة على نحو غير مسبوق في المجتمعات الشمولية نفسها، وتمكنت من أن تموضع نفسها في وضع شيطاني فريد سرعان ما أصبح مطلوبا في منطقة من مناطق تكوين الصفوة الإنسانية، وهي منطقة عرفت بالقدرة على التفكير المتجدد والانعتاق المتكرر.
وقد كنت ولا أزال مقتنعا بأن سوريا ليست بالبلد الذي يمكن هزيمة شعبه بسهولة، فهي البقعة التي قدمت للعالم اللغة المكتوبة والأبجدية وتقنيات الكتابة، وليس صدفة أن هذا الذي حدث قديما قد حدث في عصرنا الراهن مرة أخرى بتكنولوجيا “الآي” على يد ستيف جوبز، وهو واحد من الضحايا المبكرين لهذا النظام المقيت الذي قامت الثورة عليه.
“سوريا ليست بالبلد الذي يمكن هزيمة شعبه بسهولة، فهي البقعة التي قدمت للعالم اللغة المكتوبة والأبجدية وتقنيات الكتابة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن دمشق تمثل أقدم مدينة مسكونة في عالمنا أدركنا مدى ما تعانيه الثورة المضادة من يأس فارض لنفسه وقوته وقتله على آلياتها”
فإذا أضفنا إلى ذلك أن دمشق تمثل أقدم مدينة مسكونة في عالمنا، وأن سوريا لا تزال حافلة برجال ذوي عقول ودأب وأمانة، وسوريات ذوات تدبير وشرف وجمال أدركنا مدى ما تعانيه الثورة المضادة من يأس فارض لنفسه وقوته وقتله على آلياتها.
من ناحية أخرى، فقد ساعدت بعض هذه المميزات البشرية والطبيعية والجغرافية حافظ الأسد -وشقيقه رفعت في مرحلة مبكرة- على أن يصنعا للنظام السوري صورة المقاول المنجز للأغراض المتعددة على نحو دقيق وحرج، وقد ضربت أمثلة متعددة على ذلك في حديثي عن طبيعة الاستثمار الأميركي في النظام السوري، وهو ما كشفت به النقاب عن الأمر الخفي العميق الذي دفع الإدارة الأميركية في النهاية إلى أن تقف في موقع أقرب كثيرا لنظام الأسد وأبعد كثيرا عن الأماني المشروعة للشعب السوري، وهو الموقف الذي بدأ يعبر عن نفسه بوضوح مستفز في الأشهر الستة الماضية.
ففي مارس/آذار 2015 كان تصريح كيري الشهير حول مفاوضة بشار إيذانا واضحا بإحساس الأميركيين بانتصار شعب سوريا الأكيد القريب، وهو النصر الذي يريد الأميركيون إنقاصه بالبحث لبشار عن منفذ أو منقذ.
وبعد تعاقب الإعلان عن حوادث الإبادة للسوريين الذين شردتهم سياسات ومراوغات أوباما وأتباعه كنت أقول للأميركيين: ماذا لو أن أوباما كان صريحا منذ مارس/آذار ٢٠١١ وقال قولا قريبا من القولة الخبيثة: إنه مع “استقرار سوريا”، أما كان هذا مؤشرا ليفهم الناس حقيقة موقفه الخفي؟ وليوفر على العالم اللهاث من أجل البغاث المسمى أسدا، لكن أوباما وخبثه المعبر عن خلق سياسي ضعيف ومتناقض بدا في النهاية وكأنه مصمم على أن ينصب المصايد لشعب متحضر عظيم.
ورغم كل هذا التآمر المدفوع والمسلح والممدود والمتجدد كان من المؤلم لشعور الإنسان والجنس البشري في أي مكان أن يتذكر أن سوريا بالذات قد فتحت أبوابها على الدوام لكل الشعوب الغربية والعربية في الحربين العالميتين، والنزاعات الأوروبية، وطوال ثورة الجزائر، وفي غزو الكويت، وفي أزمة العراق، وفي نكبتي فلسطين، وفي تقلبات الأردن، وفي حرب لبنان.
وكنت أتساءل: لماذا لا يحاول المقتدرون من هؤلاء جميعا التفكير الجاد في رد الجميل؟ وكنت أكرر القول إن السوريين هالة لأي مكان وليسوا عالة عليه! وإنهم علم وليسوا ألما، لكن كثيرين ظلوا متأثرين بتصويرات أميركية وإعلام أميركي واستشارات إستراتيجية أميركية فكانوا -ولا يزالون- يحرمون أنفسهم من الاعتراف الفعلي بانتصار الشعب السوري مفضلين المراوغة في هذا الاعتراف!
كنت كمصري أحدث نفسي: ليتني كنت صاحب الأمر فما تركت سوريا إلا استقبلته في مصر بالزهور والعطور، وكنت أقول إنه لو كان الأمر بيدي لاستأجرت سفنا ضخمة مجهزة تنقل إلى مصر من يشاؤون من السوريين من ميناء اللاذقية، فإذا لم يسمح لها بشار ونظام أوباما -المسمى النظام العالمي الجديد- أوقفت هذه السفن في أقرب نقطة من المياه الدولية إلى مياه سوريا ليأتي إليها السوريون بالزوارق والسفن الصغيرة ثم يأتون بها للإسكندرية، ولو كان الأمر بيدي لاستأجرت جسرا جويا لا يكف عن الحركة من دمشق وحلب واللاذقية إلى مطارات مصر.
“تريد إسرائيل -من بين ما تريد في سوريا- انتهاز الفرصة لتحويل “عقد الجولان” المحتل مما يسمى في القانون عقد انتفاع أو وضع يد إلى عقد تمليك، وهي لهذا تؤمن الوجود الروسي في سوريا بكل وسيلة من أجل هذا الحلم المتجدد”
وفي ظل كل هذه التشابكات اللاعبة بعنف في موازين الثائرين كنت أجدني أتوجه إليهم من يوم إلى آخر بالنصح المخلص: استمروا في جهادكم فقد انتصرتم، ولا تتركوا النصر يضيع منكم في اللحظات الأخيرة، استمروا في جهادكم ولا تتركوا النصر يضيع من أيديكم في اللحظات الأخيرة فإنه على مدى الأيام والأسابيع القليلة الماضية تأكد لدهاقنة الغرب تماما تماما أن نظام بشار قد مات تماما تماما، وأن دابة الأرض تأكل منسأته.
ولهذا السبب وحده حشدت الفضائيات بسوء نية -وبحسن نية في أحوال بسيطة- كل المخزون الإستراتيجي والراكد من الخبراء الإستراتيجيين والرواكد لمحاولة الغلوشة والشوشرة على النصر الشعبي السوري البازغ مع أنهم يعرفون أن الشمس إذا أشرقت لا تستأذن، وأنه مع إشراقة الشمس سيتبخر تدخل الروس بإذن الله، وستتبخر معهم تآمرات الأميركيين والروافض والخوافض والقوابض، وكل من أراد بأهل سوريا وسوريا سوءا.
ليس صعبا أن يدرك المثقف العادي في العالم كله أن نظام الأسد قد انتهى، وأن البحث عن ماء الوجه له أصبح شغلا شاغلا لكثير من الذين وظفوه لأغراضهم لأنهم يريدون أن يطمئنوا على أن مشروع البديل الأسدي سيقبل أداء مهمة مقاول الشيطان كما كان يؤديها بشار وأبوه من قبله.
وعلى خلاف ما تنتهي إليه الدراسات التي تنقل عن بعضها فقد كنت أتوقع مبكرا أن روسيا ستدخل إلى هناك برجاء أميركي حار وبتمويل عاجل تدبره أميركا من مصدر تمويلها المفضل، وسيكون الهدف هو وراثة أرض بشار، أما الشعار فسيكون هو الوقوف أمام ما يمثله تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أما الحقيقة فلم تعد خافية: تربص مكتوم بتركيا على حدودها، ومطب صناعي شتوي أمام الإسلام السني.
ولأن إيران تريد الانسحاب من سوريا إلى اليمن فإن أميركا تلوح بتقارير واعدة عن إمكانية مبادلة اللاذقية بعدن.
أما إسرائيل فإنها تريد انتهاز الفرصة لتحويل “عقد الجولان” مما يسمى في القانون عقد انتفاع أو وضع يد إلى عقد تمليك، وهي لهذا تؤمن الوجود الروسي في سوريا بكل وسيلة من أجل هذا الحلم المتجدد.
“ليس صعبا أن يدرك المثقف العادي أن نظام الأسد قد انتهى، وأن البحث عن ماء الوجه له أصبح شغلا شاغلا لكثير من الذين وظفوه لأغراضهم لأنهم يريدون أن يطمئنوا على أن مشروع البديل الأسدي سيقبل أداء مهمة مقاول الشيطان كما كان يؤديها بشار وأبوه”
وفي مقابل كل التآمرات الغربية على سوريا كانت هناك مبشرات ومفاجآت مبهجة:
– فإنه من حيث لا تحتسب معاهد الدراسات الأميركية جاءت نتائج انتخابات حزب العمال البريطاني بما يعني بكل صراحة أن الشعوب الأوروبية قد ملت ممارسة التوحش الذي لا مبرر له.
– ومن حيث لا يحتسب الروس والمبتهجون بقدومهم فقد انتقل عدد من الروس القادمين بمجرد وصولهم إلى تأييد داعش على الرغم من أنهم شيوعيون، وقد دق هذا الحدث جرس إنذار جديدا ومكهربا.
– ومن المبشرات الجانبية أن الخبراء الأميركيين قيموا كفاءة قوة عربية كبيرة ذهبت مؤخرا لدعم بشار بأنها صاحبة أرقام قياسية في النيران الصديقة! مع أن وجودهم لا يزيد عن تمثيل رمزي كبير للتآمر على الربيع العربي رغم كل شيء.
– كما أن التلويح لألمانيا بدور أوسع في الشرق الاوسط أصبح يرتطم مباشرة بمعاناة ألمانيا من عقليات شرق أوروبية قديمة كما حدث في المجر، إلى حد أن تقول ميركل أو من في مكانها: الله الغني عن كل شيء، وعن كل شقي بعقله.
– أما فرنسا فيبدو أنها تناور في سوريا لتستكفي في السر ببيروت خالصة لها، وكأن هولاند يقول صراحة: علمانية كاثوليكية تساوي كاثوليكية علمانية.
في بداية أكتوبر/تشرين الأول الحالي سألني صحفي أميركي عما وصل إليه الموقف في سوريا فقلت له إنه في جوهره: غل قاد إلى غباء، وغباء قاد إلى غرور.
فقال: وماذا عن موقف اللاعبين الأساسيين؟ فقلت: أمريكا تتعامى، وروسيا تتمادى، وإيران تتفادى، وإسرائيل تتهادى.
قال: واللاعبون العرب؟ قلت: أقربهم يتلمظ، وبعضهم ينفق عنادا، والبعض ينفق مساومة، وعبادي العراق قد اختلطت أوراقه.
محمد الجوادي
المصدر : الجزيرة