تبدو الدبلوماسية الروسية الفظة المستخدمة مع الخصوم و«الحلفاء» سعيا مستمرا من المسؤولين الكبار الروس، لتقليد أساليب الرئيس فلاديمير بوتين التي ترتكز على ترهيب مقابليه عبر إطلاق تهديدات مخيفة واضحة، أو عبر السخرية المبطنة، أو عبر أساليب رمزية أخرى، تؤدي فيها طريقة المصافحة، أو الجلوس، أو النظر، أو المكان ومحتوياته، أدوارا مطلوبة لتحقيق ذاك الترهيب وتحويله إلى مكاسب سياسية.
كان آخر تلك الوقائع جلوس الرئيسين الروسي والفرنسي على طاولة طويلة جدا، وهو إجراء عزاه الروس إلى رفض إيمانويل ماكرون تقديم مسحة للتأكد من خلوه من فيروس كورونا. الإليزيه فسّر الأمر بعدم رغبة ماكرون بإعطاء الروس فرصة فحص حمضه النووي، وردّ الكرملين على هذا الشكّ في نواياه «العلمية» بفرض إجراءات تباعد اجتماعي بين الزعيمين.
وردا على دعوات وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس موسكو لاعتماد الدبلوماسية بدل التهديد قال نظيرها الروسي، سيرغي لافروف، إنها كانت أشبه بصماء وبكماء، وأن روسيا «كانت تختار الدبلوماسية طوال هذه السنوات بينما لا يفعل الغرب شيئا سوى تهديد موسكو».
«التهديد» الذي تتحدث عنه موسكو، هو في حصول أوكرانيا على مقوّمات للدفاع عن نفسها. التهديد بهذا «التهديد» يتحقق بضمان وجود البلدان المحيطة بروسيا تحت رحمتها العسكرية ونفوذها الأمني والسياسي.
يلغي هذا التعريف سيادات الدول المحيطة بروسيا، ويظهر اختيار شعوبها لنظم سياسية ديمقراطية أو محاولة الدفاع عن نفسها كخطر يجب القضاء عليه، وهو ما حصل بهجوم روسيا عام 2014 الذي احتلت خلاله شبه جزيرة القرم ومناطق في شرق أوكرانيا.
لا يتحقق «ضمان أمن روسيا» حسب التعريف المذكور، إلا بمحاربة أي نظام ديمقراطي قريب جغرافيا من روسيا، وبمحاولة توسيع نفوذها العسكري والأمني، كما نرى في الحالة الأوكرانية، والسورية، وفي ليبيا ومالي والسودان، وكذلك بالجاهزية الدائمة للتحرك دفاعا عن أنظمة دكتاتورية، كما حصل في كازاخستان مؤخرا. يلغي هذا التوسع العسكري والأمني، عبر القارّات، ودعم الأنظمة الدكتاتورية في كل مكان، المنطق الجغرافي الذي تؤسس عليه موسكو علاقتها مع جوارها، فالمطلوب هو تعميم النفوذ، ومنع الضعفاء من الدفاع عن أنفسهم.
يذكّر هذا التعريف طبعا بحكاية «ضمان أمن إسرائيل» الذي يعني احتلال أراضي الفلسطينيين، وكذلك الاحتلالات التي وقعت لمناطق في سوريا والأردن ومصر، والتدخّل العسكري، أكثر من مرة في لبنان، وكذلك التدخّل الأمني والسياسي في المنطقة العربية وأفريقيا والعالم، وفي دعم الأنظمة الدكتاتورية العربية وتقديم الدعم والسند والنصائح لها، ومحاربة الثورات والحراكات الشعبية العربية.
مفيد هنا التذكير بمذكرة بودابست، التي وقعتها روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة عام 1994، وقدمت فيها موسكو ضمانات بعدم استخدام القوة ضد أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان على أن تقوم هذه الدول بالتخلي عن أسلحتها النووية، وقد مزقت موسكو، عمليا، هذه الضمانات، باحتلالها القرم. لا عجب، والحالة هذه، أن تخاف الدول المحيطة بروسيا، وتتوقع أن يكون ثمن التنازل لها في أوكرانيا، هو إمكان تطبيق السيناريو نفسه لاحقا مع دول قريبة جغرافيا من روسيا.
يفسر هذا السياق التاريخي عدم قدرة الدول الغربية على التسليم بمطلب روسيا الحقيقي: إعادة أوكرانيا إلى دائرة نفوذ موسكو.
يعني ذلك، عمليا، التسليم سلما بما يحتاج إلى حرب لتنفيذه: إنهاء نظام سياسي ديمقراطي حليف للغرب، وإعدام سيادة دولة مستقلة، وإقرار بحق روسيا الدائم بالتوسع، على الأغلب باستخدام السيناريو نفسه، والحجج نفسها.
القدس العربي